
بين النسوية والصهيونية
في قراءة لكتاب (قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى) للمفكر المصري د. عبد الوهاب المسيري يقدح في ذهن القارئ أسئلة من قبيل:
ما هي الجهات الخفية وراء نشأة النسوية؟ وهل هي حركة استعمارية بلبوس جديد؟ وما علاقتها بالحركة الصهيونية؟ وهل النسوية والصهيونية وجهان لعملة رائجة؟
تقدح هذه الأسئلة وغيرها بعد الاطلاع على المقارنات الموجزة التي يعرضها الكاتب في باب (حركة التمركز حول الأنثى والصهيونية) بعد تشريح هذه الحركة وردها إلى جذورها وتبيان التحورات التي طرأت عليها إلى أن وصلت إلى الواحدية السائلة والتماهي في سياق عالم ما بعد الحداثة، والتي تفضي إلى إثبات العديد من أوجه الشبه بينهما.
كيف يمكن أن تتشابه النسوية مع الحركة الصهيونية؟
لكي نصل إلى الأسئلة المطروحة أعلاه ونبحث لها عن أجوبة تعالوا نلقي الضوء على المقارنة التي أجراها المفكر المصري دكتور عبد الوهاب المسيري في تبيان وشرح هذه الحركة وأوجه الشبه بينها وبين الحركة الصهيونية
- وضح المسيري أن حركة التمركز حول الأنثى تقوم على تضخيم الأنثى ومعاداة الشريك البشري الآخر (معاداة الرجل). بالمقابل ترتكز الصهيونية على معاداة الإنسانية المشتركة، وتقسم البشر إلى يهود وباقي العالم، وتضخم دور اليهود وتجعلهم شعب الله المختار المختلف عن باقي البشر.
- فلا الحركة النسوية تؤمن بالإنسانية المشتركة، ولا الحركة الصهيونية تؤمن بالإنسانية المشتركة.
- وفي حين تركز النسوية جهدها في تضخيم حقوق المرأة ومعاداة الرجل، وتُمترس الأنثى في خندق المواجهة الشرسة مع الرجل بهدف تعمق الشرخ بين الأنثى والذكر، فإن الصهيونية التي تضخم دور اليهود وتعادي الشعوب كافة وبالأخص الشعب الفلسطيني تقوم بتعميق الشرخ بين اليهود وغير اليهود، بدعوتها إلى عودة يهود العالم إلى أرض فلسطين. وبذلك فإن الصهيونية تُمترس اليهود في خندق معاداة الإنسانية وسحق الفلسطيني وطرده من أرضه.
- تتموضع المرأة في أدبيات النسوية ككائن فريد وبريء ولها معاناتها الخاصة عبر التاريخ، وبالمقابل فإن اليهود يعتبرون أنفسهم يواجهون العالم المختلف عنهم ببراءتهم وفرادتهم ومعاناتهم.
- لم يسجل للنسوية (حركة التمركز حول الأنثى) موقف حميد أو جهد في الدفاع عن حقوق الإنسان بصورة عامة، ولم يصدر منها أي شكل من أشكال التعاطف مع المستضعفين، وكذلك لا تسعى الصهيونية للدفاع عن حقوق الإنسان بصورة عامة، بل لا تبذل أي مجهود في محاولة الدفاع عن الحقوق المدنية والسياسية والدينية لليهود أنفسهم في مجتمعاتهم المشتتة في دول العالم.
- تحافظ النسوية على نسق تأججها وشرعنة معاداتها للرجل متطفلةً على حركة التمركز حول الرجل (رد الفعل)، فكل رد فعل من الرجل هو حطب في مواقدها. كذلك فإن الصهيونية تتخذ من أعداء السامية أو أعداء اليهود ذات الوظيفة.
- مبدأ الحقوق المطلقة هو الآخر سمة بارزة في الحركتين، ففي حين تعتبر النسوية أن الأنثى مستضعفة مهضومة الحقوق وعليها أن تسعى لتصبح مستقلة تتمتع بحقوق مطلقة ليس للرجل فيها حتى أذن الجمل -باعتباره العدو المطلق الذي يستحق كل اللعنات- فإن الصهيونية في الدولة القومية المستقلة تعتبر الشعب اليهودي شعبًا معذبًا يعاني من التشتت وضياع الحقوق، وعليه أن يسعى ليصبح شعبًا متمركزًا في فلسطين له حقوق مطلقة ليس فيها للفلسطيني لا أذن جمل ولا حتى جناح بعوضة.
- كما تتحول النسوية في عالم ما بعد الحداثة إلى واحدية سائلية تتلاشى فيها الأنثى بالذكر(وتتخلص من ثنائية ذكر-أنثى)، كذلك فإن الصهيونية تتحول إلى واحدية سائلة تريد أن تتخلص من ثنائية (يهود فلسطين ويهود العالم) إلى واحدية (جمع اليهود في دولة قومية واحدة)، وبالتالي فإنها ترى أن جهود اليهود في المنفى أمر شاذ، أما انتقالهم إلى أرض فلسطين ليعيشوا مثل بقية شعوب العالم في دولة قومية ذات توجه غربي هو الأمر الطبيعي.
أي أن الواحدية السائلة تتجاوز جمع اليهود كلهم في دولة واحدة والتخلص من ثنائية (يهود المنفى ويهود فلسطين) إلى واحدية سائلة تدمج اليهود بغير اليهود (المختلفين عنهم) ويبرز ذلك في سعيها إلى بناء دولة ذات توجه أمريكي، وتلقيها الدعم من الغير (فالغير الذين كانوا مختلفين سابقًا تحولوا إلى أصدقاء داعمين، ومتماهين في الحركة).
- وكما تتلقى النسوية دعمها من الغرب، فالحال ذاته بالنسبة للصهيونية.
وبثبات المرأة أمام هذه الحركة الهدامة تثبت الأسرة – الحصن الحصين- في وجه التغلغل الاستعماري، ويثبت المجتمع أمام مخططات العبث التي لجأت إلى استعمال القوى الناعمة بعد أن أرهقتها التكلفة العسكرية الخشنة. وتثبت المرأة في هذه المواجهة حين يقف إلى جانبها الرجل الواعي المدرك للصورة الكلية والمتفهم لحقوقه وواجباته وحقوقها وواجباتها،
هل النسوية حركة استعمارية؟
بعد أن صارت الكلفة العسكرية للاستعمار باهظة جدًا ظهرت أدوات أخرى أقل تكلفة وأعمق أثرًا وأشد وطأةً في بسط السيطرة على العالم العربي والإسلامي. وأدركت القوى التي ترمي إلى السيطرة العميقة على الشعوب العربية والإسلامية أن رحلتها تبدأ من تفكيك الأسرة التي هي نواة المجتمع، ونواة الأسرة هي الأم، وبتفتيت هذه النواة تتفتت الأسرة ويتفتت المجتمع.
بدأت هذه القوى ببث قضايا الأنثى التي من شأنها تأجيج الصراع مع الذكر، مرتكزة إلى تهميش حقوقها في هذه المجتمعات، وبدأت تسحبها من إطار الأسرة بإعادة تعريف حقوقها وإتاحة مساحات جديدة تحقق لها هويتها الجديدة، وهذه المجتمعات التي غيبت حقوق المرأة وأبعدتها عن دورها الحضاري أفسحت الأرضية الملائمة لنمو حركة التمركز حول الأنثى، التي كانت على الدوام تتغذى على غياب القيم وانتشار الجهل لتعمم هذه الحالة على أنها الحالة السائدة. وإذا كانت هذه الحركة قد دخلت من مدخل مناصرة المرأة ودعمها لنيل حقوقها الطبيعية فإن مرامها كان أبعد من ذلك بكثير، وكما أشار المسيري سابقًا لم تقف القضية عند الحقوق المشروعة، بل تعدتها إلى ما هو أبعد بكثير، مرورًا بالتمحور حول الأنثى ومعاداة الرجل، وصولًا إلى الواحدية السائلة والـ (uni sex).
يعتبر المسيري في كتابه المذكور أن الأسرة كانت على الدوام من أهم الحصون ضد التغلغل الاستعماري، فهي المؤسسة التي تورث المنظومات القيمية وتحافظ على الخصوصيات القومية والذاكرة التاريخية والثقافة والهوية، وبانهيارها ينجح النظام العالمي الجديد من خلال التفكيك في تحقيق الأهداف التي أخفق النظام الاستعماري في تحقيقها عسكريًا من خلال المواجهة المباشرة.
كما يشير المسيري إلى توظيف الحركة النسوية لصالح الحركة الصهيونية إلى أعمق مدى، وبذلك لا تبقى النسوية في سياق تقابلها مع الحركة الصهيونية مجرد حركة تتشابه مع حركة استعمارية، بل أمست حركة موظفة لصالح مشروع النظام العالمي الجديد عمومًا، ولتعبيد الطريق أمام المشروع الصهيوني خصوصًا.
وبعد قراءة وفهم مضمون وأهداف حركة التمحور حول الأنثى، والاطلاع على أوجه الشبه بينها وبين الحركة الصهيونية، ومدى مواءمتها مع النظام العالمي الجديد، لا بدّ أن تقدح في ذهن القارئ تلك الأسئلة التي ينبغي أن تنقله إلى حيز التعمق والاكتشاف وبناء الرأي استنادًا على القرائن والشواهد والأثر.
وتأتي خطورة القضية حين تتبناها المسلمات تحت مظلة حقوق المرأة، ولكن النسوية كما فككها المسيري لا شأن لها بحقوق المرأة، وإنما تهدف إلى تفكيك المنظومة القيمية والإرث الحضاري الثمين المنقول على كتف مؤسسة الأسرة التي قوامها ودعامتها المرأة، ما ينبغي على المسلمات التعمق في أدبيات النسوية وظروف نشأتها وماهية أهدافها، وأثرها في المجتمعات.
وبثبات المرأة أمام هذه الحركة الهدامة تثبت الأسرة – الحصن الحصين- في وجه التغلغل الاستعماري، ويثبت المجتمع أمام مخططات العبث التي لجأت إلى استعمال القوى الناعمة بعد أن أرهقتها التكلفة العسكرية الخشنة. وتثبت المرأة في هذه المواجهة حين يقف إلى جانبها الرجل الواعي المدرك للصورة الكلية والمتفهم لحقوقه وواجباته وحقوقها وواجباتها، والشراكة الأزلية في نصرة الحق، وحين يعي الرجل أن خروجه عن إطار الحقوق والواجبات المشروعة هو تغذية لنار الحركة النسوية، وأن هذه النار لن تلتهم المرأة فحسب، بل سوف تلتهمه وما حوله معها.