المقالات

من نحن؟ صراع حول الوعي والهوية

هل سبق لك أن احترت وأنت تكتب ذلك التعريف الصغير بك على إحدى وسائل التواصل؟ أو أنك تلعثمت أثناء التعريف بنفسك في اجتماع عابر؟، تتزاحم في رأسك الأفكار ما هو الشيء الذي يمكن أن يختصر كياني …أن يشرح حياتي أن يحكي هويتي… يقول السياسي البريطاني الراحل أندرو بيني أن أطول رحلة في حياتك هي المسافة بين قلبك وعقلك.

ما هي الهوية؟ وما الذي يميزنا كأفراد عن الآخرين وما الذي يجمعنا بهم؟ وكيف تتشكل العلاقات بين البشر؟

الهوية

لغويا فإن تعريف الهوية بسيط وهو الجواب على سؤال ما هو؟
وعلى الرغم من بداهة الجواب أحيانا إلا أن الأمر ظل لأزمان طويلة حديث السياسيين والفلاسفة والمفكرين، إذ أن تعريفات الهوية تتعدد بتعدد معاييرها، فهناك من يصنف الناس بحسب طبقاتهم الاجتماعية كما فعل ماركس وإنجلز المنظران الشهيران للفكر الشيوعي، حيث قسموا المجتمع إلى ارستقراطيين وإقطاعيين ونبلاء وفلاحين بل وافترضوا أن هذه الطبقات تعيش صراعاً مستمراً فيما بينها.

في حين يعتبر عدد آخر من المفكرين أن الهوية أيضاً تنقسم على مستويين إلى هويتين فردية وجماعية مما يعني الحاجة إلى تعريفهما كليهما، فالهوية الفردية نابعة من وعي الإنسان بذاته وتفكيره بها[1]، صفاته الشخصية وخصائصه التي يتميز بها.

أما الهوية الجماعية فالمقصود بها الانتماء إلى جماعة -على الرغم من أنها قد تكون في كثير من الأحيان خياراً فردياً- لأن العديد من الأشخاص يشتركون بها.

فالهوية الفردية تتلخص بتعريف الإنسان لذاته وصفاته أو بتعبير أدق يختار الإنسان الصفات التي يراها أساسية في تعريفه لذاته والتي من خلالها يرى أن لحياته معنى، في حين أن الهوية الجماعية فهي ذلك الانتماء الواعي إلى جماعة أو جماعات وهذه الهوية ليست مجرد تعريف بالفرد أو الشخص بل يكمن في ثناياه حاجة عميقة للانتماء وعند أدنى تأمل ستجد أن الكثيرين يبنون بينهم وبين العديد من الأفراد روابط عاطفية قوية بفعل مشتركات على الصعيد القومي أو الديني أو اللغوي أو السياسي أو حتى على صعيد فريق كرة قدم مشهور.

لكن الهوية ومصطلحاتها ليست مجرد مفاهيم فلسفية مجردة، فهي بشقيها الفردي والجماعي تلعب دورا مهما في تشكيل أخلاق الفرد ومواقفه وسلوكياته، وهي وإن كانت سابقاً سؤالاً غائباً لبداهة إجابته عند كثير من المجتمعات الإنسانية قبل مئة عام، إلا أنها اليوم سؤال ملح لا يستطيع أحد التهرب منه.

النشأة:

من الطبيعي جدا أن أي إنسان يكتسب العديد من الصفات والمميزات بمجرد مولده، كالجنس والبلد والعرق، ويرث صفات أخرى كالثقافة واللغة، لكن الأكثر تميزاً وحضوراً هو ما يكتسبه هو بنفسه،

الدين قد يكون شيئاً تكسبه من أبواك فيُكتب في بطاقتك الشخصية ويظهر في اسمك لكنه لن يكون أبداً هوية حقيقية لك إلا بالتخلق به وبالعمل بموجبه.

وهنا تلعب النشأة دوراً هاماً في كيفية صياغة رؤية الإنسان لنفسه، فالعائلة بداية تحرص على تربية أطفالها على منظور معين لطفلها، فكم من مرة أخبرك أبوك بأننا لا نفعل هذا أو نفعل ذاك لأسباب متعددة، تارة لأننا عرب أو مسلمون، فقراء أو ميسورون، من قبيلة كذا أو من عرق كذا.. وإلى آخر تلك القائمة، وهنا تجد الساحة مليئة بتصارع الجميع على زرع أفكاره في الفرد، فالدولة القومية مثلاً تحرص دوماً على تأكيد انتماء المواطن فيها إلى تلك القومية أو ترسيخ الولاء للدولة، مما يجعلها في النهاية يؤمن بقراراتها ويطبقها بل ويدافع عنها.

فرنسا أكبر

في ربيع عام 2022 أصدر حسن الشلغومي وهو فرنسي من أب جزائري وأم تونسية تصريحاً مثيراً جداً عندما قال في مقابلة إذاعية “فرنسا أكبر بدلاً من الله أكبر” وسبب هذا التصريح الذي قام به لإذاعة يهودية هو تأكيده على أن المسلمين في فرنسا يجب عليهم أن يروا الأمور بمنظور الدولة الفرنسية وليس بمنظور الدين فقط وهنا بالتحديد يقصد الإسلام، وهذا القول بالطبع لا يمكن فهمه إلا بالنظر إلى السياق الاوسع الذي تعمل عليه الدولة الفرنسية وقوانينها القديمة الجديدة التي تهدف إلى “دمج” المسلمين في الدولة الفرنسية وضمان أن يكون ولاؤهم لفرنسا أولا وأخيرا.

حسن الشلغومي: إمام مسجد في فرنسا

لكن لا يجب علينا الذهاب بعيداً، ماذا يمكن أن تفعل إن تعارضت واجباتك كمواطن في بلد معين مع واجباتك كمسلم؟

وطبعا هذه الحالة ليست افتراضية بل هي واقع نعيشه اليوم، بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر شنت الولايات المتحدة الأمريكية حربين كبيرتين ضد بلدين إسلاميين هما العراق وأفغانستان، فماذا يمكن للمسلمين أن يفعلوا؟ هل يساندوا الولايات المتحدة وقراراتها العسكرية وينخرطوا في تطبيقها أم يغلبوا هويتهم الإسلامية ويرفضوا ذلك؟

في 12 من نوفمبر عام 2023 زار وزير الخارجية الأميركي بلينكن إسرائيل لإظهار الدعم لإسرائيل إثر هجمات السابع من أكتوبر التي شنها مقاتلو حماس خارج قطاع غزة، وخلال زيارته هذه أطلق تصريحاً تردد صداه كثيراً إذ قال أنه لم يأتِ لإسرائيل كونه وزيراً لخارجية الولايات المتحدة فقط ولكن بصفته “يهودياً فرّ جده من القتل”

وزير خارجية الأمريكي خلال زيارته لإسرائيل

هنا عاد سؤال قديم جديد إلى الظهور مجدداً، كيف تنشأ الصراعات؟ وما هو دور الهويات فيها؟

نهاية التاريخ

مع تفكك الاتحاد السوفيتي في السادس والعشرين من ديسمبر عام 1991، دخل العالم في عصر القطب الأوحد، حيث هيمنت الولايات المتحدة الأمريكية على المجال العالمي اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، بل إن الأمر تعدى ذلك إلى المجال الفكري والثقافي، فقد هُزمت الاشتراكية وانتصرت الديمقراطية الليبيرالية، وليس بينها وبين عموم انتشارها إلا سنوات قلائل، تنتهي فيها الحروب ويعم فيها السلام أرجاء الأرض، إنه عصر الإنسان الأخير كما سماه الفيلسوف السياسي الأمريكي فرانسيس فوكو ياما وإن هذا العصر هو عصر نهاية التاريخ، فنهاية الصراع يكمن في تبني الهوية الصحيحة، فالصراعات السابقة كانت بسبب الهويات الخاطئة التي وجب القتال من أجلها، في حين يقول الفيلسوف الغاني الأصل الأمريكي البريطاني الجنسية كوامي أنتوني أبياه إن :”الهويات التي تناضل من أجلها هي أكاذيب.”

يعتقد أبياه أننا نخوض حروب هوية لأننا نستمر في ارتكاب نفس الخطأ: المبالغة في اختلافاتنا مع الآخرين وأوجه التشابه بيننا وبين بني جنسنا، يرى فوكو ياما أن السبيل للسلام هو إيجاد طريقة لدمج الهويات الضيقة في الهويات الوطنية وإلا فإننا سنموت جميعنا[2]

يقول أبياه أن هناك خمسة أخطاء شائعة عند التفكير في الهوية: العقيدة والبلد واللون والطبقة والثقافة، فمثلا نحن نميل إلى التفكير في الأديان باعتبارها “مجموعات من المعتقدات الثابتة” بدلاً من كونها “ممارسات ومجتمعات قابلة للتغيير”

قد يختلف أبياه وفوكو ياما في شكل الهوية النهائي ودور الدولة فيه لكنهما يتفقان على أن الدين هو أحد العوامل الباعثة للصراع والتي يجب تجنبها أو إنهاؤها.

وعلى النقيض منهما تماماً نجد المفكر الأمريكي صموئيل هنتنغتون والذي اشتهر من خلال كتاب “صراع الحضارات” بأطروحته القائلة أن: “صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية لعوامل سياسية أو اقتصادية أو أيديولوجية، لكن توقع أن تظهر مواجهات حضارية لأسباب دينية وثقافية”.

ختاما يبدو الصراع على الوعي اليوم أشد ما يكون، كيف تعرف نفسك؟ كيف تتخذ قراراتك؟ ولمن تعطي ولائك؟ ومن أجل ماذا تقاتل؟

يبدو العالم اليوم بعد ثلاثين عاما من انهيار الاتحاد السوفيتي أشبه بما وصفه هنتنغتون وكان وصول ترامب إلى كرسي الرئاسة في أمريكا صدمة عالمية يبرز صعود تيار الشعبوية، مما دفع فوكو ياما نفسه إلى تأليف كتاب جديد حول دور الهوية في تذكية الصراعات وكيف يمكن تلافي تأثير تلك الهويات الضيقة.

ختاما يبدو الصراع على الوعي اليوم أشد ما يكون، كيف تعرف نفسك؟ كيف تتخذ قراراتك؟ ولمن تعطي ولائك؟ ومن أجل ماذا تقاتل؟


الهوامش:

[1] تأملات في مسألة الهوية، عزمي بشارة

[2] ?What Is Identity، نيويورك تايمز

أ. مضر الافندي

باحث ومهتم بالدارسات الإسلامية

أ. مضر الافندي

باحث ومهتم بالدارسات الإسلامية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى