المقالات

العبودية.. خواطر في المفهوم والسلوك

ربما لستُ أهلاً لأن أقدّم خواطر شخصية، فالخواطر شأن إنساني خاص بكل امرئ من جهة، ولأن تقديم الخواطر الفعّالة أليق بالمفكّرين العظماء والعلماء الربانيين، وأنا لا أملك من بضاعة هذين الصنفين ما يمنحني حق الجرأة في الكلام.

وعلى الرغم من ترددي، وإحجامي، إلا أن ساعة خلوة دفعت القلم ليخطّ ما ستراه في هذا المقال، فإن وجدت فيه خيرًا فذاك من نعمة الله وتفضّله، وإن كان فيه قصورٌ ونقصٌ، فذاك منّي ومن وسوسة الشيطان، فلا تدعه يمضي عنك دون أن تكرمني بتصحيحه.

في ظلال آية

عادة ما يقشعر بدني حين أسمع قول الله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56- 58] ففيه من العظمة الربانية -وكلام الله كله عظيم- والتحدّي للمخلوقات ما يكفي عن عشرات المحاضرات والكتب، إنه تذكير خالد بالأصل والغاية والضعف. فكل ما يمتلك العقل -جن وإنس- هم عبيد اضطرار ومكلّفون بعبودية الاختيار، وهم من الضعف الأصيل فيهم بحيث إنهم لا يستطيعون أن يأتوا بحركة دون أن يكون للباري فيها قضاء ماضٍ، وما تنفع عبادتهم لله -كرهًا أو طوعًا- سوى أنفسهم، فالله هو الرزاق ذو القوة المتين.

فالإنسان والجانّ يملكون قرار أنفسهم بالطاعة والمعصية، والإيمان والكفر، وما غاية وجودهما إلا أن يتحققوا بهذا النوع من العبودية الاختيارية، ويعيشوا في كنفها، امتحانًا لهم وابتلاءً

ولك أن تتساءل، ما الفرق بين عبودية الاضطرار والاختيار؟ وما أثرها في حياة المرء وما حوله؟

لا يخرج عن عبودية الاضطرار شيء في الكون، من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة، فهي أمر كوني، منشأه الخَلق والإيجاد والتملّك، وهذا أجلّ ما يُتمدّح الله به {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 83]، فالخلق كله خاضع لله خضوع اضطرار لأنه وُجِد بأمر الله وقدره، وكل ما في الكون عائد إليه {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]، أما عبودية الاختيار، فهي التسليم بالمعنى الأول وتوحيد الله والانقياد لأوامره والشعور بالحاجة إليه والفقر لكرمه على جميع الأحوال، فالإنسان والجانّ يملكون قرار أنفسهم بالطاعة والمعصية، والإيمان والكفر، وما غاية وجودهما إلا أن يتحققوا بهذا النوع من العبودية الاختيارية، ويعيشوا في كنفها، امتحانًا لهم وابتلاءً.

لا بدّ للإنسان من صف يختاره، فإما أن يذعِن لتكليف الله له بالإيمان أو أن يتولّى إلهًا آخر، وهو مصداق قول الله تعالى {وَلِكُلٍ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148]، وقوله تعالى: {أرأيت مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان: 34] وفي كلٍّ عبودية، فإما أن يتحدد سلوك الإنسان بناء على توجيه من الله واستمدادٍ منه، أو على توجيهٍ من سرديات بشرية أو شيطانية تدفعه لغاية أخرى بعيدًا عن مراد الله.

مشاعر العبودية.. بين القرآن والنبي  

هل يمكن أن يشكّل وصف العبودية لله نقصًا عند الإنسان؟ هذا بالضبط ما يستشعره المنكرون المعاندون، فهم يشعرون بتكبّر نفسيٍّ يزيد الشرخ بينهم وبين فهم الإيمان يومًا بعد يوم، يتناقضون بين أن يروا أنفسهم “مجرد هباءة كونية” أو “جين أناني” أو “إنسان إله” أو “كائن لا يؤمن بالخرافات” لكنهم على التحقيق يذعنون لعبوديات أخرى، ليس الهوى والتكبر والعناد واليأس والاندفاع لتحقيق رغبات النفس إلا بعض مفرداتها.

لقد جعل الله معنى العبودية له تكريمًا لأنبيائه وأقرب أصفيائه، فحين أراد وصف الملائكة قال عنهم {سُبْحَانَهُ ۚ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26- 27] وحين أكرم نبيه محمدًا في ليلة الإسراء ذكره بصيغة العبودية، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1] ووصف المؤمنين الصالحين بأنهم {عِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] وهذا كله يؤكد أن وصف العبودية لله أعلى ما يمكن أن يتحصل عليه كائن في الوجود.

إن الشعور بالعبودية ينظم الرابطة السلوكية بين الإنسان والله، فهو إصرار على أن يكون كل تصرف من الإنسان أمام ربه نابعًا من استشعار عظمته من جهة، وإقراره بحاجته وعبوديته له من جهة أخرى

إن الشعور بالعبودية ينظم الرابطة السلوكية بين الإنسان والله، فهو إصرار على أن يكون كل تصرف من الإنسان أمام ربه نابعًا من استشعار عظمته من جهة، وإقراره بحاجته وعبوديته له من جهة أخرى، وهو ما نراه في أمر الله نبيه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] فكل الحركات والسكنات، وكل لحظات المحيا والممات، لله وحده طوعًا واستشعارًا وتلبية لنداء كل نبي أرسله الله {اعۡبُدُواْ ‌ٱللَّهَ ‌مَا ‌لَكُم منۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُ} [الأعراف: 59].

كيف يمكن أن يستنكف الإنسان عن الشعور بهذا، والكون كله يسجد ويسبح لله ويعلن ارتباطه الأزلي والأبدي بخالقه، {أَوَلَمْ يَرَوْا إلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيءٍ يَتَفَيَّأ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ والشَّمَائِلِ سُجَّداً للَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * ولِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالملائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 48- 49]  وهذا يضعنا أمام السؤال الجوهري:{أَفَغَيْرِ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرجَعُونَ}[آل عمران: 38]

وإذا ما طفنا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقفنا عند ذكره الله ودعائه له، لشعرنا الروح تحلق في عالم من التجلّي الرباني، إنابة لله وتحقُّقًا بالإيمان به.. كرّر إن شئت قول النبي ﷺ حين علم صحابته أعظم صيغة للاستغفار، فقال: (سيّد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربِّي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنَّه لا يغفر الذنوب إلا أنت)[1].

وهديه لمن أراد النوم أن يقول: (اللهم إنِّي أسلمت نفسي إليك، ووجَّهت وجهي إليك، وفوَّضت أمري إليك، وألجأتُ ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلَّا إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلت، وبنبيَّك الذي أرسلت)[2]، وتوجه لمن تكاثرت عليه الهموم أن يستذكر عبوديته لله فيقول: (اللهم إنِّي عبدُك وابنُ عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسمٍ هو لك، سمَّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاءَ حزني، وذهاب همِّي)[3].

إن هذه الأذكار -ومئات غيرها مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم- مناجاة يقين وخضوع، وإقرار بربوبية الله للكون، وطلب للمدد منه، وبيانٌ لحال الإنسان، ويقين بأن لا ملجأ إلا باب الله العلي العظيم؛ فكثرة الذكر يُعلِّق الإنسان بالله، ويظهر عبوديَّته له، وإذا ما اكتملت عبوديته كَمُل إيمانه؛ وهذا لبّ ما يعلّمنا إياه رسول الله الأكرم.

إياك نعبد.. وإياك نستعين

إذا ما أقرّ الإنسان بالعبودية لله فلا بد أن يصطبغ سلوكه بمطالب العبودية، فإن الإنسان يقف كل يوم يخاطب الله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، في بيعة تؤكد عجزه وعزمه على العمل بما يرضيه، وهل ثمة شيء يرضي الله أكثر من إقامة حقيقة الإسلام في أنفسنا وما حولنا؟

الطرق كثيرة، ومنظومة تعاليم الإسلام في الأوامر والنواهي دقيقة وواضحة ومباشرة، تبيّن صفات المؤمنين، والصالحين، والكافرين، وطريق الخير والشر، وما ينبغي على العصاة فعله ليعودوا إلى طريق الحق.

ولعل ختام سورة الفرقان يوضّح لنا الغاية السلوكية من حقيقة الاتصاف بالعبودية، فعباد الرحمن {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}  [الفرقان:63- 70].

ولو أن إنسانًا رسم صورة للإنسان الكامل لم يكن بمقدوره أن يتجاوز هذه الصفات التي تجمع بين الإيمان بالله وتوحيده، والتواضع، والحلم، وضبط النفس، والسير على صراط الله المستقيم، والعفو عن الجاهل، والبعد عن الظلم وسفك الدماء بغير حق، والإحسان للناس.

ولأن نيل مقام العبودية الحقة صعب المنال، فلا بد من الجمع بين التقوى والصبر، وهكذا نصل إلى غاية المقام فـ {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] وبهما -التقوى والصبر بهما يرقى الإنسان إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى ويحقق هويته ويمارس عبوديته لله سبحانه وتعالى حبًّا واختيارًا.


[1] أخرج الحديث البخاري في صحيحه، وفي تتمة الحديث قوله: “من قالها من النَّهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنَّة، ومن قالها من الليل وهو موقنٌ بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنَّة”

[2] أخرجه البخاري في صحيحه، وفي تتمة الحديث قول النبي: “فإن متَّ من ليلتك متَّ وأنت على الفطرة، واجعلهنَّ من آخر كلامك”

[3] أخرجه الإمام أحمد في المسند، وفي تتمة الحديث أن من قال هذه الكلمات: “إلا أذهب الله عز وجل همَّه، وأبدله مكان حزنه فرحًا. قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلَّم هؤلاء الكلمات. قال: أجل، ينبغي لمن سمعهنَّ أن يتعلمهنَّ”.

د. عرابي عبد الحي عرابي

دكتوراة في الفلسفة الإسلامية

د. عرابي عبد الحي عرابي

دكتوراة في الفلسفة الإسلامية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى