المقالات

الانفتاح المعرفي في شخصية الداعية.. (الشيخ حسين الجسر نموذجاً)

الدكتورة مجد عبد المجيد قمر

يعدّ الانفتاح المعرفي من أبرز السمات التي يجب أن يتحلّى بها الداعية المعاصر، لاسيما في عصر النوافذ المفتوحة، التي باتت فيه الدعوة فعلاً تواصليًا واعيًا، يقوم على الفهم العميق للواقع، والقدرة على التفاعل مع متغيراته الفكرية والثقافية، مع الالتزام بالجانب الإيماني المتجذر في شخص الداعية.

  فالداعية المنفتح معرفيًا هو من يمتلك عقلًا مرنًا، يقبل الحوار، وينظر إلى العلوم الإنسانية والطبيعية بوصفها وسائل لفهم سنن الله في الكون، لا تهديدًا لثوابت الدين.

ويتحقق هذا الانفتاح من خلال الإلمام بمناهج التفكير الحديثة، والانخراط في قضايا العصر بروح نقدية متوازنة، بعيدًا عن الانغلاق أو الاندفاع، أو التفريط بالثوابت وضروريات الدين، بل هو أرقى أشكال الفهم للدين، حين يصبح العلم والمعرفة أدوات لتعميق الإيمان، لا لتقويضه.

وممن تجلت فيهم هذه السمة  الشيخ حسين الجسر الطرابلسي(1845–1909)  من أعلام التجديد الديني  في العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، وقد تميز بمنهج فكري متوازن جمع فيه بين الالتزام بجوهر العقيدة الإسلامية والانفتاح  على مكتسبات العصر الحديث.

ففي ظل احتدام الصراع بين التيارات المحافظة والدعوات التغريبية، جاء مشروع الجسر ليشكل طريقاً ثالثاً يتجاوز الانغلاق ويرفض الذوبان، مستنداً إلى قاعدة صلبة من الفهم العميق لنصوص الشريعة وروحها، وإدراك دقيق لمعطيات الواقع ومتغيراته

ولعل من أبرز ملامح مشروعه التجديدي،  ذاك الانفتاح المعرفي على الآخر،  وهو انفتاح لا يُبنى على التقليد، بل على وعي نقدي يستوعب الآخر ويعيد تموضع الذات في سياق فكري واجتماعي متوازن.

تهدف هذه المقالة إلى دراسة مظاهر الانفتاح المعرفي في فكر الشيخ الجسر وسيرته العملية، من خلال تتبع جهوده في التعليم، ومواقفه من الفكر الغربي، وعلاقاته بالآخر الديني والدعوي،  واستخدامه للصحافة، فضلاً عن توظيفه للتصوف كرافد أخلاقي وروحي في مشروعه  التجديدي.

تميّز الشيخ الجسر بعقلية تحليلية قادرة على التمييز بين ما هو نافع وما هو مرفوض في الفكر الغربي، فلم يكن من الداعين إلى القطيعة التامة مع الغرب، ولا من المفتونين به بلا وعي. بل رأى أن كثيراً من علوم الغرب ومعارفه يمكن أن تُسهم في نهضة المسلمين، شرط أن تُعرض على محك الشريعة والعقل .

أولاً: التعليم بوصفه مدخلاً للانفتاح والتجديد

انطلق الشيخ الجسر في مسيرته  التجديدية من قناعة راسخة بأن العلم هو الوسيلة الأنجع لنهضة الأمة، وهو ما يؤكده في مجلة رياض طرابلس (3/ 113) إذ يقول: “اعلم أن الغربيين لما انتبهوا من نوم الغفلة، وتيقظوا من سبات الغباوة، وجدوا أن أحسن طريق لترقيهم من معارج الكمال، وصعودهم على ذروة المدنية… انتشارُ المعارف بينهم، وتعميمها بين الكبير والصغير، والغني والفقير، والعظيم والحقير..”

ويؤكد على أن  التعليم ينبغي ألا يقتصر على الجوانب التقليدية، بل يجب أن يستوعب العلوم الحديثة التي باتت تشكل أساس التقدم في الغرب، إلى جانب التمكن من العلوم الشرعية، التي هي الأساس الذي لابد منه في شخصية الداعية المعرفية والإيمانية،  و لهذا أنشأ “المدرسة الوطنية” في طرابلس، والتي كانت بمنهجها المتكامل ثورة تعليمية في بيئة  محافظة، فقد  جمعت بين العلوم الشرعية كالقرآن والتفسير والحديث، وبين الرياضيات والفيزياء واللغة الفرنسية

وقد دعا الشيخ الجسر إلى تطوير المناهج وتوسيع آفاق المعرفة الدينية بحيث تستوعب الفكر العلمي الحديث، مؤكداً أن لا تعارض بين علوم الدنيا والدين إذا ما وُضعت الأمور في سياقها الصحيح.

وقد مثَّلت هذه المدرسة الجانب التطبيقي من فكر الشيخ الذي سعى إليه في كتبه، وإنه وإن لم يُكتب لها الاستمرار، لكنها شكلت بداية لرؤية عصرية أثمرت فيما بعد،  لإيمانها بضرورة حضور العلوم الدينية والكونية في إعداد شخصية الداعية، وعدم الفصل بين تدريس كلا العلمين، لضمان مواكبة حركة التقدم والتطور العلمي في المجتمع المسلم، ولتربية جيل مسلم متدين، واع بثقافة عصره، قادر على مواكبة تطوراته، في آن واحد.

ثانياً: الانفتاح على الفكر الغربي دون الذوبان فيه

تميّز الشيخ الجسر بعقلية تحليلية قادرة على التمييز بين ما هو نافع وما هو مرفوض في الفكر الغربي، فلم يكن من الداعين إلى القطيعة التامة مع الغرب، ولا من المفتونين به بلا وعي. بل رأى أن كثيراً من علوم الغرب ومعارفه يمكن أن تُسهم في نهضة المسلمين، شرط أن تُعرض على محك الشريعة والعقل .

لقد ناقش الجسر في كتابه “الرسالة الحميدية  قضايا علمية حساسة مثل نظرية النشوء والارتقاء، حيث تعامل معها بعقلية كلامية ومنهج تفسيري نقدي، مبيناً أن الإسلام لا يتناقض مع العلم إذا فُهم النص الديني فهماً مقاصديًا  صحيحاً.

 فقد ناقشها الجسر  بمنحى عقلي مختلف عن غيره، ولا بد من التدقيق فيه؛ لئلا يُتوهم أن الشيخ قد نصر هذه النظرية، فقد يُقتبس كلامه عن إمكانية التوفيق بين الدين ونظرية التطور، إيهاماً أنه يقول بالتطور، دون فهم لسياق الطرح الكلامي الجدلي عنده، فالشيخ الجسر فنَّد نظرية النشوء والارتقاء، التي اشتهر اتباعها من قِبَل معظم مثقفي القرن التاسع عشر، وردَّ على مزاعم داروين فيها، وحلل آراءه وناقشها، إلا أنه يبين وفي سياق مناسب للفكرة العامة التي دارت عليها الرسالة الحميدية من أولها إلى آخر -وهي عدم التعارض بين العلم والدين، أو بين النقل والعقل- أن: نظرية النشوء والارتقاء إذا ثبتت بأدلة قطعية، وهيهات هيهات أن تثبت! – على حد تعبيره- فإن قواعد التفسير لا تعارض في تأويل ظواهر النصوص بما يوافقها، مع فرق جوهري: هو أن النشوء عند أتباع داروين يدور في فلك المادية الطبيعية التي تنكر وجود الخالق، في حين أن النشوء والارتقاء إذا ثبت بدليل قطعي علمي، وأُولت ظواهر النصوص لتوافقه، فإنه يبقى ضمن العقيدة التي تؤمن بوجود خالق لهذا الكون. كما يبدو للمطلع على الرسالة الحميدية (ص/ 290).

ثالثاً: الانفتاح على الآخر الديني والفكري

شكّل الانفتاح على الآخر الديني  والفكري  أحد أبرز ملامح مشروع الشيخ الجسر، الذي لم يكن منغلقًا في دائرة مذهبية أو دينية ضيقة، بل آمن أن التعاون مع المختلفين دينياً أو مذهبياً أمر تفرضه مصلحة الأمة العليا، ولا يقدح في الثوابت العقدية. لقد نسج علاقات فكرية مع مفكرين من  مشارب دينية وفكرية  متعددة، من بينهم:

  • بطرس البستاني، المفكر المسيحي النهضوي.
  • جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، حيث جمعهم مشروع واحد يهدف إلى تجاوز الانقسام والنهوض بالمجتمع من خلال وحدة الغاية والرسالة.
  • رشيد رضا الذي كان من ألمع تلاميذ الجسر، والذي يصف الجسرَ  بـ “أستاذنا” و”شيخنا”، على الرغم من المشرب المختلف لكل منهم، فقد كان الجسر صوفياً خلوتياً بل استلم مشيخة الطريقة في لبنان، أما محمد رشيد رضا: فمع تتلمذه عليه كان بينهما مساجلات فيما يتعلق بالطرق الصوفية التي أنكر عليها رشيد رضا، وقد دارت نقاشات بينه وبين الجسر في ذلك، وأنكر الجسر على التلميذ موقفه، فقال عن بعض مقالات (مجلة المنار): “ظهر المنار بأنوار غريبة، إلا أن أشعته مؤلفة من خيوط قوية كادت تذهب بالأبصار” ومع ذلك فقد بقي التلميذ معترفاً بفضل أستاذه، وبقي بينهما روابط اتصال، يقول رشيد رضا مخاطباً شيخه: “إنني لا أزال أعدُّ نفسي تلميذاً لك، وإن كنتَ أعطيتني شهادة العالمية، وأجزتني بالتدريس…” الأزهر والمنار، رشيد رضا، (ص/172، 173).  

ولن آتي على تفاصيل ذلك الجدل بينهما فيما يخص الطرق الصوفية؛ إذ يحتاج دراسة خاصة للنصوص والمساجلات، لكن الملفت في الشيخ الجسر: أنه لم يتخل يوماً عن إيمانه بالحقائق الصوفية، فكراً وسلوكاً، ومع ذلك فقد فرض احترامه على كل من حوله، ممن تصدر للإصلاح والتجديد في عصره، وإن اختلف المنهج المتبع في ذلك التجديد، ليعطي أنموذجاً يحتذى للصوفي العابد، والعالم الطموح، والمصلح الاجتماعي، في خط للعمل المشترك، يلتقي فيه مع دعاة التجديد في عصره.

الانفتاح لا يعني التفريط، كما أن التمسك بالهوية  لا يعني الجمود، بل لا بد من وعي نقدي راسخ يجمع بين الأصيل والمعاصر.

رابعاً: الصحافة كمنبر للمعرفة والحوار

لم يكتفِ الشيخ الجسر  بالتعليم  كوسيلة للتبليغ والتأثير، بل وسّع نطاق نشاطه الفكري إلى الصحافة، فأسّس جريدة “رياض طرابلس الشام”، لتكون منبراً لإيصال الأفكار الإصلاحية إلى عموم الناس والنخب في آنٍ معاً..

لقد أدرك أن التغيير لا يتم فقط من خلال المدارس أو الخطب، بل لا بد من خطاب إعلامي يعالج قضايا العصر، ويستنهض العقول، ويحاور الأفكار المنتشرة، سواء جاءت من الداخل أو من الغرب.

لذا نجد أن الجريدة تناولت مواضيع متنوّعة، من التربية والتعليم، إلى الإصلاح الديني والاجتماعي، بل وحتى المسائل الاقتصادية

لقد  خاطب الجسر من خلالها مختلف طبقات المجتمع، بلغة مبسطة دون أن تفقد عمقها،  مما يدل على إدراكه العميق لأهمية إيصال المعرفة بلغة يفهمها الناس، لا بلغة النخبة  فحسب.

خامساً: التصوف في مشروعه الدعوي

استطاع الشيح حسين الجسر من خلال تصوفه، وانتمائه إلى الطريقة الخلوتية أن يجعل التصوف أساساً  لتربية  النفس وترسيخ القيم الأخلاقية، لا بديلاً عن العمل، أو داعياً إلى الانعزال. بل يمكن القول إن التصوف عنده كان مكملاً للعقل، يزكّيه ويوجهه، ويضبط إيقاعه بضوابط السكينة الروحية.

يحدثنا ابنه محمد الجسر في مقدمة تحقيقه للرسالة الحميدية عن مشربه الصوفي فيقول: “فعَقَدَ حلقات الدروس على مختلف أنواعها للخاصة وللعامة، ولم يترك مع ذلك الجهة الثانية التي اشتهر بها والده وهي المسلك الروحاني، بإرشاد المريدين على الطريقة الخَلْوَتيَّة، وعقد حلقات الذكر والعبادة في داره الخاصة” (مقدمة الرسالة الحميدية، محمد الجسر)

وبذلك برهن الجسر أن الصوفيَّ الحقَّ نسقٌ مفتوح، يقبل الآخر ويفيد من تجاربه إن خدمت المجتمع المسلم، وأن التصوف ليس مدرسة منعزلة عن الفكر الإسلامي؛ لذا وجدناه منفتحاً على شخصيات من مشارب شتى، مادام يجمعها هدف واحد، وهو خدمة الأمة الإسلامية أولاً، والمجتمع الإنساني ثانياً.

خاتمة

لقد مثّل الشيخ حسين الجسر مثالاً للداعية الموسوعي، الذي خاض غمار التعليم، والتأليف، والإعلام، والحوار المجتمعي، من أجل بناء وعي معرفي جديد في الأمة الإسلامية.

وتبرهن تجربته أن الانفتاح لا يعني التفريط، كما أن التمسك بالهوية  لا يعني الجمود، بل لا بد من وعي نقدي راسخ يجمع بين الأصيل والمعاصر.

إن مشروع الجسر يبقى مفتوحاً أمام كل من يعتز بعقيدته وانتمائه الديني الأصيل، ويسعى لنشر ثوابته الإيمانية، وتجربته السلوكية، بروح متسعة، وفكر منفتح، لا يخشى الآخر؛ لأنه يمتلك  ثقة راسخة بمنظومته الإيمانية والعقدية، تجعله مؤهلاً للدخول في مساحات الحوار دون تردد، فالثوابت التي يستند إليها ليست موضع شك، بل هي نتاج تفاعل طويل بين النص والعقل والتاريخ، ما يمنحها قوة ذاتية ومرونة في آن.

غراس للإنتاج الفكري

مركز غراس للإنتاج الفكر ي هو مؤسسة غير ربحية معنية بتحرير وتناول القضايا الفكرية والاجتماعية المعاصرة، تأسست في أكتوبر/تشرين الأول لعام 2023 ، والموافق ربيع الأول 1445 للهجرة.

غراس للإنتاج الفكري

مركز غراس للإنتاج الفكر ي هو مؤسسة غير ربحية معنية بتحرير وتناول القضايا الفكرية والاجتماعية… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى