الهوية وصراع القيم.. أين نحن من ذلك؟
لعل واحدة من أبرز مميزات المجتمعات المعاصرة، ما يمكن أن نصفه بـ “مسار انمحاء العلامات الفارقة” لبعضها البعض تدريجيًّا، بفعل عوامل كثيرة، مما جعلنا أمام التباس واضح في هويّة ما نراه أمام أعيننا، من لباس، وهندسة معمارية، وتراجع حضور اللغة العربية في أرضها في ميادين التعليم والإعلام، واندثار عادات اجتماعية أصيلة لتحل مكانها عادات مستوردة تتأرجح انتماءاتها إلى ثقافات شتى، إلا أنها باتت -بحسب ما يبدو للناس- منتشرة في العالم كلّه، تغذّيها وسائل التواصل الاجتماعي، من بعد ما أسست لها فكرة العولمة وأدواتها الاستثمارية.
إن ما يميز المجتمعات الإنسانية، قيامها على خصائص تؤكد وجود الاختلافات بين بعضها البعض، وهو ما يندرج في مفهوم الثقافة والقِيَم، إلا أن تغيّر هذه القِيَم أمام صراعٍ مباشر مع قِيَم وافدة وليدة سيطرة ثقافية واقتصادية غربية على العالم، جعل الأساس المنشئ لهذه القِيَم -وهو الهوية- أمام خطر الخضوع لهيمنة الآخر عليها، وهو ما يتطلّب تحرّكًا ما -بحسب التخصصات والإمكانات- وموقفًا شخصيًّا -بادئ ذي بدء- يؤكّد رسوخَ الهويّة الإسلاميّة ويسعى للتذكير بها وبدورنا في دعم قيمها أمام الانكسار لهويات وقيم أخرى في زمن سيولة الواقع وغياب المعنى.
من البدَهي أن يقدّم الإنسان بين يدي أفكاره إشارة إلى مضمونها، مما يعدّ “براعة في الاستهلال” بحسب منهجيات الكتابة التراثية، بالرغم من هذا، فإني لا أجد مقدّمة تحقق هذه البراعة، ولهذا سألجأ لتقديم السؤال الآتي: ما المقصود بالهوية، وما علاقتها بالقِيم، وما الصراع الذي يواجهانه، وهل من خطُوات ينبغي اتباعها؟
ألف باء الهوية والقِيم
ينظر معظم علماء الكلام في الحضارة الإسلامية إلى الهوية بوصفها جزءًا من الماهية، وهي الصفات المميزة للشيء عمّا سواه، ولا تطلَق إلا على ما يمكن تعقُّله، أو تصوّره، مثل تصور معنى الإنسان، من حيث وجوده وصفاته ومعناه العام، وكأن هذا التصور جواب عن سؤال “ما هو” إلا أن وجود هذا المعنى في شخص ما، يعدّ هويّة له تميّزه عمّا سواه. [التعريفات، الجرجاني، مادّة ماهية].
قريب من هذا رؤية مفكري الفلسفة للهوية، فالهويّة في الفلسفة هي حقيقة الشيء المطلقة، التي تشتمل على صفاته الجوهريّة المميّزة له عن غيره، وبذلك فهي تمتلك خاصيّة مطابقة الشيء لنفسه وأمثاله، [الهوية الشخصية- موسوعة ستانفورد للفلسفة]، بناء على ذلك، فإنّ الهويّة الثقافيّة أو القِيَميّة لحضارة ما -بوصفها المظلة العامّة للمجتمعات- هي تعبير للقدر الثابت والجوهري والمشترك من المميزات التي تميّزها عن الحضارات الأخرى، ومهما اختلَفت القيم والثقافة التي تنطبع بها مجتمعاتها عن بعضها البعض -كاختلاف ثقافة الطعام في باكستان عن ثقافته في بلاد الشام، أو اختلاف ثقافة اللباس في بلاد الحجاز عن ثقافة اللباس في بلاد المغرب الإسلامي- فإنها كلها ستبقى قريبة من الضوابط التي وضعتها هوية الحضارة الإسلامية، مما يجعل المجتمعات الإسلامية في أي مكان أقرب للتطابُق أو التشابه مع بعضها البعض، فكرًا وثقافةً وعادات، نظرًا لانطلاقها من هويّة حضارية واحدة.
هذا ما يفتَرَض أن ننتبه إليه -بشكل عام- عند الحديث عن الهوية، فهي قريبة لأن تكون تعريفًا للشيء بما يتطابق مع خصائصه ومميزاته أمام خصائص ومميزات أشياء أو مجتمعات أخرى.
إن تطور الحقول الفلسفية وانفصالها عن بعضها تدريجيًّا، جعل نظرة المفكرين المعاصرين للهُوية مختلفًا، فباتت مفهومًا متنوّعًا بحسب مساحة النظر إليه، فهي في علم النفس مختلفة عمّا عليه في العلوم الاجتماعية، ومن هنا يمكننا فهم ظهور دعوات لاعتبار هويّة الشخص الموضوعية شيئًا مختلفًا عما يختاره من التعريف الخاص به، فصار من حق الشخص -ضمن بيئة فكرية غربية غالبًا- أن يغيّر من تعريفه الخاص وهويته المولود بها، ليختار هوية أخرى، ومن هذا المنطلق يحق للمتحول جنسيًّا أن يرفض هويته الموضوعية، مثل أن يكون ذكرًا منذ الولادة، ويختار لنفسه نوعًا آخر -أنثى مثلاً- ويعرِّف نفسه به بوصفه هويّة مكتسبة أو طبيعية له، في تهديد واضح للوجود الإنساني، ونقله من حالة الاستقرار البشري، إلى حالة الاضطراب والدعوة للتطبيع مع هويات مختَرَعة.
سؤال يحتاج جوابًا؟
ينبغي -اتساقًا مع السؤال المتقدم: “هل ثمة صراعات قائمة بين القيم الفكرية وبين الهويات؟”- الوقوف عند إجابة سريعة له.
يؤكد الواقع المعيش وجود حالة ترهُّل وانسحاب للثقافة الذاتية وقيمها -في المحيط الإسلامي- مقابل تصاعد حضور قيَمٍ وافدةٍ من سياقات أخرى!
ولكي لا يطول بنا الشرح، سأفترضُ أن كثيرًا ممن يقرأ هذا المقال، عرَضت له مشاهد مصوّرة، أو حقيقة، عن بطلين تجمعهما قصة حب، يجثو فيها الشاب على إحدى ركبتيه، مقدّمًا في الوقت ذاته علبة حمراء فيها خواتم، يعلِن فيها رغبته بالزواج من الفتاة التي تمسك بيدها باقة من زهور -حمراء في الغالب-.
يحقُّ لك أن تضربَ صفحًا عن هذا المشهد، وتقول ما شئت عن تسويغه -رغم أنه وافدٌ من ثقافة غربية في الدرجة الأولى، وغذّتها مظاهر عديدة على مرّ العقود-. لكن ما رأيك في بلادٍ عربيّةٍ تفرض في كثير من جامعاتها أن يقف الأساتذة أمام طلبتهم من العربِ ليقدّموا لهم موادّ طبيّة أو هندسية أو فيزيائية بلغة فرنسية أو إنكليزية، رغم أن لا بلدَ في العالَم كلّهِ يفرضُ تعليمًا ما بلغةٍ أجنبيَّة إلا في استثناءات محدودة؟
مظاهر لا تكاد تنتهي، يمكن الطواف بها ومصادفتها ليل نهار في سياق تقليبك لصفحات التواصل الاجتماعي في هاتفك، أثناء حديثك مع أولادِك أو أقاربك، ترصد فيها تغيّر مفاهيمهم عن العدالة والرحمة والأخوة والصداقة والإيمان والكفر …إلخ.
هذا كله يؤكد بلا ريب، أن قيمنا أصبحت عرضة للضياع، وأن هويتنا التي تُظِلّ هذه القيَم، تتعرّض لنقد كثيف ومحاولات لتغيير جوهرها وصفاتها المميزة لها عن غيرها من الهويات الأخرى.
يشير القرآن بشكل جليٍّ إلى أن الإسلام جوهرٌ مميزٌ للمسلم عمّا سواه، فهو الأساس الذي يشكّل الهوية المسلمة، وفلسفته هي التي تضبط خصائصها، وهو ما نراه في هدي القرآن، منذ أن قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] وما تلا ذلك من آيات عديدة، توضح تفاصيل هذه الوسطية، وموقف الآخر منها، فقال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] وقوله {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] وقوله {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:109]
إن منطق الأمر بسيط، فالجهل بقيمة الذات، يولّد انبهارًا أمام الوافد، ويدفع فضول الإنسان للتشبه بالغريب، نوعًا من أنواع التمرد والمواجهة، أمام القِيَم المجتمعية التي لا يفهم وجودها واستمرارها، إزاء رغبته بالتشبع بالقيم الحديثة.
إن أجلى ما يمكن أن نعبّر عنه، حول واقع الهويّة والقيم في واقعنا المعاصر، نابع من هول الصدمة، فعادة ما يحدث تصادم بين القيم الثقافية الوافدة والأصيلة، ويقاس انزياح القيمة بحسب رسوخ الهوية في وجدان الفرد بداية والمجتمع ثانيًا، ومن ثم فإن المجتمع الذي فقد شغفه بمظلّته الأولى، ومفاهيمها اليومية، سيعاني أفراده -لاسيما الشباب- من التراجع لصالح كل ما هو جديد.
إن منطق الأمر بسيط، فالجهل بقيمة الذات، يولّد انبهارًا أمام الوافد، ويدفع فضول الإنسان للتشبه بالغريب، نوعًا من أنواع التمرد والمواجهة، أمام القِيَم المجتمعية التي لا يفهم وجودها واستمرارها، إزاء رغبته بالتشبع بالقيم الحديثة.
إن هذا الانزياح قد لا يتحول إلى سقوط الهوية، ويقتصر على تبعاتٍ ثقافية يوميّة بسيطة، إلا أن زيادة الانتشار الأفقي والعمودي سيؤدي لنزع روح الهوية من المجتمع وإلباسها روحًا افتراضيّة جديدة، ومن هنا يبدأ يتخذ الصراع مسارًا آخر، قد يتحول إلى عنف دمويّ بين المتمسّكين والمتمردين، في سبيل محاولة كل طرف إثبات ذاته وهويته، وكثيرًا ما يؤدي هذا الصراع إلى فقدان المجتمع لرباطه الحضاري ويدفعه للانقسام العمودي أمام أحد الخيارين، الذوبان أو التصلّب.
ختام القول.. ما المطلوب منا؟
يمكن القول، إنه مهما اختلفت التصورات أو التعريفات للهوية، إلا أنها تندرج في مجملها ضمن بناء مفهوم ما للشخص أو الذات أو المجتمع يراهُ ممثلاً له ومعبِّرًا عن ماضيه وتطلُّعاته، وإن انزياح هذه الهوية لصالح هوية أخرى، يهدّد المجتمع -على المدى الطويل- لتغيير سلوكياته وأفكاره اليومية لصالح الهوية الأقوى.
هذا الوجه من الصراع بين القيم والهوية يتجلى في تفاصيل هائلة داخل المسلسلات والروايات والسلوكيات البشرية اليومية ومواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما يدفع للتساؤل حول الواجب الذي يجب اتخاذه أمام هذا الواقع؟
إن انزياح الهوية لصالح هوية أخرى، يهدّد المجتمع -على المدى الطويل- لتغيير سلوكياته وأفكاره اليومية لصالح الهوية الأقوى.
الحلول كثيرة، والمشاريع المقدّمة في هذا الإطار واسعة، ونرجو نجاحها وينبغي دعمها، إلا أن الأفضل -برأيي- هو تعزيز حضور الهوية الحضارية الإسلامية في وجدان الشباب، من خلال إعادة إنتاج القيم الثقافية بشكل سهل التناول، وسريع الانتشار، وظاهر التأثير، سواء عبر الروايات أو المسلسلات الدرامية أو الرسوم المتحركة، أو المنصات الدعوية والمخيمات التي تستهدف النخبة والطلبة في كل مكان.
لا بد من تقديم القيم ومن خلفها الهوية التي أنتجتها والبذرة التي أنبتتها، بشكل يوصلها إلى هدفها الحقيقي، وذلك في إطار “الحق” و”الباطل”، مما يُظْهِرُ خلف الصراع نماذج الأفكار وتجلياتها في السلوك والواقع اليومي، بهدف إعادة بناء جسر التواصل بين الإنسان والمجتمع، والمجتمع والحضارة كربيعٍ يزهِر بعد شتاءٍ قاسٍ.
#شتاءٍ