المقالات

خصائص الحضارة الإسلامية 9 إنسانية النزعة

الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ خلقِ اللهِ نبينا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين.

انتهينا في المقالِ الثامنِ عن الخاصيةِ الأولى للحضارةِ الإسلاميةِ، وهي ربانيةُ المنهجِ والوجهةِ.

واليوم ننتقلُ إلى الخاصيةِ الثانيةِ، وهي إنسانيةُ النزعةِ.

إنَّ الدافعَ والمحركَ في التعاملِ مع الآخرينَ في المفهومِ الإسلاميِّ هي القيمُ والأخلاقُ، وجعلُها المعيارَ في التعاملِ بغضِّ النظرِ عن الدينِ واللونِ والجنسِ؛ إنَّ الإسلامَ في تعاليمهِ وشريعتهِ السَّمحةِ أقرَّ الإنسانيةَ لكلِّ الناسِ، والرحمةَ بهم، فهو منهجٌ إسلاميٌّ أصيلٌ يتميَّزُ بخصائصه الإنسانيةِ الفريدةِ، لتجعله الأجدرَ بأن يكونَ دينَ الناسِ كافةً، خاصةً وأنه منهجُ اللهِ المتكاملُ، ودعوتهُ الخاتمةُ؛

وفي حديثنا عن إنسانيةِ النزعةِ سنتحدثُ عن إنسانيةِ الإنسانِ، وإنسانيةِ التكريمِ؛ جاء الإسلامُ وأرسى قيماً من خلالِ منظومةٍ أخلاقيةٍ تفوَّقت على كلِّ الحضاراتِ السابقةِ واللاحقةِ في الجانبينِ النظريِّ والعمليِّ؛ فإنسانيةَ الإنسانِ في الإسلام تمثلتْ في المساواةِ، والحريةِ، والعدالةِ، والتسامحِ، والتكافلِ الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ.

أما إنسانيةُ التكريمِ فأولاها الإسلامُ اهتمامًا خاصًّا من بدايةِ الخلقةِ، حين كرمَ اللهُ أبانا آدمَ عليه السلام، وأمرَ ملائكتهِ بالسجودِ له؛ وفضَّله على سائرِ المخلوقاتِ، ووضعَ التشريعاتِ الإلهيةَ في حفظِ النفسِ من القتلِ أو الإهانةِ، فأعلى من قيمتها، كما حفظَ النسلَ من أن تشوبهَ أيُّ شائبةٍ، وحفظَ العقلَ الذي ميَّز اللهُ به الإنسانَ عن سائرِ المخلوقاتِ؛

إنَّ النفسَ، والنسلَ، والعقلَ في الشريعةِ الإسلاميةِ من الضرورياتِ، وهي من الضرورياتِ الخمسِ التي جاء الإسلامُ ليُعلي من شأنها ويحفظها وفقَ تشريعٍ إسلاميٍّ دقيقٍ.

وفي مقالنا اليومَ وبعضِ المقالاتِ القادمةِ نطوفُ بكم حولَ إنسانيةِ الإنسانِ بقيمها المختلفةِ؛ فأولها المساواةُ؛ فالناسُ في الإسلامِ متساوونَ بطبيعةِ الخلقةِ، وأنه لا تمايزَ بينهم:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [سورة الحجرات: 13]

هذه الآيات تؤكد أن أصلَ الخلقةِ واحدٌ، فجميعُ البشرِ ينتهون إلى آدمَ وحواءَ، فلا تمايزَ بينهم في اللونِ أو الجنسِ أو الدينِ، ولا تفاضلَ بينهم، وإن مرجع التفاضل في ذلك إلى اللهِ:

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [سورة الأعراف: 158]

ففي الآيةِ السابقةِ إشارةٌ إلى أن رسالةَ الإسلامِ إلى جميعِ البشريةِ بدون تمييزٍ.

وعن جابرِ بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-:

(يا أيها الناسُ! إن ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ، إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند اللهِ أتقاكم، ألا هل بلَّغت؟ قالوا: بلى يا رسولَ الله، قال: فيُبلِّغُ الشاهدُ الغائبَ).

كانت البشرية قبل مجيءِ الإسلام غارقةً في الطبقيةِ؛ فسادةٌ يملكون المالَ والسياطَ، وعبيدٌ يخضعون للسادةِ، مضطهدون، مسلوبو الإرادةِ والحقوقِ، يعيشون بلا كرامةٍ، يقضون حياتهم في خدمةِ أسيادهم تحت ظلِّ العبوديةِ القاهرةِ؛

هذه هي حضارةُ الأممِ السابقةِ كحضارةِ الرومانِ، والإغريقِ، والحضارةِ الفارسيةِ وغيرها، والعربُ قبل الإسلام على حدٍّ سواءٍ؛ فكانت الطبقيةُ عند العرب في أحطِّ صورها؛ فجاء الإسلام ليُعلي من قيمةِ الفردِ، وأنه لا يوجد أيُّ تفاضلٍ بين أمةٍ وأخرى، أو جنسٍ وآخر، ولا يوجد تفاضلٌ في الألوانِ، ويتساوى الغنيُّ والفقيرُ؛

فحارب الإسلام العنصريةَ بمختلفِ أشكالها وألوانها، واعتبرها مفاهيمَ جاهليةً؛ والسيرةُ النبويةُ مليئةٌ بالمواقفِ التي حذَّر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أمَّته من هذه العنصرية، سواءً كانت في الأقوالِ أو الأفعالِ، ومن ذلك موقفُه صلواتُ الله وسلامه عليه مع أبي ذرَّ الغفاري رضي الله عنه، الذي رواه البخاري في صحيحه عن المعرور بن سويد قال:

(لقيت أبا ذرَّ بالرَّبذةِ، وعليه حُلَّةٌ، وعلى غلامه حُلَّةٌ، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلاً، فعيرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟! إنك امرؤٌ فيك جاهليةٌ. إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم).

هذه هي قيم الإسلام: المساواة بين الألوانِ والأجناسِ من الناسِ، والمساواة بين الفقير والغني، ونبذ العنصريةِ والطبقية؛ إن الإسلام جاء بتعاليمه النظرية ليُترجم إلى واقعٍ ملموسٍ، فلم يقتصر على الدعوةِ إلى القيم من خلال النصوصِ النظرية، بل كان واقعًا عمليًّا لما يدعو إليه؛

فأوجد جيلاً كان نموذجًا عمليًّا، إن هذا الجيل المثالي تربَّى في مدرسةِ النبوةِ، وكان خيرَ قدوةٍ للأمةِ على مرِّ العصورِ، استلهمت الأمة منه عبر تاريخها الطويل المجيد، فضربت أروعَ الأمثلةِ في القيمِ الإنسانية، وكان مشاهدًا عيانًا:

(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [سورة آل عمران: جزء من الآية 110].

حق لنا أن نفتخرَ بهذه الحضارةِ المجيدةِ التي تفردت وتميزت على مدى تاريخ البشرية كلها، إنها شريعةُ اللهِ الخالدةُ، والمرسلةُ لإنقاذ البشرية اليوم من هذا التيه الذي تعانيه، والله غالبٌ على أمره، ولكن أكثرَ الناسِ لا يعلمون

إن الحضارة الغربية اليوم تتباهى بأنها هي من رعت حقوقَ الإنسانِ، يومَ أن دونت هذه الحقوقَ في الأمم المتحدة عبر نصوصٍ وموادَّ قلَّ مثيلُها، فأطرت وأصلت لذلك؛

لكن الواقعَ مُخزٍ لهذه الحضارةِ، التي تتعامل بالازدواجية، وتكيل الكيل بمكيالين، ليُوجد ذلك الانفصام النكد بين نصوصٍ منمقةٍ، وواقعٍ مغايرٍ ومناقضٍ، بل في الحقيقة امتهانٌ للكرامةِ الإنسانية، لتبقى هذه النصوص حبرًا على ورقٍ؛

إن الإنسانَ الغربيَّ جسَّد لنا الهمجيةَ بأبشعِ صورها، وضرب لنا أفظعَ الأمثلةِ في الرقِّ والعبوديةِ؛ إن الشواهد على ذلك جليةٌ، لا تخطئها الأفهامُ ولا الأبصارُ، وهي كثيرةٌ ومتعددةٌ لا حصر لها؛

فقد أبادَ أمةً من البشرِ من الهنودِ الحمرِ القاطنين للأمريكتين، واستجلب ملايينَ من العبيدِ من القارةِ الأفريقيةِ ليعيشوا في أسوأِ صورِ الإذلالِ والامتهانِ للكرامةِ الإنسانيةِ، نعم، هذا الرجلُ الغربيُّ الذي عاث في الأرضِ فسادًا ليهلك الحرثَ والنسلَ، فاستعمر الشعوبَ فقتل ونكل وطغى وتجبر؛

إنها الغطرسةُ الغربيةُ وفق المعاييرِ والمنطلقاتِ للحضارةِ الغربيةِ الماديةِ الرأسماليةِ.

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (203) وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (204) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (205)﴾ [سورة البقرة]

بعد هذه التجربة المريرة للحضارة الغربية التي انتهكت كرامة الإنسانية لأربعة قرون، لتضرب أسوأَ الأمثلةِ في تاريخ البشرية، ويوم أن قاد الإسلام البشريةَ، وكانت له السيادةُ والريادةُ لعشرة قرون، ضرب أروعَ الأمثلةِ في المساواةِ والإنسانية، وسطر أبهى صورِ الكرامةِ الإنسانية، وحق لنا أن نفتخرَ بهذه الحضارةِ المجيدةِ التي تفردت وتميزت على مدى تاريخ البشرية كلها، إنها شريعةُ اللهِ الخالدةُ، والمرسلةُ لإنقاذ البشرية اليوم من هذا التيه الذي تعانيه، والله غالبٌ على أمره، ولكن أكثرَ الناسِ لا يعلمون

أ. سعيد بن ناصر الطنيجي

مهتم بالتاريخ الإسلامي وحاصل على درجة الماجستير فيه، خريج كلية الآداب والتربية من جامعة الإمارات العربية المتحدة مشرف على عدة مراكز تحفيظ القرآن الكريم، وعضو مؤسس في جمعية الإصلاح الإماراتية ومديراً لها.

أ. سعيد بن ناصر الطنيجي

مهتم بالتاريخ الإسلامي وحاصل على درجة الماجستير فيه، خريج كلية الآداب والتربية من جامعة الإمارات… المزيد »

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى