غربة اللغة العربية عن أهلها.. بين الترقيع الانهزامي وحياكة الهوية الأصلية

في ظل التأثيرات غير الإيجابية التي خلّفها الربيع العربي على الشعوب العربية التي لم يُيَسَّر لها دفعُ الربيع إلى ذروته، ولم تشرق عليها شمس البلوغ، ولم تنعم بفيء الفلاح والوصول؛ نرى كثيراً من أصحاب العقول والشهادات والشباب الطامح إلى حياة أفضل يسعون إلى السفر لتحقيق أهداف مختلفة؛ يتصدّرها تحسين المعيشة وتحقيق الذات والفرار من قَدَرِ التراب في البلاد المكلومة. وتتوجه الأنظار إلى البلاد العربية التي تنعم بالاستقرار إلى حدٍّ كبير، ولا سيّما دول الخليج العربيّ، ومن الطبيعي أنك إذا ما أردت التقدّم إلى أي عمل أن تبدأ بإرسال سيرتك الذاتية وتعبئة الملفات المطلوبة للتقدم إلى المنح الدراسية أو فرص العمل، لكن المفاجئ أن المواقع المسؤولة عن التقدم لا تكتفي بطلب سيرتك مترجمة إلى الإنكليزية، بل تفرض عليك أن تتقدم وتملأ المطلوب منك بالإنكليزية!

إن كانت الجهة التي يتقدم إليها المرء عربية وفي بلد عربي والعمل يحتاج إلى اللغة العربية بالدرجة الأولى، فلماذا نغرّب لغتنا ونجعلها في الدرجة الثانية؟ هل يعني ذلك اعتراضنا على تثمين إتقان الإنكليزية بوصفها لغة عالمية؟ طبعاً لا، لكنه من غير اللائق بلغتنا أن تتنحى جانباً لصالح لغة غربية لا معنى لوجودها في الصدارة في سياق التقدم للحصول على منحة دراسية أو عمل مناسب.

وفي السياق نفسه تجد مؤسسات غير عربية تنظّم ملتقيات علمية تتعلق بالعلوم الإسلامية، وتُنحّي الأعمال والمقالات المكتوبة باللغة العربية، وهي أساس لا غنى عنه، وأصل لا قيمة حقيقيّة بدونه في مجال العلوم الإسلامية!

وقِسْ على ذلك كثيراً من التفاصيل التي نعيشها في بلادنا العربية، فمع وجود العمالة في بلاد الخليج أيضاً حضرت الإنكليزية بوصفها اللغة الوسيطة بينهم وبين المواطنين، مع اختلاف اللهجات الإنكليزية طبعًا، فهناك الإنكليزية البنغالية والإنكليزية الهندية والإنكليزية العربية وغيرها!

وكم وصف حافظ إبراهيم المشهد بدقّة بالغة حين قال:

سَـرَتْ لَـوْثَـةُ الْإِفْـرِنْـجِ فِـيهَا كَمَا سَرَى

 لُــعَــابُ الْأَفَـاعِـي فِـي مَـسِـيـلِ فُـرَاتِ

فَـجَـاءَتْ كَـثَـوْبٍ ضَـمَّ سَـبْـعِـينَ رُقْعَةً

مُـــشَــكَّــلَــةَ الْأَلْــوَانِ مُــخْــتَــلِــفَــاتِ

إنّها غربة اللغة؛ التوصيف الأدقّ لهذا المشهد الذي يعيشه أبناء العربيّة في أوطانهم، غربة اللغة العربية التي وصفها المستشرق الفرنسي أرنست رينان المعروف بعدائه الشديد للعرب ولغتهم في كتابه (التاريخ العام للغات السامية ونسقها المقارن) وصفاً بديعاً، إذ قال: “من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب حلّ سرّه؛ انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ بدء… فبدت فجأة على غاية الكمال، سلسةً أيّة سلاسة، غنيةً أي غنى، كاملةً لم يدخل عليها منذ ذلك العهد إلى يومنا هذا أدنى تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة مستحكمة”. وقال عن انتشار اللغة العربية بفضل الفتوحات الإسلامية والدعوة إلى الإسلام: “ما عهدت قط فتوحًا أعظم من الفتوح العربية، ولا أشد سرعة منها؛ فإن العربية -ولا جدال- قد عمت أجزاء كبرى من العالم، ولم ينازعها الشرف في كونها لغة عامة، أو لسان فكر ديني أو سياسي”.

وانظر إلى حال التعليم في بلادنا العربية، فقد زادت غربة اللغة عنا مذ أُعطِيَت الإشارةُ الخضراء لانتشار المدارس الأجنبيّة والدولية التي تعتمد اللغة الإنجليزيّة وتُنحّي العربية عن مناهجها كليًا، وتبدو في عيون المجتمعات العربية مؤسسات تعليمية راقية ومتقدّمة في مجال التعليم وبناء الأجيال

مظاهر غربة اللّغة العربية عن أهلها وأسبابها

إنّ مظاهر غربة اللغة العربية عن مجتمعاتنا باتت بيّنة واضحة لا تخطئها عين، إذ تتجلّى في صور شتى؛ منها اعتمادنا على اللهجات المحلية في حياتنا اليومية، وفي تواصلنا مع الآخرين ولو بالكتابة عبر الإنترنت! ناهيك من تحصيل المعرفة في بعض المجالات التقنية الحديثة التي تفردت بها اللغات الأجنبية بسبب استسلامنا للواقع المفروض وتأخّرنا عن ملاحقة قضايا التعريب والعناية بها، ويعكس هذا الأمر توجهاً عالمياً ورغبة كبيرة في  تنحية العرب عن المشاركة في كثير من المجالات العلمية، والمشكلة الكبيرة التي ترافق هذه التنحية هي زعزعة الشعور بالانتماء إلى الهوية العربية والتمسك بها نتيجة خلق نظرة استصغار لها لدى أبنائها من جهة ولدى الآخرين من جهة أخرى. أضف إلى ذلك تنمّر الناس والمجتمع واستهزاءهم بمن يتحدث بالفصحى، ويسعى لممارستها مع أبنائه وترسيخ حضورها في البيت وخارجه!

دعك مما سبق وانظر إلى ما تواجهه من لافتات تعريفية وأنت في طريقك إلى أي مكان تقصده، فالمحلات التجارية والمؤسسات الخاصة تعتمد اللغة الإنكليزية في التعريف والإعلان عن نفسها، وتعد ذلك ضربًا من الرقي والتحضر. أما الطامة الكبرى في تغريب اللغة العربية عن أبنائها فتبدأ من الأفلام الكرتونية والبرامج التلفزيونية المخصصة للأطفال، فمذ كنا صغاراً أدت تلك الأفلام والبرامج دوراً مهماً في تحبيبنا باللغة العربية وتقوية ألسنتنا وقدح شرارة الإتقان اللغوي والفصاحة لدينا، في حين نرى اليوم توجهاً نحو اعتماد العامية بلهجاتها المختلفة في برامج الأطفال!

وانظر إلى حال التعليم في بلادنا العربية، فقد زادت غربة اللغة عنا مذ أُعطِيَت الإشارةُ الخضراء لانتشار المدارس الأجنبيّة والدولية التي تعتمد اللغة الإنجليزيّة وتُنحّي العربية عن مناهجها كليًا، وتبدو في عيون المجتمعات العربية مؤسسات تعليمية راقية ومتقدّمة في مجال التعليم وبناء الأجيال، حتى صار بعض الآباء والأمهات يتفاخرون بأن أبناءهم لا يعرفون اللغة العربية ولا يتحدثون إلا باللغة التي يتلقونها في مدارسهم الدولية!

لا أعني مما سبق أن علينا أن نتخذ موقف المقاطعة أو العداء من اللغات الأجنبية، فشئنا أم أبينا نحن بحاجة إلى لغة عالمية نخاطب بها الآخر المختلف عنا، بل إن ذلك واجب مُلزِم مرتبط بالانتماء إلى العقيدة الإسلامية، على أن يكون ذلك في ضوابط معينة وواضحة وتضمن حضور اللغة الأم التي تعزز الشعور بالانتماء وتبلور معنى الهوية في أذهان الأجيال. إذ يؤكد الدكتور فتحي جمعة أستاذ علم اللغة السابق بكلية دار العلوم في كتابه (اللغة الباسلة) أنّ مدارس اللغات من غرس المحتل، وأنها أدّت إلى غياب الفصحى وإبعادها عن مدارج التعليم.

ما ذَلّت لغةُ شعبٍ إلا ذلّ، ولا انحطَّت إلا كان أمرُهُ في ذهابٍ وإدبارٍ

مَنهجيّات للحدِّ من غربة العربيّة عن أبنائها

لا بدّ بداية من تحديد موقفنا من غربة اللغة العربية عن أبنائها، ولا بد أن نسأل أنفسنا عن مدى اهتمامنا بهذا الموضوع، وإدراكنا للعلاقة القائمة بين تغييب اللغة وتأثير ذلك على تزعزع الشعور بالانتماء والاعتزاز بالهوية، ولا بد أن ننطلق من رغبتنا بالانعتاق من سيطرة نفسية المغلوب علينا وشعورنا بسطوة الغالب فقد أكّد ابن خلدون في مقدمته أن: “غلبة اللغة بغلبة أهلها، وأن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم”. ويأخذنا هذا القول إلى التركيز على دور الإعلام وبرامجه في تحبيب اللغة العربية وتقريبها للناس جميعًا، صغارًا وكبارًا، لا سيما أن كثيراً من القنوات الإعلامية صارت تتجه في إعداد برامجها إلى اعتماد اللهجات العامية لتلقى قبولاً أكبر لدى المشاهدين. وكذلك الحال في وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يعتمد كثير من الناس والمؤثرين فيما يكتبونه على اللهجات المحلية، ربما لستر ضعف لديهم في امتلاك اللغة وعدم قدرتهم على التعبير بالفصحى بسلاسة وسهولة، وربما يُعزَى ذلك إلى رغبتهم باستقطاب السواد الأعظم من الناس، لكن هذا النهج يسيء إلى لغتنا العربية ويزيد اغترابها عن أبنائها، ويخلق مسافة بينها وبينهم، ويؤطرها بصورة نمطية في أذهانهم بوصفها لغة الكتب والتحصيل المدرسي والعلمي فحسب.

ومن الوسائل المهمة للانعتاق من غربة اللغة العربيّة الارتباط بالقرآن الكريم حفظاً وترتيلاً، ولنا في قصة الوليد بن المغيرة عبرةً؛ فحين سمع آيات من القرآن الكريم أعجب بها أَيَّما إعجاب، وكأنه سحر لغوي بديع نزل على قلبه وعقله، وذلك لسلامة ذوقه اللغوي والأدبي، فقال قولته الشهيرة: “والله لقد سمعتُ منه كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمُغدِق، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، وما يقول هذا بشر”. لكنه أبى واستكبر ورجّح الجهالة والوجاهة على صوت الحق والعقل. وما يهمنا من قصته هو حِسّه اللغوي العالي الذي ما كان ليكتسبه هو وأبناء جيله من العرب آنذاك لولا سلامة العربية وفصاحتها وجريانها على ألسنتهم ودورانها على أسماعهم بأجمل ما يكون من حلل أدبية وشعرية نفيسة.

ولكي يكتسب أبناؤنا مثل هذه الحاسة الذوقية اللغوية الرفيعة يجب أن يبقوا في معرض الاستماع للغة العربية الصحيحة السليمة الفصيحة، ويجب أن ينهلوا من معين العربية بالقراءة الموجهة والمطالعة المحببة، لا سيما في ظل هذا الغزو الثقافي واللغوي الذي يتعرضون له في وسائل التواصل الاجتماعي من جهة، وفي واقعهم وأيامهم من جهة ثانية.

وليتنا نتمثل قول مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله- في (وحي القلم) عن أهمية اللغة وارتباطها بعزة شعبها، إذ قال: “ما ذَلّت لغةُ شعبٍ إلا ذلّ، ولا انحطَّت إلا كان أمرُهُ في ذهابٍ وإدبارٍ””. وقوله في كتابه (تحت راية القرآن): “إنما اللغة مظهر من مظاهر التاريخ، والتاريخ صفة الأمة… فكيفما قلَّبتَ أمر اللغة -من حيث اتصالها بتاريخ الأمة واتصال الأمة بها- وجدتَها الصفة الثابتة التي لا تزول إلا بزوال الجنسية وانسلاخ الأمة من تاريخها”.

د. إيناس بوبس

أستاذة جامعية وكاتبة متخصصة بالأدب والنقد ومعنيّة بقضايا اللغة العربية والمجتمع

د. إيناس بوبس

أستاذة جامعية وكاتبة متخصصة بالأدب والنقد ومعنيّة بقضايا اللغة العربية والمجتمع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى