المقالات

الدولة في الإسلام بين المقاصد والوسائل

تمهيد

كثير من الجماعات الإسلامية والعلماء يعلقون وجود الإسلام ومستقبله على قيام الدولة الإسلامية، ويعتبرونها شرطًا أساسيًا لتطبيق الشريعة وتحقيق أهداف الدين.  والحقيقة أننا بحاجة إلى موقف أكثر توازنًا وواقعية، نتجنب  فيه الإفراط والتفريط في تقدير أهمية الدولة من حيث معطيات النص وتحديات الواقع، وهنا نفترض أن الدولة  في شكلها الحديث والتاريخي  في الإسلام  ليست الغاية القصوى وليست تاج الفروض الدينية وليست ركناً من أركان الإيمان ولا ركناً من أركان الإسلام بل هي مجرد وسيلة من الوسائل لتحقيق المقاصد الشرعية الكلية في حفظ الأمن وفصل الحقوق بين الناس، ونفترض أن المجتمع  المسلم بما يشكله من رافعة أخلاقية وسياسية هو الأصل الذي جاء الإسلام لإصلاحه من خلال إصلاح الفرد وهو المخاطب بالنص التكليفي وأن حوالي 90% من الشريعة الإسلامية مناط إقامتها بالمجتمع والفرد وليس بمؤسسات الدولة والسلطة التي لا تطبق أكثر من 10% من أحكامها وهو ما يختص بحفظ أمن المجتمع وتحقيق العدالة بين أفراده بدون أن يكون لها أي دور رقابي على ضمير الأفراد فيها.

الدولة الإسلامية: بين الواقع والضرورة الشرعية

إن قضية تأسيس الدولة ليست مجرد شعار أو هدف سياسي بسيط، بل هي عروة من عرى الإسلام، أي الدولة رابط قوي وحصن حامي للحياة الإسلامية والمجتمع المسلم. ولهذا، فإن الانشغال بها والسعي لإقامتها جهد مشروع ومعتبر لكن مهما يكن تبقى هذه الدولة ضمن الجهد البشري وليس لها أي صفة دينية فالمؤرخون المسلمون لم يطلقوا وصف الدولة الإسلامية على أي من الدول التي تشكلت عبر التاريخ الإسلامي، بل كانوا ينعتونها باسم الأسرة التي تحكمها حتى لا يتم إسقاط وصف سلطة الحاكمين على أنه هو الإسلام نفسه ولكي تبقى الدولة ضمن المعطى البشري حيث لا عصمة لها ولا قداسة.

وعليه ففي كل التاريخ الإسلامي وكل ما كتبه الفقهاء لم تكن الدولة في الإسلام قضية مركزية لقد كان النطاق المركزي للإسلام هو التربية الأخلاقية “التصوف” في جانبه السلوكي والفقه الإسلامي في جانبه التشريعي والقانوني وكلا السلطتين السلطة التربوية والسلطة العلمائية كانتا تعملان بشكل مستقل عن السلطة السياسية وبدون أي تدخل منها وهنا تظهر المشكلة تبدأ حين تصبح الدولة هي الشغل الشاغل، أو الهدف الأوحد، أو الغاية القصوى. هنا يكمن خطر التضخيم والمبالغة التي قد تقود إلى ضياع سلم الأولويات في التكاليف الشرعية وتجاوز الواقع والدخول في خصومات سياسية تنتهي بأثار سلبية على الدعوة والتربية الأخلاقية.

إن الكثير من الدول التي تعتبر نفسها مطبقة للشريعة هي دول مستبدة تخنق الدعوة وتفسد المجتمعات وبالتالي تصبح حرية المجتمع قضية مقدمة على مسألة أن تنص الدولة في دستورها على حاكمية الشريعة من عدمه

الدولة ليست فرضًا صريحًا في النصوص الشرعية

إن تضخيم دور الدولة “الإسلامية” في الفكر الإسلامي جاء نتيجة ردة فعل على سقوط الخلافة العثمانية ومحاولة من البعض استعادة الخلافة حتى مع عدم توفر شروطها الموضوعية ومضمونها الفكري فاتجه البعض لتفسير الإسلام تفسيراً سياسياً منا يذكر الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه “التفسير السياسي للإسلام” [1] وهو يرد على الشيخ المودودي وكتابه المصطلحات الأربعة وعلى فكرة توحيد الحاكمية للسيد قطب في كتابه معالم في الطريق حيث يعتبر كل منهما أن إقامة الحاكمية في الفضاء العام ” الدولة” هو جزء من التوحيد والعقيدة.

وفي الحقيقة  لا يوجد نص صريح في الشرع يأمر بإقامة الدولة الإسلامية كضرورة مباشرة وواجب بذاته، بل الأمر جاء عن طريق الاجتهاد، النظر المصلحي، والتقليد للواقع الذي تركه النبي صلى الله عليه وسلم.

أي أن إقامة الدولة ووجوب الخلافة تأتي كـ “وسيلة” لتحقيق أهداف الدين، وليس كـ “غاية” في حد ذاتها. أي أن الدولة هي من ضمن ما يسمى في أصول الفقه بـ “الواجب لغيره”، وليست “واجبًا لذاته”. وهذا التمييز له نتائج مهمة:

  • أولًا: السعي لإقامة الدولة لا يجب أن يكون على حساب الواجبات التي هي واجبة لذاتها، مثل الصلاة والعدل والتقوى وأداء الرسالة الإسلامية.
  • ثانيًا: إذا أمكن تحقيق بعض أهداف الإسلام من غير وجود دولة إسلامية كاملة، فهذا ينقص من وجوب الدولة باعتبارها وسيلة.

وهذا التمييز يدعو إلى مرونة في فهم دور الدولة، وعدم التحجر على ضرورة وجودها بشكل مطلق.[2]

الدولة في ظل الظروف الواقعية: إمكانيات وإعاقات

إن الدولة القائمة في أي مجتمع، حتى وإن كانت منحرفة أو معادية، قد تتيح فرصًا لإقامة الدين وتحقيق بعض أحكامه، خصوصًا في الحياة الخاصة والجوانب المجتمعية الأخرى.

وهذا يعني أنه لا يجب اعتبار الدولة التي تعلن تطبيق الشريعة فقط هي الدولة الوحيدة التي يمكن للمسلمين أن يعملوا في ظلها أو من خلالها، بل يمكن الاستفادة من الأوضاع القائمة إذا أتاحت هذه الفرص، حتى ولو كانت الدولة غير مثالية بل إن الكثير من الدول التي تعتبر نفسها مطبقة للشريعة هي دول مستبدة تخنق الدعوة وتفسد المجتمعات وبالتالي تصبح حرية المجتمع قضية مقدمة على مسألة أن تنص الدولة في دستورها على حاكمية الشريعة من عدمه لأن حرية المجتمع ستسمح لها بالتعبير عما يؤمن به بدون إكراه.

الدولة كوسيلة وليست غاية

النقطة الأساسية في النص هي ضرورة عدم الانشغال المفرط بـ “الوسيلة” على حساب “الهدف. خصوصاً عندما كانت الوسيلة هي وسيلة اجتهادية لا نص عليه من الكتاب والسنة يوجبها على المسلمين فالهدف الأسمى هو إقامة الدين وتحقيق مقاصده، أما الدولة فهي مجرد وسيلة مساعدة على حماية المجتمع المتمثل بالشريعة والإسلام من أن تستباح ثقافته وأفكاره التي يؤمن بها تحت ضغط القسر الحداثي.

لقد كانت الأسس النظرية لدى بعض الجماعات الإسلامية التي جعلت من إقامة الدولة والوصول إلى السلطة و”أفنيت أعمارهم”،  في سبيل ذلك دون أن يظهر أثراً واضحاً لسعيهم، بل الواقع يخبرنا أن أحوال المسلمين ازدادت سوءًا بفعل هذا الانشغال.

وقد يؤدي هذا إلى انغلاق المسالك وفتح المهالك، حيث يستمر الناس في السعي إلى إقامة الدولة رغم الظروف غير المواتية والمعوقات الكبيرة، وهذا فعل معاكس لسنن الله تعالى الاجتماعية والتاريخية التي لا تنخرق لنبي مرسل ولا لولي مقرب فمن راعها راعته ومن واجهها أهلكته.

الدولة ليست كل شيء في حياة المسلمين، وليست أهم شيء في أذهانهم وحياتهم. وإذا صار الناس يعتقدون أن الدولة هي كل شيء، فهذا يؤدي إلى “تأليه الدولة”، مما يضر بالمبادرات الفردية والجماعية، ويقتل روح المبادرة والفعالية.

السنن الاجتماعية والتاريخية لإقامة الدولة

إن إقامة الدولة بغض النظر عن عقيدتها السياسية سواء كانت دينية او ليبرالية أو شيوعية، تخضع لـ “شروط وأسباب وقوانين تاريخية واجتماعية وسياسية” لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها بمجرد الإرادة أو الجهد، مهما كان كبيرًا.

ويذكر قول ابن عطاء الله الإسكندري:
ما ترك من الجهل شيئًا من أراد أن يظهر في الوقت غير ما أظهره الله[3]

وهذا يعني أن النجاح في إقامة الدولة يحتاج إلى توافق ظروف تاريخية واجتماعية معينة، ولا يمكن فرضه قسرًا أو بالقوة فقط.

وهو ما وسع الشرح به عالم الاجتماع السياسي المسلم عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته عندما تناول سؤال الدولة  كفيلسوف من زاوية العمران ولاجتماع البشري ولم يتناوله كفقيه من خلال أدوات الاستنباط الصولي من النص لذلك اعتبر ابن خلدون  الدولة هي  الغاية القصوى للاجتماع البشري وهي الكيان الذي يحقق العمران ويحمي الناس من التظالم ويؤمن الاستقرار من حيث الوظيفة ومن حيث نشأة الدولة فإن محرك قيامها الأول هو العصبة الاجتماعية من عشيرة أو قوم أو قبيلة تمتلك الشوكة والقوة والدعوة الدينية والفكرية التي تعطيها الشرعية  وفي حال فقدت الدولة أحد أركانها المادية أو المعنوية ولم تقم بوظائفها فإنها تسقط وتدخل المجتمعات في دورة تاريخية جديدة مهما كانوا على درجة من التقوى والصلاح . [4]

الخاتمة والنتيجة

الدولة ليست كل شيء في حياة المسلمين، وليست أهم شيء في أذهانهم وحياتهم. وإذا صار الناس يعتقدون أن الدولة هي كل شيء، فهذا يؤدي إلى “تأليه الدولة”، مما يضر بالمبادرات الفردية والجماعية، ويقتل روح المبادرة والفعالية. بالعكس، حين يعتبر الناس أن الدولة لها حدود معينة ووظائف محددة، ويعترفون بأن المجتمع أكبر من الدولة، يصبحون أحرارًا في العمل والبناء والمساهمة في المجتمع، مهما كانت حالة الدولة.

وإن التاريخ الإسلامي يشهد على أن الأمة بقيت قوية ومتماسكة ومتطورة، رغم تقلبات الأنظمة الحاكمة، وضعف بعضها، وانحراف بعضها الآخر وسقوط دول وقيام أخرى ومن هنا نخلص لعدة نتائج مهمة

  1. الدولة الإسلامية هي وسيلة وليست غاية ولا يجب الانشغال بها على حساب مقاصد الإسلام الأساسية.
  2. لا يوجد نص شرعي صريح يأمر بإقامة الدولة كواجب بذاته، بل هو واجب لغيره.
  3. يمكن تحقيق كثير من أهداف الإسلام في ظل دول غير إسلامية، أو حتى دول منحرفة إذا توفرت الإمكانيات.
  4. المجتمع هو الأصل، والدولة هي مجرد انبثاق ضروري عن ثقافة المجتمع وتعبير عن أحواله.
  5. العمل على بناء المجتمع وتفعيل طاقاته هو أولى وأهم من السعي الحصري لإقامة الدولة.
  6. السنن الاجتماعية والتاريخية لا تسمح بفرض الدولة بالقوة أو الإرادة فقط، بل تحتاج لظروف مناسبة وتحقيق التقدم في مجالات العلوم الحديثة والكشف العلمي خصوصاً في هذا العصر الذي بات فيه الذكاء الصناعي يتحكم في كل شيء  
  7. التاريخ يشهد أن الإسلام ازدهر رغم ضعف الدولة، لأن الأمة كانت حاضنة قوية.

وإنه في ظل الصراعات السياسية والدينية التي يعيشها المسلمون اليوم ، علينا كمسلمين أن نسجل حضورنا الحضاري  اليوم في ساحات التنافس العمراني والتنموي في مجال العلم والمعرفة وبناء القدرات الفردية والاستقلال الاقتصادي  والاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي الذي يعزز من فعالية المسلمين في العالم ويجعل منهم رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه   وعدم الانجرار إلى ساحات الصراعات السياسية البينية والاختلاف على شكل الدولة وهويتها الفكرية في الوقت الذي لا نملك فيه إلا دولاً فاشلة في كل المستويات والمجالات وعالة على الدول المتقدمة في اجترار ما تبدعه الحضارة الغربية من وسائل وخدمات ونبقى في خانة المستهلكين.


[1] . كتاب التفسير السياسي للإسلام طبعة دار القلم للشيخ أبي الحسن الندوي ط 3 تـ 1401 هـ 1981 م .

[2] . هذا الحكم هو ما انتهى إليه الدكتور أحمد الريسوني الأمين العام لاتحاد علماء المسلمين سابقاً في مقاله ط مكانة الدولة عند الحركات الإسلامية ” المنشور على موقع رؤية للفكر

[3] . كتاب الحكم العطائية لابن عطاء الله السكندري تحقيق عبد المجيد الشرنوبي ، ط دار الكتب العلمية .

[4] . راجع مقدمة ابن خلدون ( 732- 808 هـ) ط1، دار يعرب دمشق 2004 م

عباس شريفة

إجازة في القانون والشريعة كاتب وباحث مهتم بالفلسفة والفكر الإسلامي

عباس شريفة

إجازة في القانون والشريعة كاتب وباحث مهتم بالفلسفة والفكر الإسلامي المزيد »

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى