مدونة غراس

الهوية الإسلامية في إفريقيا جنوب الصحراء.. بين الخطاب الديني وتحديات العولمة الثقافية

الكاتب: صالح إسحاق عيسى

مقدمة:

تتبدى الهوية الإسلامية في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في عمق القارة الإفريقية، حيث تشكلت حضارات ضاربة في القدم كجسر حضاري وروحي، يربط بين الرسالة الخالدة للإسلام ومجتمعات تنتمي إلى فسيفساء ثقافية وإثنية غنية ومتشعبة، ولقد لعب الإسلام مذ وطئت أقدامُ الدعاة الأوائل والمصلحين أرضَ السودان الغربي والشرقي، دورًا مركزيًا في بناء الوعي الجمعي لهذه المجتمعات، وفي صياغة رؤيتها للعالم والكون، وفي بلورة منظومة القيم التي تشكل نسيجها الاجتماعي والروحي، غير أنّ هذه الهوية الإسلامية، التي ترسخت عبر قرون من التفاعل الثقافي والديني، باتت تواجه اليوم تحديات غير مسبوقة، أبرزها موجات العولمة الثقافية التي تعيدُ تشكيلَ الوعي العالمي على أسس مادية ونفعية، لا تولي الاختلاف الديني أو الخصوصية الثقافية أيّ اعتبار، ومن هذا المنظور، تطرح هذه المقالة تساؤلات مركزية:

  • كيف تصمد الهوية الإسلامية في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أمام موجات العولمة الثقافية؟
  •  وكيف يمكن للخطاب الديني أن يعيد تجديد ذاته ليكون فاعلًا في حفظ الكينونة الروحية والثقافية للمجتمعات المسلمة في هذه المنطقة؟

 وتمثل هذه التساؤلات مدخلًا تحليليًا لفهم الواقع الراهن، واستجلاء التحديات التي تواجه الهوية الإسلامية، واستكشاف السبل الممكنة لتطوير خطابٍ ديني معاصر، يجمع بين التفاعل الإيجابي مع متغيرات العصر والمحافظة على الأسس الأصيلة للثقافة الإسلامية.

الهوية الإسلامية: المفهوم والأبعاد

إنّ الهوية الإسلامية ليست مجرد انتماء عقدي أو التزام شكلي بالشعائر، بل هي بناء حضاري شامل، تتجسد فيه العقيدة، والسلوك، والقيم، والتصورات الكونية، في السياق الإفريقي جنوب الصحراء، تبلورت هذه الهوية في تفاعل عضوي مع البيئات المحلية، حيث لم تكن دعوة الإسلام مجرد توسع جغرافي أو سلطة سياسية، بل كانت خطابًا أخلاقيًا وروحيًا تسامى فوق العصبيات، وقدّم رؤيةً توحيديةً لواقعٍ اجتماعي موزع بين القبائل والديانات التقليدية.

ولعلّ أبرز ما يميز الهوية الإسلامية في هذه المنطقة هو بعدها الروحي، حيث لعبت الزوايا دورًا محوريًا في التربية الدينية، والحفاظ على اللغة العربية، وتعليم القرآن الكريم، وتعزيز قيم الرحمة، والتسامح، والعمل الجماعي.

لكن مع تطورات العصر، وتغير البنى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، باتت هذه الهوية مهددة بالتآكل، ليس بسبب ضعف في ذاتها، بل بفعل ضغط خارجي تمثله العولمة بثقافتها الاستهلاكية، ونموذجها المادي، وقيمها الفردانية.

العولمة الثقافية وتحدي الاستلاب:

تتجاوز العولمة الثقافية كونها مجرد انفتاحٍ اقتصادي أو تقني، بل هي في جوهرها مشروع فكري وقيمي، يسعى إلى إعادة تشكيل الإنسان ضمن نموذج كوني، يقوم على النسبية الأخلاقية، وتسييد الرؤية العلمانية، ونزع القداسة عن الحياة، وتسليع الوجود الإنساني، من هذا المنطلق، تغدو الهوية الإسلامية بما تحمله من مركزية للوحي، ومفهوم للأمة، وتصور للحياة والموت والآخرة، عائقًا أمام مشروع العولمة الشامل، وفي إفريقيا جنوب الصحراء، حيث تضعف البنى التحتية التعليمية والثقافية، وتتسع الفجوة الرقمية، وتصبح المجتمعات أكثر عرضة لاختراقات العولمة، خصوصًا عبر وسائل الإعلام، وشبكات التواصل، والمحتوى البصري المعولم، الذي يروج لنموذج حياة بعيد عن مرجعياتها الروحية والقيمية.

إنّ التحدي الأكبر لا يكمن فقط في التأثير السطحي، بل في إعادة تشكيل الوعي الباطني للفرد المسلم، بحيث يغدو مستلبًا، لا يرى في تراثه الديني إلا بعدًا ماضويًا، ويبحث عن ذاته في النماذج الغربية المعولمة، متوهمًا أنّ الحداثة لا تنال إلا بالتنكر للهوية الإسلامية.

إنّ مستقبل الهوية الإسلامية في إفريقيا جنوب الصحراء، مرهون بقدرتنا على تحويل الإسلام من حضور رمزي إلى مشروع تحرر وارتقاء، يجسد قيم التوحيد، والعدل، والتكافل، وينخرط في معركة البناء الثقافي والاقتصادي والاجتماعي من موقع الفاعل لا المفعول به

الخطاب الديني وتجديد الفاعلية الحضارية:

يُخاض الصراعُ مع العولمة من المنظور الإسلامي، لا عبر الشعارات العاطفية أو المواقف الانفعالية، بل من خلال إعادة تفعيل مقاصد الشريعة الإسلامية التي تهدف إلى حفظ الإنسان وكرامته، وتزكية عقله وروحه، وتنظيم علاقته بخالقه وبالكون من حوله، ويتم ذلك عبر تجديد الخطاب الديني ليكون قادرًا ليس فقط على استحضار النصوص، بل على فهم الواقع المركب الذي يعيشه الإنسان المعاصر، بكل ما يحمله من قلق وجودي، وشك معرفي، وتحديات يومية معقدة.

ولا يُراد بتجديد هذا الخطاب الخروجُ عن الأصول أو التنازل عن الثوابت التي تشكل جوهر الرسالة الإسلامية، بل المقصود هو استعادة الروح الأصيلة للإسلام، باعتباره دعوة للتحرر من الجهل والعبودية، ومشروعًا متكاملًا لبناء الإنسان والمجتمع على أسس العدل، والرحمة، والكرامة، فالإسلام لا يعارض العقل، ولا يعادي الحداثة في جوهرها، بل يقدم بديلًا أخلاقيًا، يؤسس لحداثة قائمة على المسؤولية والقيم، لا على الفردانية المفرطة وتشييء الإنسان.

في هذا السياق، ينبغي للخطاب الديني في إفريقيا جنوب الصحراء أن ينتقل من التلقين إلى الحوار، ومن الانغلاق إلى الانفتاح الواعي، ومن التكرار إلى الإبداع، مع الحفاظ على مرجعية الوحي والاقتداء بالهدي النبوي، فالإسلام الذي أسهم تاريخيا في بناء حضارات متعددة الثقافات في الأندلس، والهند، وإفريقيا، يمتلك من الأسس والمبادئ ما يتيح له الإسهام في تشكيل هوية إفريقية معاصرة، تجمع بين الاعتزاز بالخصوصية الثقافية، والقدرة على التفاعل الإيجابي مع العالم من موقع الفاعلية لا التبعية

كما أنّ الخطاب الديني مدعو إلى الانفتاح على الفكر الفلسفي والأدوات المعاصرة، لبناء سرديات قادرة على مخاطبة النخبة، وتأسيس تيار ثقافي إسلامي إفريقي، يعيد الاعتبار للقيم القرآنية بوصفها منطلقا لتحرير الإنسان من كل أشكال الهيمنة، سواء كانت سياسية أو معرفية أو ثقافية.

نحو استئناف الدور الحضاري للهوية الإسلامية:

إنّ الحفاظ على الهوية الإسلامية في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى لا يعني الانغلاق في الماضي، ولا العيش في قوقعة الخصوصية المعزولة، بل هو مشروع تحرر وتقدم، أساسه الإيمان العميق بأن الإسلام لا يزال يملك ما يقدمه للعالم، من عدالة، ورحمة، وكرامة للإنسان، وإنّ العولمة الثقافية بما تحمله من تحديات، ليست قدرًا لا يقاوم، بل لحظة اختبار لمدى حيوية هذه الهوية وقدرتها على التجدد، ومن هنا، فإنّ الرهان الحقيقي ليس فقط على المؤسسات الدينية، بل أيضا على المفكرين، والفاعلين الثقافيين، والمجتمع المدني، في بناء وعي جديد، يزاوج بين الأصالة والانفتاح، ويعيد للهوية الإسلامية موقعها الطبيعي كرافعة للتقدم لا عبئًا عليه.

وفي هذا الأفق، تغدو الحاجة الماسة إلى تجاوز الانشغال المفرط بالأشكال الظاهرة والانصراف إلى استعادة الجوهر الحقيقي للهوية الإسلامية، ذلك الجوهر الذي يقوم على قيم العدل، والرحمة، والحرية، والتزكية الروحية والعقلية، فليس الإشكال في الانتماء اللفظي أو الشكلي إلى الإسلام، بل في مدى تمثل تعاليمه في السلوك الفردي والجماعي، وفي قدرته على أن يكون قوة دافعة نحو النهوض الحضاري.

إنّ معركة الحفاظ على الهوية في زمن العولمة ليست معركة رموز وشعارات، بل معركة وعي وبناء، تتطلب استنبات القيم في الواقع، وتفعيلها في الفكر والممارسة، حتى لا يغدو الإسلام مجرد إرث ثقافي جامد، بل رسالة حية متجددة، تنهض بالإنسان والمجتمع.

خاتمة:

تشكل التحديات التي تواجه الهوية الإسلامية في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، فرصةً تاريخيةً لإعادة النظر في موقع الخطاب الديني ووظيفته، ولمراجعة طرائق بناء الوعي الديني وتوجيهه، فهي ليست قدرًا مفروضًا، فالعولمة الثقافية بكل ما تحمله من مظاهر الاستلاب والانمحاء، لا تستطيع اختراق الهويات الحية ما لم تفقد هذه الهويات صلتها بمصادرها الأصلية ومقوماتها الذاتية.

والحل لا يكمن في الانغلاق أو التمترس خلف جدران الماضي، بل في إطلاق مشروع نهضوي متكامل يعيد صياغة الهوية الإسلامية من الداخل، عبر ثلاثية متوازنة:

  1. تجديد الخطاب الديني، ليكون أكثر اتصالًا بالواقع، وأقدر على مخاطبة الإنسان المعاصر بلغة العقل والروح، مع المحافظة على أصول الوحي وثوابته.
  2. تمكين التعليم الإسلامي الشامل، الذي لا يقتصر على العلوم الشرعية، بل ينفتح على المعارف الإنسانية الحديثة، لإعداد جيل من المسلمين الأفارقة يحمل وعيًا مركبًا، أصيلًا في هويته، منفتحًا على العالم، وقادرًا على المساهمة الحضارية.
  3. بناء مؤسسات ثقافية مستقلة، تُعنى بإنتاج المعرفة الإسلامية بلغة العصر، وتعيد تقديم الإسلام بوصفه رسالة أخلاقية وحضارية، لا مجرد منظومة طقوسية.

إنّ مستقبل الهوية الإسلامية في إفريقيا جنوب الصحراء، مرهون بقدرتنا على تحويل الإسلام من حضور رمزي إلى مشروع تحرر وارتقاء، يجسد قيم التوحيد، والعدل، والتكافل، وينخرط في معركة البناء الثقافي والاقتصادي والاجتماعي من موقع الفاعل لا المفعول به، وهكذا لا يكون الحفاظ على الهوية ردّةً إلى الوراء، بل قفزةً إلى الأمام تستمد زخمها من جذورها، وتتجه بثقة نحو آفاق حضارية جديدة، حيث يكون الإسلام جزءًا من الحل لا عبئًا مضافًا على الواقع، ومصدر إحياءٍ لا سبب انكماش، وأداةً لصياغة مستقبل إفريقي أكثر عدلًا وكرامةً وإنسانية.

غراس للإنتاج الفكري

مركز غراس للإنتاج الفكر ي هو مؤسسة غير ربحية معنية بتحرير وتناول القضايا الفكرية والاجتماعية المعاصرة، تأسست في أكتوبر/تشرين الأول لعام 2023 ، والموافق ربيع الأول 1445 للهجرة.

غراس للإنتاج الفكري

مركز غراس للإنتاج الفكر ي هو مؤسسة غير ربحية معنية بتحرير وتناول القضايا الفكرية والاجتماعية… المزيد »
زر الذهاب إلى الأعلى