ضرورة التدافع في الحياة
تمنح المدافعة مساحات من الحرية في المجتمعات التي تعيشها وتمنع الاستبداد والحكم المطلق وتحسن من ظروف القمع على مراحل إلى أن تزيله بشكل كلي، ولقد طورت الحضارات المتعاقبة وسائل متعددة لتحقيق سنة التدافع بين الفئات المختلفة في المجتمعات، وتعد الديمقراطية كنظام سياسي والرأسمالية كنظام اقتصادي بنسخه المتطورة هي أقصى ما استطاع العقل البشري من انتاجه في العصر الحاضر لتنظيم العلاقات بين الأطراف من غير الاستعانة بالتوجيهات والإرشادات الربانية، وعلى الرغم من جوانب القصور الكبيرة فيها إلا أن فيها ميزات جعلت لديها القابلية للاستمرار في ظل غياب النموذج المثالي الذي يجمع بين التوجيهات الربانية والاجتهادات العقلية للإنسان، أهم هذه الميزات أنها تتوافق مع بعض السنن الربانية التي جعلها الله لتنظيم الحياة في هذا الكون، ومن هذه السنن سنة المدافعة، حيث تسمح آلياتها بحدود من المدافعة الداخلية التي تصلح ما يفسده أي طرف من أطراف المعادلة، وذلك نتيجة لتجارب طويلة خاضتها البشرية مع الاستبداد والحكم المطلق الذي يحاول أن يصبغ المجتمعات البشرية بصبغة واحدة ولون وشكل واحد، ولعل النظام الشيوعي والاشتراكي آخر التجارب البشرية الاستبدادية المنظمة والتي تستند لمرتكزات فكرية، والتي عانت ولازالت تعاني منها الكثير من الدول التي طبقتها وتسببت في تخلف مجتمعاتها وصبغتها بصبغة واحدة حتى في المأكل والملبس، ولعل أهم أسباب فشل النظم الاشتراكية الاقتصادية وعدم استمراريتها هو في مخالفتها للسنن الكونية، ومنها غياب سنة المدافعة في تركيبة النظام الاشتراكي الذي يصبغ المجتمعات بصبغة واحدة ويحولها إلى طبقة واحدة ويجعل من الإدارة المركزية هي الإله المتحكم في تفاصيل ما ينتج وما يستهلك البشر.
إن نظرة المسلم للحياة تجعله يدرك ويستوعب لماذا يجب أن يكون هناك مدافعة بين الحق والباطل، لأن هذه المدافعة ينتج عنها تكلفة مادية وبشرية مرتفعة في بعض الأحيان وتضحيات كبيرة يقدمها من يتصدر المدافعة أو يقودها
ولا يمكن فهم سنة التدافع والتغيير دون فهم النظرة الكلية للحياة لدى المسلم وهي ما تناوله المقال السابق، حيث إن نظرة المسلم للحياة تجعله يدرك ويستوعب لماذا يجب أن يكون هناك مدافعة بين الحق والباطل، لأن هذه المدافعة ينتج عنها تكلفة مادية وبشرية مرتفعة في بعض الأحيان وتضحيات كبيرة يقدمها من يتصدر المدافعة أو يقودها، وينقسم الناس في نظرتهم لهذه التضحيات بحسب الإيمان بالنظرة الكلية التي يحملونها حول وجودهم في الحياة، ونظرة المسلم لسنة التدافع تختلف عن نظرة الأخرين أصحاب الأيديولوجيات المختلفة وهنا يظهر مستوى الفهم لحقيقة وجود الإنسان في هذه الحياة، فهي ليست مسائل مجردة بحكم الواقعية التي يعيشها الإنسان، ففي ظل الحياة المادية ينطبع بعض المسلمين بطابع النظرة المادية أكثر من النظرة الإيمانية، وذلك لأن الحياة الدنيا هي من ضمن الفتن والاختبارات التي وضعت لتقيس مدى إيمان الإنسان بعالم غيبي وجزاء أخروي غير مرئي مقابل واقع في حياته الدنيا مرئي ومحسوس، ونظرة الإنسان لهذه التضحيات من كونها خسائر أو مكاسب ومن كونها كانت ضرورية أو أنها عبثية كل ذلك تحكمه النظرة الكلية للحياة.
وحتى يستوعب المسلم سنة المدافعة فإنه يجب عليه أن يتيقن أن هناك سنن وضعها الله جل وعلا في هذا الكون، واستشفاف هذه السنن واكتشافها يكون بإعمال العقل والنظر فيمن سبق من الأمم السابقة، كما في قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُكَذِّبِينَ}، وفي قوله تعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}، فهذه السنن لا تتغير ولا تتبدل بنص القرآن، فبناء التصورات والأفكار والمواقف يجب أن يكون وفق هذه السنن، وهنا لفتة مهمة أن الحضارة الغربية السائدة اليوم والتي بدأت مع بداية عصر التنوير الأوروبي والتي نشاهد اليوم بعض إيجابياتها استمدت هذه الإيجابيات من تجارب الأمم السابقة كما وصانا الخالق جل وعلا في القرآن بذلك، ولكن بسبب انحرافها في النظرة للدين كرد فعل على بشاعات وجرائم الكنيسة، والاقتصار على العقل البشري المحدود وقطع الصلة بينه وبين الإرشادات الربانية وقع العقل الغربي في عبودية المادة والذات.
لماذا تجب المدافعة؟
يجيبنا الله -عز وجل- في ثلاثة آيات بشكل مباشر على أن وجود المدافعة هو أمر أساسي في الحياة التي خلقها وخلق نظامها، فعندما خلق الله الإرادة للبشر ليختبرهم في الحياة أوجد لهم نظاماً وسنناً تنظم هذه الإرادات المختلفة بينهم، وهذه المسألة واضحة في كتاب الله حين ذكر سنة المدافعة في سورة البقرة واعقبها بسنة الاختلاف في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}، وكلما أراد الإنسان أن يخالف هذه الأنظمة والسنن أفسد الأرض التي خلق عليها وأفسد حياة الناس من حوله، وأفسد نفسه وجعلها في شقاء، أما غايات المدافعة التي ذكرها الله لنا في القرآن فهي:
أولا: أهم غايات المدافعة هي منع الفساد في الأرض لئلا يستبد مجرم أو ظالم على حياة الناس كما كان جالوت الظالم المستبد، وتحققت مدافعته عبر فئة قليلة مؤمنة وثابتة بعد أن تخلى عنهم المنافقين من بني إسرائيل، وكان على رأس الفئة المؤمنة الملك طالوت الذي ملكه الله عليهم، فبعد أن ذكر الله تعالى أحداث هذه المعركة العظيمة التي حدثت مع هذا الظالم وهزيمته هو جيشه، ذكر سبحانه وتعالى أهمية سنة المدافعة في قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}.
والمدافعة لا تستلزم أن تكون قوة أهل الحق أكبر من قوة أهل الباطل وإنما يكفي أن يعد أهل الحق إعدادهم بقدر الاستطاعة وبذل الأسباب الممكنة، وإيمانهم وعقيدتهم بالإضافة للأسباب المبذولة هي التي تهزم العدو، وإن كان العدو لا يهزم دائماً بشكل نهائي في الصراع مع أهل الباطل، وإنما تكون أهداف المدافعة تخفيف من الفساد إلى أن يزول بشكل تدريجي، لأن استمرار الاستبداد دون أن يكون حوله من يدافعه وينغص عليه فساده ويرفع عليه كلفة استبداده يجعله يتمادى أكثر وأكثر حتى يصل إلى مرحلة الألوهية كما حدث مع فرعون حين قال لقومه: أنا ربكم الأعلى.
ففي قصة طالوت وجالوت هزم العدو ولكن في مواقف أخرى لم يهزم العدو من تلك المدافعة، وإنما كان من أهداف المدافعة هي بيان الحق للناس كما في قصة أصحاب الأخدود، حيث كان الغلام في سعة من أمره في مواجهة الملك الذي كان يعلم أنه سيقتله، ولكن لأن الرؤية للحياة واضحة لدى الغلام فإنه استطاع أن يقنع قومه كلهم بالإيمان بالله والكفر وبالملك عن طريق تضحيته بروحه وتحقيقه للهدف الذي يسعى إليه، فهدفه لم يكن أن يعمر طويلاً في الحياة، وإنما كان هدفه أن يكشف الحقيقة لقومه ويؤدي رسالته التي شعر أنه مكلف بها، وأما حياة الخلود فهي في الآخرة، وعندما اتضحت الرؤية عند قومه فضلوا الموت حرقاً بالنار وهي أشد صور الموت إيلاماً للإنسان حين ينظر إليها بمادية مجردة على أن يتبعوا طريقاً غير الطريق الصحيح الذي ظهر لهم على يد الغلام، وكذلك في قصة سحرة آل فرعون الذين آمنوا بصدق حين عرضت أمامهم الأدلة بصدق موسى وعرفوا الغاية والهدف من وجودهم في هذه الحياة فكان جوابهم لفرعون {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}.
المدافعة لا تستلزم أن تكون قوة أهل الحق أكبر من قوة أهل الباطل وإنما يكفي أن يعد أهل الحق إعدادهم بقدر الاستطاعة وبذل الأسباب الممكنة، وإيمانهم وعقيدتهم بالإضافة للأسباب المبذولة هي التي تهزم العدو، وإن كان العدو لا يهزم دائماً بشكل نهائي في الصراع مع أهل الباطل، وإنما تكون أهداف المدافعة تخفيف من الفساد إلى أن يزول بشكل تدريجي
ثانياً: المدافعة تحافظ على الدين وتجعل هناك مساحات من الحرية في التجمعات البشرية وتصحح الأخطاء وتتلافاها، فالمدافعة لا تعني الحرب بالسلاح فقط، فقد تكون المدافعة بالموقف أو الكلمة أو الفعل بكافة درجاته، والمدافعة بكافة أنواعها تمنح الناس مساحات من الحرية في ممارسة معتقداتهم وأفكارهم المختلفة، وتمنع الاستبداد الذي يقود المجتمع نحو سلوك خاطئ خاضع لاجتهاد بشري مهما كان صالحاً، فكيف حين يكون هذا الاستبداد هو استبداد على باطل وإجرام وشر، وفي ذلك يقول الله عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
وهذا أمر ملاحظ في المجتمعات المعاصرة حيث يشاهد أن المجتمعات والدول التي تتوفر فيها شيء من المدافعة بين مكوناتها تكون الحريات فيها أكبر وتصحيح الأخطاء فيها أعم، في حين أن المجتمعات التي تتخلى عن المدافعة يتملكها الاستبداد ويسود فيها فكر له شكل ولون واحد، لأن من يخالف هذا الفكر سيكون خارج على رأي المستبد الذي عبر عنه القرآن في قصة فرعون حين قال لقومه رداً على مؤمن آل فرعون: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}، وتتعايش الشعوب مع هذا الاستبداد لأنها لا تريد أن تتحمل ثمن المدافعة التي تمنحهم حرية تمكنهم من الدفاع عن معتقداتهم وأفكارهم التي يؤمنون بها فضلاً عن ممارستها.
كما أن هناك ارتباط وثيق بين مستوى الحرية في المجتمع وبين الفساد كما تشير إلى ذلك الدراسات الحديثة، والفساد بكافة أشكاله الذي يمارس اليوم هو نوع من الفساد الذي أخبر الله عنه في القرآن وأخبر بأن سنة المدافعة تقضي عليه، فمن التزم بهذه السنن بغض النظر عن دينه وعرقه ولونه فإنه سيحصل على النتيجة، فالعالم العربي والإسلامي الذي يسير بخلاف السنن الكونية عبر تشريع الاستبداد هو يحارب أصل الإسلام وإن كان يتمسك بمظاهره، لذلك يلاحظ تأخر هذا الجزء من العالم سياسياً واقتصاديًا واجتماعياً.
ثالثاً: من أهداف المدافعة هو الاختبار والابتلاء الذي وضعه الله للناس في هذه الحياة، فالاختبار هو نتيجة للإرادة والاختيار الذي منحه الله للإنسان، فتحديد الانسان لاختياراته بين الإيمان والكفر وبين الحق والباطل تستلزم وجود اختبارات قد تكون قاسية في بعض الأحيان ليتبين مدى صدق الإنسان وقوة إيمانه، حيث قال جل وعلا: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ}، فالله جل وعلا قادر على أن ينتصر لأهل الحق وأن يهزم أهل الباطل، ولكن اختبار المؤمنين الصادقين في إيمانهم يتم عن طريق المدافعة بين أهل الحق وأهل الباطل، وشواهد هذه المسألة في القرآن الكريم كثيرة، ودائمًا ما تستحضر حين يكون هناك حديث عن المواجهة وشدة الابتلاء فيقول الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} وفي قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.
فطريق المدافعة طريق فيه الكثير من الابتلاءات والتضحيات لأنه يحقق أهداف عظيمة تتمثل في حفظ الدين ومنع الفساد في الأرض ومن يتصدره يبذل نفسه وماله ووقته حتى يعيش بقية الناس في أمن وسلام، ويمارسون معتقداتهم في حرية وكرامة، ومن يسلكون هذا الطريق لهم مكانة خاصة في الإسلام وعند الله، وهذا ما سيتناوله المقال القادم بإذن الله..