المقالات

جدليّة الخطر الصهيوني والخطر الإيراني والواجب حالياً في هذه المعركة

د. نواف هايل تكروري

في هذه الظروف الصعبة التي نعيشها، وفي ظلّ العربدة الصهيونية في منطقتنا، والإعلان الصهيوني الصريح عن إرادة تغيير المنطقة على وجهٍ يخضعها لسيادته، سعياً لتحقيق حلم “إسرائيل الكبرى” كما يراها الكيان الصهيوني وحلفاؤه، فإنه يجدر بنا أن نتوقّف مع الموقف المطلوب شرعاً وسياسةً من الحرب الدائرة بين إيران والكيان الصّهيوني، وفق المصالح المعتبرة شرعاً، وما هو المطلوب من المسلمين في هذا الإطار أفراداً وعلماء وحكومات ودولاً.

كثيرًا ما تتحكّم في نظرتنا إلى هذه المسألة رؤيتنا إلى كلٍّ من الطرفين وما ألحقاه بالمنطقة من مآسٍ، ومما لا شكّ فيه أنّ كلاً من إيران والكيان الصهيوني قد ألحقا ببلاد المسلمين أضرارًا جسامًا، إذ أعلنت إيران سيطرتها على أربع عواصم عربية وخضوع هذه العواصم لها وقتئذٍ، ولا شك أنها عاثت فسادًا في بلادنا، وبالمقابل كان لها مواقف إيجابية من جهاد أهلنا في فلسطين، في إطار مصالحها في المنطقة؛ إلا أن قدرات إيران على ممارسة هذا الدور العدواني الذي مارسته، في انحسارٍ بحمد الله تعالى، فهي أُخرجت من سوريا، وضعف دورها في كلٍّ من لبنان والعراق، وإنْ بقي لها نفوذ يسير غير منعدم.

وأما الكيان الصهيوني فمعلوم أنه كيان يقوم على الغصب والعدوان والإحلال فلا وجود له من حيث الأصل إلا على أرضنا ومقدساتنا، فهو يحتلّ فلسطين كلّها وأجزاء من سوريا ولبنان، ويهيمن على المنطقة، ويشنّ حربًا إجرامية على أهلنا في غزة خاصة منذ ما يقارب سنتين، وعلى كلّ فلسطين عامة، ويدنس مسرى رسول الله ﷺ، ويُعلن قادته إرادتهم تغيير المنطقة بما يخضعها لسيطرتهم ونفوذهم، وهو كذلك مدعوم من قوى الشرّ في العالم، وعلى رأسها أمريكا، وهو الآن يشنّ حربًا عدوانية على إيران، ويقصف سوريا، ويستبيح أرضها وسماءها يدخلها ويقتل من أهلها ويأسر منهم كما يحلو له، كما يحصل في هذه الأيّام في قرى القنيطرة وريف درعا الغربي، وكذلك يفعل مع لبنان، ويعلن أن هذا ليس منتهى مراده، بل يريد السيطرة على المنطقة برمّتها، فهو يتوعّد باكستان وبرنامجها النووي، وتركيا، إذ لا يرى حقًا في الوجود إلا لكيانه القائم على الغصب والعدوان.

أما إيران، فإذا تمكنت من كسر هذا العدو – إن شاء الله – فربما يكون لها تفكير في التوسع ومشروع في ذلك، لكنها عاجزة، ولا تقدر، لأنها تواجه محيطًا معاديًا لها بالكامل

ونحن نرى أن كثيراً من المواقف والمقالات والتغريدات والبيانات التي تصدر من العلماء والمفكرين والكتّاب، وما نراه من تفاعل بعض بلاد المسلمين في الفضاء الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعيّ؛ تحكمها النظرة إلى التاريخ القريب وجرائم كلا الفريقين، لذلك نجد أن الكثيرين يتحدثون عن عدوّين يتحطّم بعضهما على بعض، وينظرون إليهما بالسويّة، وكأن الأمر لا يعنينا، بل كأنها فرصة لنا، فيتخيّلون أو يدعون ويضرعون إلى الله تعالى بأن “يضرب الظالمين بالظالمين، ويُخرجنا من بينهم سالمين”.

فالسؤال المطروح: هل سنخرج سالمين وفق المعطيات القائمة؟ أم أننا في قلب المعركة شئنا أم أبينا؟ وهل حقًّا أن الخطر واحد، وأنّ الموقف المطلوب هو الحياد؟ وأننا أمام فرصة تناطح وتطاحن بين عدوّين ونحن الكاسبون من تناطحهما وتطاحنهما؟ أم أن الأمر أخطر من ذلك بكثير، وأنّ الذي يضرب إيران اليوم قد وضعنا على أجندته، وليس أمامه إلا أن يتخلّص منها ليثني بأخرى من بلادنا؟

وفي هذا الصدد، فلا بد أن نُذكّر أن التاريخ بمآسيه لا يُنسى، ولا يجوز أن يُنسى، ولكن عندما يُستحضر في أوقاتٍ قد يكون فيها عائقًا عن اتخاذ الموقف الذي يحمي مصلحة المستقبل، يكون النظر قد وقع في خلل في منهجيّة التعامل مع الأحداث.

فإنه وإن لم يُطلب من أحد أن ينسى ما فعلته إيران في أي بلد من بلاد أهل السنة، إلا أنّ النظر في هذه المعركة التي بدأها الكيان الصهيوني المجرم الظالم القاتل ضد إيران، وردّت إيران على جرائمه، لا ينبغي أن يكون إلى الماضي، بل ينبغي أن يكون إلى المستقبل، فلو انتصر هذا الكيان – لا قدّر الله – فالطريق أمامه مفتوح: لمصر وسوريا والأردن وباكستان وتركيا وغيرها، وفق ترتيباته بالأولويات، بل وفق تصريحات قادته. وهو مدعوم من أمريكا وأوروبا، وبالتالي فإن خطره سيكون واقعًا مباشرًا.

وأقول خاصة لأهلنا في سوريا – لأنهم الأكثر استحضارًا للتاريخ في هذا الموضوع، وحقهم في استشعارهم الظلم الكبير الذي وقع عليهم من إيران مفهوم ومقدّر – ولكن لا ينبغي الوقوف في تقييم هذا الحدث عند هذا الأمر فحسب؛ فإن الكيان إذا انتصر – لا قدّر الله – فخطره قادم، ولسوريا أولوية واضحة في الاحتلال والعدوان، وهذا هو الاحتمال الأرجح، أو بالتطبيع، وهو لا يقلّ خطرًا عن الاحتمال الأول.

أما إيران، فإذا تمكنت من كسر هذا العدو – إن شاء الله – فربما يكون لها تفكير في التوسع ومشروع في ذلك، لكنها عاجزة، ولا تقدر، لأنها تواجه محيطًا معاديًا لها بالكامل.

ومن هنا، أرى أن على المسلمين جميعًا – وأدعو العلماء، وهم يعبّئون ويحرّكون ويحرضون – أن يكون وعيهم تامًّا، وألا يدفعهم الألم والغضب إلى تبني مواقف تكون أحيانًا أقرب إلى الكيان الصهيوني وإن لم يقصدوا ذلك.

يجب أن تكون نظرتنا لمصالح هذه الأمة واقعية، لا محكومة بالعواطف، وينبغي ألا نتوقف عند تلك العواطف طويلاً. وأؤكد: لستُ أدعو أحدًا إلى نسيان دماء أبنائه، ولا أعراض نسائه، ولا حقوقه، ولكنّ المصلحة التي ينبغي الانتباه لها في هذا الموضع تتعلق بوجود الجميع على الإطلاق.

وأرى أن بلادنا جميعًا مدعوّة إلى تحالف حقيقي يضم باكستان، وإيران، وإندونيسيا، وماليزيا، وأفغانستان، وتركيا، والسعودية، ومصر، وسائر بلاد العرب والمسلمين، وعلينا أن نتداعى ونتدارس مصالحنا المشتركة لتشكيل تحالف قوي يصدّ الهجمة الأمريكية الصهيونية، ويحفظ بلادنا.

ولو نظرنا إلى أقطارنا منفردة، فإنّ كلّ بلد منها مهدّد من هذا الكيان الصهيوني إذا تمكّن، لأنه مدعوم ولا يُخفي طموحه في تغيير وجه المنطقة بكاملها.

فنحن بحاجة إلى مزيد من الوعي، ومراجعةٍ أعمق لمواقفنا في مثل هذه الظروف، وعلى الدول أن تدرك أن عليها اليوم أن تقف في وجه الكيان الصهيوني وعربدته وطغيانه، فهو لا يقصد إيران وحدها، كما لا يقصد فلسطين وحدها، ولن يتوقف عند أيّ بلدٍ من بلادنا، بل يريد السيطرة على منطقتنا كاملة، وتدمير أمتنا برمّتها.

فلنكن على وعي، ولنراجع مواقفنا وتصريحاتنا وتعبئتنا، وأقول للعلماء الذين يصدرون المواقف: فكّروا جيداً، فإنكم تحرّكون شباباً، وتؤثرون في أجيال، فلا تسوقوا شبابنا إلى حتفهم، ولا إلى دعم عدوّهم من حيث لا يشعرون.

بل حرّكوا الأمة والشباب لمواجهة الخطر القادم؛ فإن ذلك ممكن حال إدراكنا لمهمتنا على الوجه الصحيح، وحذار من استحضار القصاص للماضي، فإنه ليس بمتاحٍ في وقتنا، ومعلوم أنه ليس وقته، وإن القصاص لدمائنا وأعراضنا لن يكون بحرب صهيونية.

فنحن لسنا في موضع الحساب على الماضي الذي لا يجوز أن ننساه، بل في موضع حماية المستقبل، والنظر إلى المصلحة بجلب ما أمكن منها، ودرء المفسدة الداهمة التي ينبغي التصدي لها.

ومن هنا، فلا ينبغي القول بالمساواة في هذه المسألة بين إيران والكيان الصهيوني في الحرب القائمة الآن، إذ إنّ العدو الصهيوني إن تمكّن أكمل مشروعه فينا جميعًا، بينما إيران، إن تمكّنت أو صدّت العدوان، فهي عاجزة عن تحقيق ما ترغب به، لأنها مجابهة من قوى الشر ذاتها، بينما الكيان الصهيوني، إن انتصر – لا قدّر الله – فهو قادرٌ على الاستمرار، ولذا فلابد من التصدي له، والاجتماع حتى مع بعض الخصوم لمواجهته، ولا مجال للحياد.

وأرى أن بلادنا جميعًا مدعوّة إلى تحالف حقيقي يضم باكستان، وإيران، وإندونيسيا، وماليزيا، وأفغانستان، وتركيا، والسعودية، ومصر، وسائر بلاد العرب والمسلمين، وعلينا أن نتداعى ونتدارس مصالحنا المشتركة لتشكيل تحالف قوي يصدّ الهجمة الأمريكية الصهيونية، ويحفظ بلادنا.

وعلى شعوبنا، إن أرادت الحفاظ على وجودها، أن تضغط بهذا الاتجاه ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، وألا تنغمس في عواطف تجعلها تتخذ مواقف تضرّ بها قبل أن تضرّ عدوها في هذا الظرف الحرج.

وقد ذكر الإمام السرخسي رحمه الله تعالى أن المسلم إذا كان في بلد من بلاد الكفر، فعدا عليه أهل كفر آخرون، لم يجز له أن يقاتل أهل الكفر مع أهل الكفر، إلا أن يرى مصلحة المسلمين تقتضي ذلك، فيقاتل لدواعي مصالح المسلمين.

وإن كان الشاهد ليس حرفيًّا، إلا أنه يقرّب الفكرة؛ فلا مجال للحياد في هذه المعركة أبداً، ومن باب أولى لا مجال لأن نكون مع الكيان الصهيوني، ولو بأمانينا ودعائنا، بل علينا أن نكون مع حرية بلادنا، وحماية مصالحنا، بوعي عميق.

غراس للإنتاج الفكري

مركز غراس للإنتاج الفكر ي هو مؤسسة غير ربحية معنية بتحرير وتناول القضايا الفكرية والاجتماعية المعاصرة، تأسست في أكتوبر/تشرين الأول لعام 2023 ، والموافق ربيع الأول 1445 للهجرة.

غراس للإنتاج الفكري

مركز غراس للإنتاج الفكر ي هو مؤسسة غير ربحية معنية بتحرير وتناول القضايا الفكرية والاجتماعية… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى