
إسرائيل الكبرى: حقيقة أم وهم؟
في العالم العربي الآن يتحدّثون بخوفٍ وحذر عن “إسرائيل الكبرى”، ويعرضون خارطتها المزعومة بمناسبة وبغير مناسبة، لكنهم نسوا أنّه لا أمريكا ولا إسرائيل تحتاج إلى هذه السيطرة والتمدّد المباشر في بحر من الشعوب العربية والمسلمة ما دامت هناك حكومات وفيّة تمارس مهمّتها على أفضل وجه، وتحصل على شرعيةٍ وانقيادٍ من تلك الشعوب بما يُسكّن خاطرها ويُطمئن بالَها.
ما تمدّد في بلادنا العربية والمسلمة منذ أكثر من قرنٍ كان أخطر من أي “إسرائيل كبرى”، لقد كان منظومةً متكاملةً من الدولة والولاءات الوطنية والتشريعات العلمانية والممارسات الرأسمالية والإدارات الفاسدة، تلك هي الجيوش “المادية” و”المفاهيمية” التي تربض على خارطة بلادنا الآن وتتمدّد، وتَحُول دون كلّ نهوض أو قيام لهذه الأمّة!
وإذا كانت هناك دلالة لشيوع شعار “إسرائيل الكبرى” بين الناشطين والجنود الصهاينة اليوم كما ترصد لنا وسائل الإعلام، فهي أنّ هذه الأمة التي ينتمي إليها هؤلاء الجنود أمّة لم تمتْ ولم تُقَولَبْ تمامًا كما حدث لشعوبنا العربية التي استسلمت للهويات القطرية الوطنية، فلن تجد من يتحدث عن “وحدة” بين البلدان العربية اليوم، أو رفضٍ للهوية الوطنية القُطرية الهزيلة، إلّا وستجد النقّاد يقفون له بالمرصاد، وبتُهَم بالمثالية والخيال.. أمّا القوم الآخرون، فقد كانوا يرسمون خريطة دولتهم وعلَمها قبل نشأتها بعقود، حين كانوا أقلية مستضعفة في أوروبا!
بل ستجد من يَستنكر منّا وجودَ خرائط لفلسطين “التاريخية” (يقصدون: فلسطين الانتدابية البريطانية) تضمّ “الجولان المحتلّ” لأنّها أراض تابعة لدولة أخرى، أي سوريا الانتدابية الفرنسية. وأمثال هؤلاء يتمسّكون بالخرائط التي رسمها المحتلّ الأوروبي الذي عاث في بلادنا قتلًا وفسادًا ودمارًا كما لو كانت من أصول الدين والقيم والأخلاق، وكأنّ خارطة فلسطين البريطانية التي رسمتها بريطانيا (للمشروع الصهيوني وليس لنا) هي شيء مقدّس لا يجوز العبث به.
جزءٌ من فشلنا يكمن في أننا ما زلنا نفكّر انطلاقًا من الأسس التي وضعها الاستعمار الغربي لبلادنا قبل أكثر من قرن، وجزء من نجاح المشروع الصهيوني نابع من كونه يحمل طموحًا أوسع من الواقع يمثّل “محرّكًا” أو “رافعة” للمشروع، حتى لو كان الحديث عنه الآن غير واقعي بمعايير الجغرافيا السياسية والسياسة الدولية والديمغرافيا وغيرها من المعطيات.
والواقع أنّه في اللحظة التي ينكفئ فيها المشروع الصهيوني على ذاته، وتتقزّم طموحاته إلى مجرّد “البقاء” أو الحفاظ على حدود 1948 فسوف تبدأ قصّة اضمحلاله كما هي قصّة اضمحلال كل دولة قامت وانتهتْ في التاريخ. ومن هنا نعلم أنّ وجود المشروع المتجاوز في أهدافه للواقع الحالي هو أحد أهمّ أسباب النهوض لأيّ أمّة من الأمم.
والمأساة أنّنا بدأنا مشاريعَنا الوطنية التي صُنعتْ على أعين الاستعمار بطموحات هزيلة، ومفاهيم هشّة غير متماسكة، وهي أضيق من قدراتنا وطاقاتها باعتبارنا {خيرَ أمّة أخرجتْ للنّاس}
والمأساة أنّنا بدأنا مشاريعَنا الوطنية التي صُنعتْ على أعين الاستعمار بطموحات هزيلة، ومفاهيم هشّة غير متماسكة، وهي أضيق من قدراتنا وطاقاتها باعتبارنا {خيرَ أمّة أخرجتْ للنّاس}، ومخالفة لهويّتنا وشريعتنا، ومفرّقة لجمعنا وشملنا.. ثم نطمح بمجدٍ أو بنصر!
ماذا عن “إسرائيل الصغرى”؟
ينطلق كثيرٌ من الكتّاب والمحلّلين والإعلاميين في عالمنا العربي من ممارسة “التهويل”، كما لو أنّ الأمر مقصود لممارسة الجذب والإثارة التي تقتضيها الصناعة الإعلامية، ولكنّ هذه الممارسة تحمل من المفاسد أكثر مما تُسهم في توعية النّاس على مشروع خطير كما يزعم هؤلاء.
إنّ طريقة جمع كل التوجّهات المتطرّفة وصبّها في بوتقة خطاب إعلامي لتصوير الواقع أمرٌ ينطوي على مفاسد عدّة. فهو يضخّم صورة المشروع الصهيوني ويُخفي مواضع فشله في “إسرائيل الصغرى” إن جاز التعبير، والمقصود هنا كفاءة المشروع في كامل فلسطين الانتدابية منذ نشاطه قبل نحو قرن وحتى يومنا هذا. أو فلنقل إنّ هذا الطرح الإعلامي التهويلي لا يعرض مواضع الفشل هذه خلال سرده التهويلي لإسرائيل الكبرى، التي تشعر من هذا الخطاب أنّها باتت “قاب قوسين أو أدنى”! ومن المهم جدا أن يكون الطرح متوازنًا، يقدّم للقارئ الصورة الكاملة، ولا يبتر ما يريد وينفخ فيه ويقدّمه على أنّه كل “الواقع”، بل يُقرأ كلّ مشروع بحجمه الطبيعي ومعطياته الواقعية.
فالحديث – بنبرة استشراف الواقع القريب – عن ضمّ مناطق أخرى كلبنان وسوريا والأردن وغيرها الآن، بما فيها من كتل سكانية عربية ضخمة، هو حديث غير واقعي إطلاقًا، ولا ينسجم مع الأوضاع الحالية.
فلا بدّ في هذا المقام من سرد قصّة ضعف المشروع الصهيوني من البداية وفشله في محطّات عديدة تتعارض مع فكرة “دولة اليهود” وصورتها المثالية، وبطبيعة الحال تتعارض مع فكرة “إسرائيل الكبرى”، وأبرز هذه المحطّات: الفشل في تهجير جميع سكان فلسطين الانتدابية وإقامة دولة يهودية خالصة عليها، سواء سكان المناطق التي احتُلّت عام 1948 أو الضفّة والقطاع. فقد بقي في فلسطين الانتدابية التي تسيطر عليها إسرائيل إلى هذه اللحظة أكثر من 7 ملايين عربي معظمهم مسلمون، وهم في تعدادهم أكثر من تعداد السكّان اليهود في فلسطين الانتدابية اليوم! وهو أمر تحدّثتُ عنه عام 2016 في مقال بعنوان “المستقبل الذي تخافه إسرائيل” عالجتُ فيه هاجس الديمغرافيا. فالحديث – بنبرة استشراف الواقع القريب – عن ضمّ مناطق أخرى كلبنان وسوريا والأردن وغيرها الآن، بما فيها من كتل سكانية عربية ضخمة، هو حديث غير واقعي إطلاقًا، ولا ينسجم مع الأوضاع الحالية.
إنّ الأقرب للواقعية في هذا السياق هو الحديث عن “التهجير”، دون تهويل بطبيعة الحال، ولا الحديث عن سرديّات “ترانسفير” قسري حالية تُخطّط لسكّان الضفّة وتبدو واقعية ومرتقبة في نظر هؤلاء المحلّلين الذين لا يحملون مسؤوليّة كلماتهم وأثرها السلبي.
إنّ “التهجير الأفقي”، أي المتدرّج البطيء الذي يُبنى على استراتيجيات متنوّعة، قد يبدو أحد الحلول التي ربّما يُطوّر لها المشروع سرديّة ما، كما يحدث في غزة حيث هاجر خلال حصارها الطويل لنحو عقدٍ ونصف عشرات الآلاف من سكانها، إنْ لم يكن مئات الآلاف، وخرج بعد 7 أكتوبر 2023 عدد شبيه، وهي ليست أرقامًا سهلة. أو كما قد يحدث في الضفّة بطرق متنوّعة تتمركز حول تضييق الخناق عبر المستوطنات، وتجفيف منابع الحياة الكريمة فيها، مما يدفع شبابها إلى الهجرة بأعداد قد تبدو قليلة لو راجعناها سنويا، لكنها ستكون مفيدة لكبح جماح هذا التنامي الديمغرافي العربي المفزع للمشروع الصهيوني. والخلاصة أنّ التهجير لا ينبغي أن يكون بالضرورة بالطرق التي مورست في النكبة والنكسة.
