
منظومة القيم بين أصالة الإنسان وتحديات العصر
عبير سماحي
المقدمة:
القيم هي الركيزة الأساسية التي يقوم عليها وجود الإنسان وسلوكه في هذا الكون، وهي البوصلة التي توجه فكره وفعله نحو الخير والعدل والحق. ومنذ فجر التاريخ، ارتبطت القيم بأصالة الإنسان، فكانت انعكاسًا لفطرته السليمة واستعداده الداخلي للتمييز بين الصواب والخطأ. ومع تطور الحضارة وتسارع التغيرات، باتت القيم تواجه تحديات غير مسبوقة تهدد استقرارها وتماسكها. في ظل هذا الواقع، يظهر المنظور الديني كإطار شامل يربط بين فطرة الإنسان وأصالة القيم، ويقدم إجابات حول كيفية التمسك بها في عصر متغير.
أولًا: أصالة القيم في فطرة الإنسان:
من منظور ديني، فإن الإنسان قد فُطر على قيم عليا تسكن في كيانه منذ ولادته. قال الله تعالى:
“فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا” (الروم: 30)، وهي إشارة صريحة إلى أن هناك منظومة قيمية مغروسة في أصل الإنسان، مثل الحق، والخير، والعدل، والرحمة، والصدق.
وتشير الدراسات التربوية إلى أن القيم الأخلاقية هي مكون فطري لدى الإنسان، لكنها تحتاج إلى بيئة داعمة لتزدهر وتنمو.
ثانيًا: مرجعية القيم في الإسلام:
يرى الإسلام أن القيم ليست مفصولة عن العقيدة، بل هي تجليات عملية للإيمان. فالعدل، مثلاً، ليس مجرد خلق محمود، بل هو أمر إلهي:
“إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ” (النحل: 90).
والصدق أُمر به: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ” (التوبة: 119).
وتؤكد الأدبيات الإسلامية أن منظومة القيم تُشكّل جوهر الدين، وبدونها لا يتحقق المقصد الشرعي من العبادات والمعاملات.
ثالثًا: تحديات العصر وتأثيرها على القيم:
رغم وضوح المنظومة القيمية في الإسلام وفي الفطرة الإنسانية، إلا أن العصر الحديث جاء بتحديات جديدة هزت ثبات هذه القيم:
1. العولمة وثقافة الاستهلاك:
فرضت العولمة أنماطًا من التفكير والعيش تتسم بالمادية والنفعية، حيث طغت المصالح على المبادئ، وأصبحت القيم خاضعة لمعايير السوق والربح.
2. الثورة الرقمية وتفكك المعنى:
في زمن التواصل الاجتماعي، أصبح الإنسان يعيش في عالم افتراضي يهيمن عليه التشتت، والسرعة، وتعدد الهويات. هذا التغير جعل القيم عرضة للتمييع، حيث بات التفاخر والسطحية معيارًا للقبول.
3. النسبية الأخلاقية:
ظهور النزعة النسبية، حيث يُنظر إلى القيم على أنها متغيرة، يتعارض مع الرؤية الدينية التي تعتبر القيم ثوابت مطلقة من عند الله .
رغم التحديات، لا يزال هناك أمل في إعادة إحياء منظومة القيم، لأنها كامنة في جوهر الإنسان. وإذا أُحسن استثمار التربية الدينية، والوعي المجتمعي، يمكن أن تصبح القيم جسرًا بين الأصالة والمعاصرة، وبين الدين والعلم، وبين الفرد والمجتمع.
رابعًا: كيف نحمي منظومة القيم؟
1. الوعي بالهوية القيمية:
يجب على الإنسان أن يدرك أن القيم ليست عبئًا تقليديًا، بل هي جوهر وجوده، وبدونها يفقد الإنسان إنسانيته. فالإسلام يربط بين القيم والنجاح في الدنيا والآخرة، وهذا الوعي يعزز التمسك بها.
2. تجديد الخطاب القيمي بلغة العصر:
من المهم أن تُقدَّم القيم بأساليب معاصرة ولغة قريبة من الشباب، مع توظيف الوسائل الإعلامية والتربوية الحديثة، دون المساس بجوهر القيم.
3. القدوة الصالحة والتربية المستمرة:
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” .
فالقدوة الحقيقية تترسخ في السلوك، وليست مجرد وعظ نظري.
خامسًا: أصالة القيم كركيزة لبناء مستقبل إنساني:
رغم التحديات، لا يزال هناك أمل في إعادة إحياء منظومة القيم، لأنها كامنة في جوهر الإنسان. وإذا أُحسن استثمار التربية الدينية، والوعي المجتمعي، يمكن أن تصبح القيم جسرًا بين الأصالة والمعاصرة، وبين الدين والعلم، وبين الفرد والمجتمع.
والمطلوب أن نُخرج القيم من النظريات إلى واقع الحياة، من خلال ربطها بالقرار اليومي، والعلاقة الاجتماعية، وأساليب العمل، ومناهج التعليم في هذا العصر.
الخاتمة:
منظومة القيم ليست ترفًا فكريًا أو شعارات مثالية، بل هي عنوان الإنسان في كل زمان ومكان. من منظور ديني، القيم أصيلة لأنها تنبع من الفطرة، وتكتسب قوتها من الوحي. ومع تحديات العصر، فإن مسؤوليتنا الفكرية والدينية تحتم علينا أن نعيد الاعتبار للقيم كإطار للحياة، وموجه للضمير، وضمان لمستقبل كريم.


أشكر مؤسسة غراس للإنتاج الفكري على نشر هذا المقال ، وعلى جهودها المميزة في دعم الإبداع ونشر الفكر الهادف.
آمل أن يجد القرّاء في هذه المقالة ما ينفعهم، وأن تسهم في إثراء النقاش حول منظومة القيم في عالمنا المعاصر.