أفكار الكبارالمقالات

الغزو الثقافي يمتدُّ في فراغنا

يمسك العلامة محمد الغزالي-أديب الدعوة- في كتابه الشهير موضوع المقال بمبضع الجراح ماضيًا في تشريح جسد العالم الإسلامي لتشخيص ما أصابه من أمراض جسيمة أجهزت عليه عبر قرون، مشيرًا بنباهته إلى الأسباب الرئيسية التي ولّدت هذه الأمراض، والعوامل التي ساهمت في استفحاله، ليصل بعد ذلك كله إلى وصف الدواء الناجع الكفيل بإنقاذ هذا الجسد المتهالك.

ولعلّ وقوفه هذا الموقف أتى من كونه شاهدًا على عصره المليء بالتقلبات، فعند الاطلاع على السياق التاريخي الذي نُسجت فيه أفكاره نجد أنه قد نشأ في فترةٍ كان فيها المجتمع يعاني من صراعات سياسية واقتصادية وفكرية كبيرة ومختلفة، حيث عاصر ثورتين في مصر، وعاصر الشيوعية والرأسمالية في أوجهما، وعايش أوضاع البلدان العربية والإسلامية التي كانت تتدهور إلى الانحطاط وهي لم تكد تتحرر من سطوة الاستعمار الخارجي حتى وقعت في نير الاستبداد الداخلي.

يقف الشيخ في كتابه (الغزو الثقافي يمتد في فراغنا) على أهم العوامل التي مكّنت هذا الغزو وفتحت أمامه الأبواب؛ ليحدثنا بعد ذلك عن آثار هذا الغزو الماثلة أمامه، محاولًا إيقاظ الهمم ودفع الشعور نحو رفض أسباب هذا الغزو والعمل بتجانس وبحكمة ورويّة بهدف إنقاذ الأمة من هذا التغول المخيف للثقافة الغريبة، ونحن بدورنا نراقب أوضاع الأمة الإسلامية اليوم من أجل أن نجيب على سؤال: هل الغزو الثقافي الذي أشار إليه الغزالي ممتدٌّ إلى هذه الساعة؟ وهل هناك من يمسك بمبضع الجراح؟

ونحن بدورنا نراقب أوضاع الأمة الإسلامية اليوم من أجل أن نجيب على سؤال: هل الغزو الثقافي الذي أشار إليه الغزالي ممتدٌّ إلى هذه الساعة؟ وهل هناك من يمسك بمبضع الجراح؟

في معرض طرحه يذكرنا الغزالي أنّ هذه الأمة هي أمة الإسلام، والإسلام دين المفكرين ودين الإنسانية، الدين الذي يجد فيه المفكر مبتغاه العقلي والروحي، ويجد فيه الإنسان العادي ضالّته من القيم الرفيعة التي جبلت عليها الفطرة البشرية في ذلك يقول: «إن الدين الذي بلغه المصطفون الأخيار من فجر الخليقة إلى الآن هو هذه الإنسانية الراشدة؛ لأنها تسمع صوت العقل، الصالحة لأنها تسمع صوت الضمير أي صوت القلب الطهور الذي يحسن الحسن ويقبح القبيح وعندما يكون هو فطرة الله التي فطر الناس عليها»[1] 

ولأن الإسلام يملك المكنون الحضاري، فرسالته إنسانية خالدة متوهجة تشع نورًا يعمي قلوب وبصائر أعدائه الباحثين عن النموذج البديل، فهل الحضارة الغربية هي نموذج حضاري بديل؟

يحاول الغزالي أن يكون موضوعيًا، وعادلًا وهو يلقي الضوء على التألق المدني والخدمات الكبرى التي قدمتها المدنيّة الغربية للبشرية، ويرى أنه لا ضير من اقتباس الصالح منها فيما يتعلق بالأمور الدنيوية، كما يجب التفريق بين ما فيه خير وبين مالا خير فيه، بين الشؤون المدنية العادية وبين الشؤون التربوية والاجتماعية، وحين يُراد الاقتباس من هذه الحضارة فيجب أن يكون إراديًا انتقائيًا.

«وفي ميدان الوسائل المرنة للأهداف الثابتة أرى أنّ خدمة مبدأ الشورى بالوسائل الغربية أفضل من خدمته بالوسائل العربية …أما في ميادين الزراعة والصناعة فإن تخلفنا البادي يفرض علينا أن نكون تلامذة، وأن نطلب هذه العلوم من الغرب أو الشرق على سواء»

ويدلّلُ الغزالي على مواطن الخلاف مع الحضارة أو المدنية الغربية فيما يتعلق بالأنظمة الأخلاقية والاجتماعية وما يساندها من عقائد، فالشعور السائد في الحضارة الحديثة تسيء أكثر مما تحسن، وتظلم أكثر مما تعدل. وهذه الحضارة الماديّة عاجزةٌ عن تقديم نموذج بديل في ميدان العلاقات الإنسانية. ويستغرب الغزالي من الكتّاب العرب المنبهرين بهذه الحضارة والمحاولين تقليدها تقليدًا أعمى ونسخها بغثها وسمينها فإذا بهم يستوردون الإلحاد والتحلل باسم استيراد العلم والمدنية.

ويغضّ هؤلاء المقلدون أنظارهم عن الآثار السلبية الهائلة التي نجمت عن التطور الصناعي، ويتجاهلون حال البشرية اليوم بين أنياب العلمانية المتغطرسة. بل يبحثون عن مسوّغات مظاهر الخروج عن الإنسانية، التي تجلت بالدفاع عن الشذوذ كحرية شخصية، بل كقيمة إنسانية مستجدة. عداك عن الازدواجية في معايير تقييم حقوق الإنسان، ودعم الظالم ضد الضحية. ومثال القضية الفلسطينية مثال صارخ ومستمر يفضح كل خفايا تلك الحضارة.

إنها ذاتها تلك الحضارة التي غزت الأمة الإسلامية من شرقها إلى غربها، غزوًا عسكريًا فجًا لحقه غزو ثقافي مستمر، وجد ساحة فارغة ينمو فيها ويمتد.

الفراغ وآثار الغزو الثقافي متجلية في أمتنا

يتألم الغزالي من واقع الأمة المرير، الناتج عن قرون من التسطيح الفكري والبعد عن جوهر الدين، وهذا البعد لم يناظره قرب من التطور والرقي الصناعي والاجتماعي والسياسي، بل وافقه خنوعٌ وركون إلى أوهام النصر المنشود الذي لم تُرسم له قواعدٌ ولا أصول. ونتألم اليوم أكثر منه ونحن نشهد التبعية السياسية والاجتماعية والاقتصادية العمياء، وبقاء مقدرات الأمة رهن الاعتقال، وتفشي التفاهة تحت مظلة التأثير والتغيير.

ويشير الغزالي إلى أنّ هذا التأخر سببه العزوف عن الدين والبعد عن الإسلام وليس ما يدّعيه معاونو الاستعمار بأنه ناتج عن التمسك بالإسلام (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ)[2]

فالأمة التي تخلت عن رسالتها حريٌّ بها أن تتخلى عن دور الريادة في السياسة والاقتصاد، فتفقد مكانتها بين الأمم سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وتصبح أمةً فارغةً من كل شيء ويقول الشيخ: «إن الانهيار الاقتصادي والاجتماعي لأمة يعودان بأفدح الخسارة على عقائدها وشرائعها ويفقدانها احترام العدو والصديق، أما كلمة الجهاد فتصبح والحالة هذه لغوًا، فأي جهاد يرتقب من أعزل فارغ اليد؟ فكيف إذا ضم إلى ذلك فراغ القلب والعقل؟»

«إن التخلف الحضاري جريمة عانينا منها الكثير وما نزال، وهذا التخلف يشمل للأسف ميادين شتى مادية وأدبية، والمتدينون الذين لا يعون هذه الحقيقة هم بقية من عصور الانحطاط، أو من هزائم الماضي. وعلى قادة الصحوة الإسلامية أن يكونوا منهم على حذر، فليسوا أقل خطراً من قادة الغزو الثقافي المصمم على إهانتنا وإضاعتنا»

ويتحدث الغزالي عن التقاليد الاجتماعية والسياسية والحضارية والمدنية والعسكرية التي تردّت في هاوية سحيقة، وتحولت بها الجماهير إلى قطعان يموج بعضها فى بعض لا تعرف معروفًا، ولا تنكر منكراً، ولا تجيد قولًا ولا عملًا. وإنّ التحدي الثقافي الأجنبي يمتد حتماً فى هذا الفراغ العقلي والفراغ الديني عندنا، فالأمة التي تنحدر إلى هذا الدرك تتعرض يقينا للاغتصاب والمهانة.

ومن آثار الغزو الثقافي احتضار الأخوّة الإسلامية، فلم يعد المسلم الهانئ المنعَم مهتمًا بأمور المسلمين المنكوبين في بلدان أخرى، ولم تعد البلدان الإسلامية التي تملك بعض الموارد تتجرأ على مناصرة الحق

ومن آثار الغزو الثقافي احتضار الأخوّة الإسلامية، فلم يعد المسلم الهانئ المنعَم مهتمًا بأمور المسلمين المنكوبين في بلدان أخرى، ولم تعد البلدان الإسلامية التي تملك بعض الموارد تتجرأ على مناصرة الحق، فتردّت أحوالها الأخلاقية إلى الحضيض وقد ضاعت البوصلة، ولم تعد تفرق بين حقوقها وواجباتها ومسؤولياتها التاريخية، وتجلّى ذلك بأبهى صوره في الجهود الحثيثة المبذولة لمحاربة الإسلام، والجهود الأخرى المبذولة للتطبيع مع العدو والوقوف معه ضد الإخوة في العرق والدين.

«إن الغزو الثقافي يتحرك بقوة وسط أمة نائمة أو تائهة فهل نصحو؟»

محاور الغزو الثقافي الثلاثة

نستطيع استنباط ثلاثة محاور أساسية للغزو الثقافي جهد الغزالي على توضيحها في كتابها، وقد تفاوتت هذه المحاور في شدتها، كما تباينت في استمراريتها إلى اليوم، وربما اختلفت الوسائل والمسميات، ولكن النتائج باتت أدهى وأمر:

أولًا– الأعداء، الاستعمار القديم والحديث بأشكاله، إذْ يعملُ الغرب منذ الأزل على إفراغ الإسلام من محتواه، وإبعاد المسلمين عن دينهم. فلم يكتفوا بالغزو العسكري الذي جاس خلال ديار المسلمين من بضعة قرون، بل أردفوا ذلك بغزوٍ استهدف حتى العلوم الدينية.

والأعداء الذين ينادون بالديمقراطية وحقوق الإنسان هم أنفسهم الذين لا يرضون الديمقراطية للشعوب المسلمة منهجًا للحكم، حيث يدركون أنها سوف تحتكم إلى شرع الله حين تحكم نفسها بنفسها. لذلك فقد حرصوا على إبقاء أنظمة حكم استبدادية تتحكم في رقاب المسلمين وتبعدهم عن دينهم وتحاول أن تسدّ أمامهم كل منفذ للنهضة، واتبع الأعداء مناهج أخرى في الغزو، بعد أن صارت خيوط التأثير في أيديهم وامتلكوا مندوبين ووكلاء ينوبون عنهم في هذا الغزو على أسوأ وجه.

ثانيًا– المتدينون التقليديون ممن لا يمتلكون فهمًا واضحًا للدين، ولا يرتبصون بكتاب الله وسنة نبيه بوثاق، وينشرون الأكاذيب، ويلصقون بالدين ما ليس منه، ويجعلون من أنفسهم مطيّة المستبدّ في ترسيخ استبداده.

ونشعر بالغزالي وهو يصب جام غضبه على هذا اللون من الفكر الديني السطحي الذي يأتي على الإسلام من القواعد، فالجاهلُ عدو نفسه وعدو دينه. فتراه يضم إلى الدين من الهوى ما ليس منه، ويهتم بمسالك تنفر الناس من الدين. ويؤكد لهم الغزالي أنّ كل حكم يرفضه العقل، وكل مسلك يأباه امرؤ سويٌ، وتقاومه الفطرة السليمة يستحيل أن يكون دينًا.

إنّ الإسلام يُظلم باسم الإسلام، يظلمه علماء يخدمون السلطة وشبان عديمو الفقه، وغوغاء حيارى.

يجد الغزالي أنّ الأمة الإسلامية في الأحقاب الأخيرة ما أحسنت الدعوة للإسلام، ولا قدمت من نفسها نموذجًا يغري بالدخول فيه، بل لعلها نسيت رسالتها علمًا وتطبيقًا. ويجدها لا تتمسك إلا بالقشور، وتحيدُ عن الفكر السليم، إنه يجد انتشارًا للفراغ الفكري والانحطاط المعرفي والتشدد والتقوقع الفقهي، والتقليد المذهبي الجامد، وعلماء لا يخدمون إلا السلطة، فيبيحون له الاستبداد، ويقدسون الطاعة العمياء. فتمتدُّ خيمةُ الغيبيات لتشمل مساحة واسعة من عالم الشهادة، حتى لكأن الدينَ حارسٌ طبيعي للطلسمات والخرافات، أو لكأنه خصم لدود للمنطق العلمي. إنّ الإسلام يُظلم باسم الإسلام، يظلمه علماء يخدمون السلطة وشبان عديمو الفقه، وغوغاء حيارى.

فيذكر مواقف بعض العلماء من المرأة وسبل معاملتها، وقد اختاروا أعسر الفتاوى وأردأ الأقوال، وتتملكهم حمى إذا ذكرت للمرأة حقوق. ومعرفة هؤلاء بالإسلام ضحلة ومشوهة ومكذوبة. فهم ينفرون الناس من الإسلام بتقاليد استحدثوها، ما أنزل الله بها من سلطان، فهل الاستبداد السياسي سنة؟ والديمقراطيات الحديثة بدعة؟

كما يذكر فتنة الناس عن دين الله عبر المذاهب والجماعات والمدارس والهيئات. والاستعمار يعين الجماعات الدينية التي تنشر مطبوعات أنيقة لتثبت أن الأرض ثابتة (أو مسطحة)، وأن النساء شياطين خلقن للرجال ، كما وجد من يحارب الشورى ودساتيرها الدقيقة ليفتح الأبواب على مصراعيها للاستبداد السياسي.

إنّ ركام تقاليد القرون المنحرفة تنشر في هذه الأيام العجاف لتنزل بالمسلمين هزائم ساحقة، ينشرها أعداء الإسلام، وينشرها المتدينون، وينشرها المتسلقون اليوم في وسائل الإعلام المختلفة.

ثالثًا– الكتّاب والمتنورون ممن نهلوا من الثقافة الغربية وأعملوا أقلامهم في مدحها ونشرها، إلى جانب محاربتهم الدين الإسلامي. يرتكزون على التفوق الغربي الكبير في الجوانب المادية، مستغلين الفوضى العلمية والاجتماعية في العالم الإسلامي. فينكرون منتوج الحضارة الإسلامية برمته، ويعتبرونه جملة من الخرافات والجهل، مقارنة بالمدنية الأوروبية التي يروجونها على أنها النور الذي محق الظلمات.

وينبّه الغزالي إلى وسائل الأعداء في ملاحقة الفئة الصالحة التي تريد الصحوة والتجديد. وهذه الملاحقة ما تزال مستمرة حتى يومنا هذا. وإلى حرصهم على دعم الدجالين الذين يخرجون على الناس بدجلهم محاولين تغيير صورة الدين في أذهان العامة، فمنهم من يأخذ بالقرآن المكي دون المدني، ومنهم من يأخذ بالكتاب ويرفض السنة، ومنهم من يبوئ نفسه مقام المفسرين فيفسر على هواه، ومنهم من يطعن في سير الصحابة والتابعين. ويطعن في المفسرين والمحدثين والفقهاء. بل اتسع الأمر لتبني الإلحاد ونشره.

وحرص المستبدون على محق الهوية الإسلامية في المؤسسات التعليمية وإهمال التعليم الديني، إلى جانب الفشل في التعليم الدنيوي.

كما مكّنت اليوم وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعية الكثير ممن يعتبرون أنفسهم علماء ومفكرين ومؤثرين وقادة مجتمعات يتابعهم ملايين الناس فيروجون أفكارهم التي ما أنزل الله بها من سلطان ويساهمون في التفريغ الثقافي. ولا يفتر نشاطهم في تضليل الأجيال الناشئة خدمةً للغزو الثقافي الخائن للحقيقة.

الحلول التي يراها الغزالي لمواجهة الغزو الثقافي

حين ينذر الغزالي بأن أوضاعًا إسلامية شتى تواجه مستقبلًا كالحًا، وقد تقع للمسلمين كوارث جديدة، فإنه يبين لنا طريق النجاة ويضع بين أيدينا جملةً من الأفكار والحلول التي من شأنها مواجهة هذا الغزو الثقافي الذي ازداد سوءًا، وإذا كانت هذه المعالجة ملحة في زمن تأليف الكتاب، فإنها باتت من أولويات العمل الإسلامي الدعوي في يومنا هذا. ولا شكّ أن هذه الحلول وغيرها قد طُرحت في الكثير من المؤتمرات الإسلامية، وتبنتها جهات دعوية رسالية، وأثمرت جهودها عبر الكثير من مشاريع النهضة الإصلاحية المتجددة.

ونجمع هنا الحلول التي طرحها الغزالي في محاور ثلاثة هي:

  1. تصحيح الوعي الديني وعلاج الحاضر بفقه إسلامي، فلن يسعفنا إلا الفقه الصحيح والعلم الصافي، وتجنّب الأفكار والأخطار التي أذلتنا وهوت بنا. حتى إن الغزالي يعتبر مطاردة الفقهاء والدعاة الذين يصنعون الفراغ الفكري أهم من مطاردة تجارة المخدرات، وباعة الخمور. مشيرًا إلى أنّ بعض الشيوخ لا يفهم الحكم إلا سلطة لا تُسأل عمّا تفعل، ورعية ينبغي أن تصبر على قدرها، وتقبل كل ما ينزل بها، وعليها أن تلتزم بمبدأ السمع والطاعة وإلا ماتت ميتة جاهلية. يتقدمون بعادات وتقاليد الشعوب على أنها تعاليم الوحي، وبالأخطاء التاريخية على أنها توجيهات سماوية.
  2. إعادة النظر في ثقافتنا كلها، لننبذ منها ما ليس له رصيد من هداية الله، وإعمال العقل لإنتاج الفكر الإسلامي، ودراسة التاريخ الفقهي والسياسي دراسة اعتبار واستفادة، وضرورة الجرأة والمبادرة للعمل في معالجة إشكاليات التراث الإسلامي وإشكاليات التراث الفقهي التي تعيق تطور العقل الإسلامي وتبقيه رهن تقليد الشيوخ، ويرفض تصحيح أخطائهم.
  3. الاستيقاظ من الغفلة الطويلة ومواكبة عجلة التطور والتقدم في العالم، وإعادة النظر في العلوم الكونية والإنسانية التي تموج بها الأرض لنقتبس منها ما نحتاج إليه، وإذا لم نصنع العلوم التي تقيم هذا الإيمان وترفع قواعده فنحن نخون الإسلام … فتقديم نموذج حضاري مرتكز على قوة في العلوم الكونية وغزارة في القيم الإنسانية والروحانية هو المسلك لنشر رسالتنا التي ينبغي أن نعرّف بها شرقاً وغرباً.

«والأمم لا تنجح في أداء رسالتها إلا إذا كانت لها قدرات مادية مساندة، وحكم الوسائل هنا هو حكم الغايات نفسها، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ..أإذا اعتمد المؤمنون فى تحصيل الرغيف على عون الملاحدة أمكنهم هذا العجز من تبليغ رسالتهم؟ إذا انتظر المسلمون إمداد السلاح من غيرهم أمكنهم ذلك من الجهاد في سبيل ربهم؟»

وجهلُ المسلمين بشؤون دنياهم هو خذلان لكتاب ربهم وسنة نبيهم وعصيان لتعاليم الإسلام.

ولملء الفراغ الذي يمتدُّ فيه الغزو الثقافي يدفعنا الغزالي دفعًا نحو فهم ناضج في سياسة الحكم والمال، والعدل سياسيًا كان أو اجتماعيًا، والشورى ولو بين أفراد الأسرة الواحدة، والنظام الشامل لا الفوضى السائدة، والحرية التي تكتمل في جوها العقول وتنضج الملكات، والتعارف لا التناكر، والتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وإتاحة الفرص للفطر السليمة والمواهب الرفيعة أن تتفتح وتبدع، والتفوق العلمي والصناعي، فهذه كلها من أسباب النصر والتمكين، وجهلُ المسلمين بشؤون دنياهم هو خذلان لكتاب ربهم وسنة نبيهم وعصيان لتعاليم الإسلام.

وهكذا يلقي أديب الدعوة بالمسؤولية على عاتق المفكرين للنهوض بحال الأمة والوقوف في وجه الطغيان الثقافي المستفحل فلا يصلح حال الأمة متخلفون عقليًا وحضاريًا، ويستحيل أن يصنعوا صحوة إسلامية وهم لا يفرقون بين أسباب النصر والهزيمة، ولا يضعون السنن الكونية في اعتباراتهم. وحال الأمة الذي لا يخفى على أحد خير برهان على ذلك.

وإذا كان الغزو الثقافي الذي نبّه إليه الغزالي قادمًا من الغرب، من الاستعمار، ويعاونه المقلدون العميان، والمتدينون الذين أفرغوا له الساحة، فإن هذا الغزو المستمر إلى يومنا هذا إنما يرفع رايته المستبدُّ الذي يمكّن الكتّاب والمؤثرين بشتى أنواعهم، ويوفر لهم كلّ السبل لاجتياح عقول شبابنا، وإنتاج دين مائع يوافق الهوى، ويذوب في بوتقة الأديان الأخرى سماويةً كانت أو وثنية. والحال أن المهمة تزداد صعوبةً أمام جيل التمكين، لكنها صعوبةٌ مفعمة بحلاوة الصبر ومذاق النصر، ذلك المذاق عينه الذي كان يشعر به بلال من تحت الحجر وهو يقول: أحدٌ أحد


[1] كل ما بين مزدوجتين مقتبس من الكتاب

[2] سورة طه 124

[1]  الغزالي، محمد، الغزو الثقافي يمتد في فراغنا، دار الشروق، مصر 1985

أ. عماد كوسا

كاتب روائي وقصصي وناشط في مجال العمل الشبابي والمجتمعي.

أ. عماد كوسا

كاتب روائي وقصصي وناشط في مجال العمل الشبابي والمجتمعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى