
الخطبة الموحدة.. معول هدمٍ في يد الدول العلمانية
من الذكريات التي لا أنساها اجتماع العائلة الكبير بعد صلاة الجمعة، ومن أجمل الفقرات التي كانت تشعرني بالسعادة فقرة الحديث عن موضوع الخطبة في كل مسجد. فيبدأ الأول فيقول: “لقد تحدث الشيخ الفلاني عن صلة الرحم”، ويقول الثاني: “في مسجدنا كانت الخطبة عن غض البصر”، وعلى هذا المنوال يبدأ الحديث بطريقة راقيةٍ ونافعةٍ عن الأفكار، ثم يلتوي الحديث تدريجيًا ليصل إلى أملاك كل شيخٍ وأخطائه وعثراته، وتنتهي الفقرة أخيراً بالحديث عن المشكلة التي جرت بينه وبين زوجته وجيرانها…
كانت فقرة الغِيبة هذه، التي تتلو خطبة الجمعة ممتعةً جدًا لطفلٍ مثلي في وقتها، وقد حرمتني قوانين الدول الحديثة اليوم من معايشة تلك الذكريات من خلال ما تسميه الخطبة الموحدة، حيث يحمل الشيخ الورقة التي تأتيه من وزارة الأوقاف، ويقرأها كما هي، بأداءٍ ببغائيٍّ باردٍ كمذيع أخبارٍ يقرأ خبرَ تعثُّر عنزةٍ في التونغو.
المذيع فعليًا غير مهتمٍّ أبدًا بالعنزة، ولا بباقي الحيوانات، وهو أيضًا غير مهتمٍّ بالتونغو، ولطالما كان يظن أن التونغو والكونغو هما اسمان لدولةٍ واحدةٍ اختلف الناس في لفظها! بل إنه لا يجد أي فائدةٍ للخبر بأسره، إلا أنه سوف يقرأ الخبر ويقوم بدوره أيًّا يكن…
وهذه هي الحال مع الخطبة الموحدة في بعض بلدان المسلمين اليوم، خطبةٌ قصيرةٌ منزوعةُ الدسم، على لسان شيخٍ لا يُبالي لا بالخطبة ولا بالمصلين، والمصلون أيضًا لا يُبالون لا بالخطبة ولا بالإمام، والقصة كلها لا تعدو كونها أدوارًا يؤديها الجميع لكي يسقطَ الفرض عنهم ويشعروا بالإنجاز.
لقد صارت خطبة الجمعة أشبه بخطابات السياسيين، (محسوبةٌ بالكلمة..مكررةٌ.. ولا يسمعها أحد) وما وصل الحال بخطبة الجمعة إلى هنا إلا لأن الدول الحديثة تكره كل خروجٍ عن النص، يخيفها كل ارتحال، ويرعبها كل إبداع
ولكن… كيف أسقطت الخطبة الموحدة شريعةً عظيمة من شرائع الدين؟
إن العبارة القائلة: “إن العلمانية تريد منا أن نمارس الدين في المساجد ودور العبادة وحسب، دون أن نقحمه في باقي مناحي الحياة” باتت عبارةً قديمةً لا تعبّر عن مدى تغوُّل الدولة الذي لا حدود له! إن الدول العلمانية اليوم تريد أن تتحكم حتى في هذه المساحة الصغيرة التي منحتها من قبلُ للأديان، وكما سيطرت على الخطاب الموجَّه للطلاب من خلال المدارس والجامعات، والخطاب الموجَّه للعوام عبر وسائل الإعلام، وخطاب الجنود عبر الثكنات العسكرية، سيطرت على الخطاب الموجَّه للمتدينين من خلال منبر الخطبة الموحدة. وإليك ما أعنيه بكلامي…
لقد تتبعتُ مواضيع خطب الجمعة الموحدة في إحدى الدول لمدة سنةٍ كاملة، فوجدت خطبًا عن الأخلاق، وبرّ الوالدين، والإسراء والمعراج، والوطن، والرحمة، والتوبة، واليأس، والقمار، وصلاة الجمعة، والمولد النبوي، وأخلاق النبي، وعن الأمانة والعِلم والأعياد، والكثير من المواضيع الأخرى… ولا أبالغ إن قلت لك: ستجد كل المواضيع التي تساهم في تدجين الإنسان المسلم، وجعله مواطنًا صالحًا تتمناه كل الحكومات المستبدة ويسيل له لعاب الدول الحديثة!
ومع كل هذا التنويع في مواضيع الخطب لن تجد خطبةً عن الرِّبا، مع أنهم في بلدٍ تتجاوز عتبة الفوائد البنكية فيه الأربعين بالمئة! ولن تجد خطبةً تتحدث عن الزنا، في بلدٍ تعطي فيه الحكومة التراخيص لبيوت العهارة والزنا! ولا عن الخمور، في بلدٍ تُباع فيه المسكرات جِهارًا نهارًا! والمشكلة أن الدعاة لا يفعلون ذلك تجنبًا لإثارة الفتن، أو مسايرةً لرؤية الحاكم، وإنما الحكومة هي التي تطرح الرؤية كاملةً، وتكتب خطبة الجمعة بما يناسبها ولا يعارض سياستها، ويدها في هذه المسألة هي العُليا، والعلماء والأئمة بات دورهم وظيفيًّا بحتًا في شريعةٍ من أهم شرائع الإسلام.
لقد صارت خطبة الجمعة أشبه بخطابات السياسيين، (محسوبةٌ بالكلمة..مكررةٌ.. ولا يسمعها أحد) وما وصل الحال بخطبة الجمعة إلى هنا إلا لأن الدول الحديثة تكره كل خروجٍ عن النص، يخيفها كل ارتحال، ويرعبها كل إبداع، وترتجف أوصالها من الاحتمالات، هي فرعونٌ يرى في كل من حولَه موسى محتملاً، ولذا يقتلون الجُمل قبل أن تصير خطباً، والكلمات قبل أن تصبح عبارات، بل إنهم يقتلون الحروف قبل اجتماعها، ومن جميل ما سمعت في هذا المعنى قول الشاعر:
لو أزعجهتم من الحرفِ استداراتُه
لو أنَّه النونُ في القرآنِ ينكشطُ
الخطب العبقريات الخالدات، التي لا تُنسج من حروف، ولا تُؤلَّف من كلمات، ولكنها تُنسج من خيوط النور الذي يُضيء طريق الحق لكل قلب، وتُحاك من أسلاك النار التي تبعث لَهَب الحماسة في كل نفس
“لقد كان لخطبة الجمعة منذ عصر النبوة والخلفاء الراشدين مكانةٌ لا تُضاهيها مكانة؛ ففيها كانت تُذاع القرارات وتُحرَّك الجيوش، وكانت الخطبة أيضًا تنبعُ من روح المجتمع الذي تُقام فيه، ومن الأحداث التي تدور بين أهله، فتُعالج مشكلاتهم، وتُقَوِّمُ انحرافاتهم، وتُذكرُّهم بأعمال البرِّ التي نسوها، وتُنهاهم عن المنكرات التي فُشِتْ فيهم. حتى اشتهرت على ألسنة الناس مقولة: “من نزل بأرضٍ تفشَّى فيها الزِّنا، فحدَّث الناس عن حُرمة الرِّبا، فقد خان!”
ومما يدلُّ على أهمية الخطبة أن النبي ﷺ كان يتولاها بنفسه، ولا يوكِلها لأحد، وأنها من خصائص الأمة المحمدية، وأنها الفرض الذي لا يُسمح للمسلمين بتأديته في البيت دون عذر، وأنه يَحرُم الكلام فيها ولو أن يقول المرء لأخيه: “صُه!”، وأنه يَسقُط أجر من لعب بحصى المسجد، وأنه يُختَمُ على قلب من غاب عنها ثلاث مراتٍ متتالية.
ومن جميل ما ذكره الطنطاوي عن الخطبة في كتابه “هُتاف المجد”:
“إني أحاول أن ألقي اليوم خطبة، فلا تقولوا قد شبعنا من الخطب! إنكم قد شبعتم من الكلام الفارغ الذي يلقيه أمثالي من مساكين الأدباء، أما الخُطب فلم تسمعوها إلا قليلًا، الخطب العبقريات الخالدات، التي لا تُنسج من حروف، ولا تُؤلَّف من كلمات، ولكنها تُنسج من خيوط النور الذي يُضيء طريق الحق لكل قلب، وتُحاك من أسلاك النار التي تبعث لَهَب الحماسة في كل نفس، ولا تقولوا: وماذا تصنع الخطب؟!”