وإذا أضفنا إلى هاجس الديمغرافيا المعطيات التالية:
- واقع الهجرة الطوعية لعدد لا بأس به من اليهود الإسرائيليين إلى خارج إسرائيل، لأسباب متنوّعة ربما يكون أبرزها “عدم الأمان” في هذه الدولة.
- الفشل في تطويع قطاع غزة رغم إدارته بين عامي 1967-2005، واللجوء إلى تفكيك مستوطنات قامت فيه لمدة طويلة، هذا وهو قطاع صغير لا يبلغ عشر معشار أي دولة من التي يتحدث هؤلاء عن احتمال ضمّ أراضيها إلى إسرائيل!
- الفشل في الحفاظ على المكتسبات في سيناء رغم ضعف النظام المصري ودخوله في التبعية الأمريكية.
- الفشل في ضمّ “المنطقة الأمنية في جنوب لبنان” أو “الحزام الأمني” الذي سيطرت عليه إسرائيل عسكريا بين 1985-2000، رغم إنشائها لميليشا لحد أو “جيش الجنوب اللبناني” الموالية لها، واضطرارها للانسحاب منه في النهاية. فهل من يفشل في ضمّ هذه المنطقة الضيّقة من بلد صغير ومفكّك وضعيف كلبنان إلى دولته يمكنه ضمّ دول عربية تقع ضمن إسرائيل الكبرى؟! وخصوصًا بعد تضخّم الديمغرافيات العربية في تلك البلدان عبر أكثر من ثلاثة عقود، وزيادة سخط مجتمعاتها تجاه المشروع الصهيوني وفشل عمليات تطبيعها.
هذه وغيرها معطيات لا بدّ من الحديث عنها عند الحديث عن مشروع إسرائيل التوسّعي، أو على الأقل الإشارة إليها وإبقائها في الذهن، ولا يجوز بأيّة حال من الأحوال إغفالها؛ لأنّ ذلك سيوقعنا في الخطاب التهويلي المؤذي للوعي الجمعي للمتلقّين، كما أنّ فيه استخفافًا بالعقول، والاستخفاف لن يولّد وعيًا على أيّة حال.
وبعد مراجعة هذه المعطيات كلّها حول ما جرى ويجري في “إسرائيل الصغرى”، سيبدو الحديث عن ولع هذه الدولة بالتمدد الآن وبناء “إسرائيل الكبرى” على حساب جاراتها حديثًا “سخيفًا” إلى حدّ بعيد، ولا يكفي أن نقول إنّه “غير واقعيّ”.
نعم، لا بأس بتناول الفكرة وإرهاصاتها وتاريخها واحتمالاتها الحالية، لكنْ بطرح متوازن يقدّمها بحجمها الطبيعي كما أسلفت، لا بعرض تهويلي يُخفي الحقائق المعارضة لها، بل قد يسهم في تحويل الأمر إلى “واقع” حين يطبّع النفوس على قبول هذا الأمر باعتباره “حقيقة” بما يلقيه في قلوبهم من قوة المشروع وجبروته وهيلمانه!
إنّ أي مزاعم تحمل رداء “بثّ الوعي” في هذا الخطاب الإعلامي هي مزاعم هشّة؛ إذ لا يمكن لبثّ الوعي أن يتحقّق دون نظرة واقعية شاملة إلى الواقع الراهن وجذوره ومآلاته، ولا أن يتحقّق بتسليط الضوء على حالة مثيرة من غير تفكير مسؤولٍ بنتائج هذا الخطاب في لاوعي المشاهد العربي.
هل يحكم المتطرّفون إسرائيل؟
وثمّة بعد آخر مهم للقضية، وهو أنّ تسليط الضوء على بعض تصريحات التيّار اليميني المتطرّف حول التمدد و”إسرائيل الكبرى” وما شابه يخفي حقيقة مهمة، وهي أنّ هذا التيار ليس هو الغالب على المشروع الصهيوني والمؤمنين به، وليس هو المحرّك الوحيد لسياسات الدولة رغم قوّة تأثيره اليوم.
إنّ المتحكّم بتمدّد المشروع الصهيوني وسياساته التوسّعية أو الانسحابية ليس التيّار المتطرّف الذي لا يكفّ عن الدعوة إلى التوسّع، بل ولا أي حكومة حالية سواءً كانت يسارية أو يمينية، بل المتحكم الأساسي منظومة دولة عميقة تعمل بتفانٍ للحفاظ على الأمن القومي الإسرائيلي، الذي قد يتحقّق من وجهة نظر هذه المؤسسات في اجتماعاتها غير الظاهرة على الإعلام في انسحاب تكتيكي من قطاع غزة كما حدث في خطة “فك الارتباط” عام 2005، وقد يتحقّق بعد نحو عشرين عامًا بخطّة تفريغ مناطق سكانية من قطاع غزة ومحاولة استغلال حالة الحرب وأحداثها وزخم الدعم الأمريكي لإعادة التموضع ووضع موطئ قدم بقوة أكبر.
إنّ لعبة التمدّد والانسحاب لدى المشروع الصهيوني محسوبة بسياسات الحفاظ على الأمن القومي، الذي يقع في جوهره الحفاظ على المشروع ومَدّه بعوامل البقاء والقوة بأكبر قدْر، ومن الصعب على إسرائيل اليوم، بحجمها الديمغرافي وقوّاتها العسكرية التي تعمل على إطفاء الحرائق في أكثر من جبهة (داخلية وخارجية) أن تقرّر في الآونة القريبة احتلال بلد عربي يُمثّل خزّانًا جديدًا من كارهيها كلبنان أو سوريا أو الأردن الذي يضمّ الحصيلة الأكبر من المهجّرين الساخطين على مشروعها في النكبة والنكسة!
وقد كانت العديد من الخطابات الصهيونية – وما زالت – ترى في الأردن “الحاوية” المثالية لاستقبال اللاجئين من غربيّ النهر، ولن يعدم الباحث تصريحات عديدة قديمة وحديثة لسياسيين وإعلاميين صهاينة يتحدثون عن هذه الميزة والمساحة الواسعة للأردن، والتي تسمح باستقبال عرب فلسطين وعيشهم بأمان وانسجام مع إخوتهم العرب في ربوع الأردن الرحبة! لكنّ التركيز – كما ذكرنا – على مسار أحادي من التصريحات هو بمنزلة الخطاب الإعلامي المضلّل الذي يتلاعب بعقول المتلقّين، ولا يقدّم لهم خلاصات من الوعي السياسي والواقعي والاستراتيجي الذي تتعطّش إليه شعوبنا، ويمثّل قطعةً غائبةً في خطابنا السياسي والإعلامي على حدّ سواء.
إنّ الخطاب اليميني المتطرّف لدى بعض شرائح السياسيين الإسرائيليين هو خطاب إعلامي في المقام الأول، يُقصد به الحفاظ على شعلة المشروع متوقّدة، وجذب الأصوات لأحزابهم في الداخل، فإسرائيل في النهاية دولة “ديمقراطية”، بمعنى أنّها خاضعة لمنظومة ديمقراطية تحفّز الخطابات الشعبوية غير المسؤولة، التي تستغل لحظات تاريخية معينة تشتعل فيها مشاعر الجمهور في اتجاهات معينة (حرب، صراع، فقر، أزمات أخرى) فتقدّم خطابا شعبويّا يضع أصحابها في دور “البطل” أو “المنقذ” الذي يُشبع تعطّش الجمهور.
وسرّ تصاعد خطاب “إسرائيل الكبرى” بين هذا التيّار اليميني المتطرّف هو استيعابه للّحظة التاريخية التي يمرّ بها المشروع الآن، فهي لحظة تحتاج إلى إبراز قوة المشروع والدولة وهيمنتها، بإزاء ضعف الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية في عموم العالم العربي حولها، وبإزاء حالة الصدمة التي أصابت المجتمع الإسرائيلي.
وهي في الوقت نفسه لحظة تحتاج إلى استيعاب قدْر كبير من مشاعر السخط المشتعلة بعد 7 أكتوبر في المجتمع الإسرائيلي، حيث تبدو الفرصة مواتية لتوجيه هذه المشاعر لا نحو الإحباط والقلق والتفكير في مهرب، بل نحو مزيدٍ من السخط والعدائية، وهو مزاج موجود على أيّ حال في جميع المجتمعات التي تمرّ بتجارب شبيهة في علاقتها مع مجتمعات أخرى حول العالم، ولطالما رصد السياسيّون هذه الأمزجة المتصاعدة من حين لآخر في مجتمعاتهم ليقدّموا خطابا شعبويّا يروي عطشها، ويقدّم في الوقت نفسه لأحزابهم الأصواتَ المطلوبة لزيادة حجمهم في الانتخابات القادمة.