المقالات

الحكم الإسلامي والدولة الحديثة: بين الاتفاق والاختلاف

ماذا يعني الحكم الإسلامي في واقعنا المعاصر؟

وبماذا يختلف عن الدولة القومية الحديثة التي تهيمن على عالمنا اليوم؟

وهل يمكن إقامة حكم إسلامي من خلال الدولة الحديثة أم إنّ ذلك متعذّر لتناقضهما؟

وهل علينا – حين نصل إلى الدولة – أن نهدم كلَّ شيء ونعيد بناء النموذج الإسلامي من الصفر؟

    هذه الأسئلة وغيرها هي مما يتداوله الشباب المسلم اليوم عند الحديث عن الحكم الإسلامي وإقامة الشريعة في واقعنا المعاصر. وهي لا شكّ متأثّرة بأطروحات لشخصيات إسلامية وغير إسلامية برزتْ في السنوات الأخيرة، وأحسب أنّها عبثتْ – مع الأسف – في طرق التفكير السليم، وفي مبادئ شرعية راسخة استخدمها أئمّةُ المسلمين في أصول الفقه وتلائم كل عصر، مما ولّد نزعات منفصلة عن الواقع وعن مصالح المسلمين الراهنة.

إنّ كثيرًا من الناس يحسب أنّ “النظام الإسلامي” أو “الحكم الإسلامي” سيكون نموذجًا مختلفًا تماما عما هو موجود اليوم في الأنظمة السياسية المعاصرة، أو أنّه يرفض تمامًا كل البنى السياسية والإدارية والاقتصادية القائمة اليوم، وهذه في نظري خرافة كبيرة.

    وسواء كانت تلك الأطروحات تقول – في حدّية مفرطة – بالتناقض الجذري بين الدولة الحديثة ومؤسساتها وبين المفهوم الإسلامي “التاريخي” للحكم الإسلامي، أو كانت تقدّم نموذجًا مثاليّا جدّا للحكم الإسلامي لم يُطبَّق يومًا بشكله هذا، ولا يُنبئ الواقع عن إمكانية تطبيقه.. ففي كلتا الحالتين، وما يدور في فلكهما من أفكار ومفاهيم، يميل الشباب إلى أطروحات مثالية لا تشتبك مع الواقع الراهن بعقلية “ما لا يُدرك كُلّه لا يُترك كُلّه” و”الميسور لا يسقط بالمعسور”، المستفادة من قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16)، وقول رسوله صلّى الله عليه وسلّم: “وإذا أمرتُكم بأمرٍ فَأْتوا منه ما استطعتُم” (صحيح البخاري). بل ترضخ في النهاية للمفاهيم العلمانية لنظام الحكم السياسي والنظام الاقتصادي، وذلك حين ترى الهوّة البعيدة جدّا بين الواقع الراهن وبين صورة الحكم الإسلامي في أذهانها!

    ومن جهة أخرى، هناك أطروحات “استسلامية” إن جاز التعبير، مهمّتها الوحيدة هي إعلان المقولة التالية: ما تجدونه اليوم عند الغرب من قيم ديمقراطية ونظام مواطنة ودولة القانون وغيرها من القيم السياسية التي تشكّلت ورسخت في الغرب؛ هو في الواقع مطابق لنظام الحكم الإسلامي الراشد. فتنشغل هذه الأطروحات الاستسلامية في الإتيان بشواهد على أنّ “الشورى هي الديمقراطية”، أو حول “الدولة النبوية العقارية”، أو “دولة المدينة باعتبارها دولة مواطنة”، أو أننا حين نحقق “الحرية والعدالة والمساواة” نكون قد طبّقنا النظام الإسلامي.. وما شابه من إسقاطات تحريفية للواقع المعاصر على التاريخ.

    والحقيقة أنّ الواقع يُغني عن هذه الأطروحات والحبر الذي كُتبت به؛ فهي لم تقدّم جديدًا سوى القول بأنّ النموذج المثالي للدولة الراشدة التي يرتضيها الإسلام هو دولة المواطنة الديمقراطية الغربية، وكان من الإنصاف أن ينادي هؤلاء بهذه الدولة مباشرةً دون تكبُّد عناء نسبتها إلى الإسلام والحكم الراشد، وأن يعلنوا بأنّهم لا يملكون أي نموذج سياسي مختلف عن الواقع، ولا يسعون إلى إقامة نظام حكم إسلامي!

****

    بعد هذه المقدّمة أقول: إنّ كثيرًا من الناس يحسب أنّ “النظام الإسلامي” أو “الحكم الإسلامي” سيكون نموذجًا مختلفًا تماما عما هو موجود اليوم في الأنظمة السياسية المعاصرة، أو أنّه يرفض تمامًا كل البنى السياسية والإدارية والاقتصادية القائمة اليوم، وهذه في نظري خرافة كبيرة.

ويقيني أنّ تماسك الحضارة الغربية حتى يومنا هذا رغم كل ما ينخر فيها من آفات ومهلكات قيمية واجتماعية وسياسية ومالية راجعٌ إلى بقاء بعض القيم الراشدة في بنية أنظمتها، سواء كانت الخروج من الجَور الخانق والاستبداد القاتل ورفع المظالم، أو الرقابة على المال العام ومحاربة الفساد إلى حدّ كبير، أو وجود بعض أنظمة التكافل الاجتماعي وحماية الفئات الضعيفة

    وأقول في البداية منعًا لسوء الفهم: نعم، في النظام الإسلامي اختلافات جذرية على مستوى البنية والمبادئ والأهداف وكثير من الممارسات عن الأنظمة الحالية، جمهوريةً كانت أم ملكيةً، ديمقراطيةً أم استبدادية، فأنا لا أقدّم هنا الأطروحة التي نقدتُها في فقرة سابقة، ولكنّ ذلك لا يمنع أنّ كثيرا مما يمارَس اليوم ضمن “الدولة الحديثة” يدور في الواقع بين ثلاثة أمور:

  1. أشكال ووسائل ومؤسسات فرضها تطوّر البشرية العلمي والتقني، مع التضخّم السكاني والحاجة إليه، كطريقة التمثيل غير المباشرة عبر الانتخاب، وكشيء من البيروقراطية في الإدارة والتنظيم التي لم تكن مستطاعة في عصور خلت من هذا التطوّر الهائل في وسائل الاتصال والنقل والطباعة والأتمتة وغيرها، وقد فصّلتُ ذلك في بداية مقالي الدولة الإسلامية: بين وائل حلاق وعبد المجيد الشاذلي فليراجَع.
  • مبادئ وقيم لم يتفرّد الغرب باختراعها، بل نشأت عنده نتيجة تفاعله مع التراث البشري السابق على نهضة أوروبا، ومن بينه التراث الإسلامي الذي اطلع عليه الغربيون في مراحل مختلفة سواء في الشرق إبّان الحروب الصليبية، أو في الأندلس إبّان نهضتها وعند سقوطها، أو في بدايات الاستعمار الحديث. كمبدأ الفصل بين السلطات، وحقّ الأمة في اختيار من يحكمها، وحرية العبادة وغيرها من المبادئ التي تعتبر اليوم أساسية في الأنظمة الديمقراطية، وكالنظام الكينزي في الاقتصاد الذي يعطي الدولة دورًا محوريّا في مراقبة الأسواق، ويعنى بتحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة ويشجّع على الإنفاق، وكذلك كون الحاكم موظّفًا ليس له من المال إلا ما خُصّص له، وهو مبدأ راشد ضيّعه الملوك المسلمون – إلّا من رحم ربّك – عبر قرون طويلة من التاريخ الإسلامي، فخلطوا بين المال الخاص والمال العام، وأعاد الغربيّون تأسيسه مع بعض الخلل، فلا نرفضه لمجرّد أنه قادم من الغرب، فأساسه من إرثنا الراشد!

ويقيني أنّ تماسك الحضارة الغربية حتى يومنا هذا رغم كل ما ينخر فيها من آفات ومهلكات قيمية واجتماعية وسياسية ومالية راجعٌ إلى بقاء بعض القيم الراشدة في بنية أنظمتها، سواء كانت الخروج من الجَور الخانق والاستبداد القاتل ورفع المظالم، أو الرقابة على المال العام ومحاربة الفساد إلى حدّ كبير، أو وجود بعض أنظمة التكافل الاجتماعي وحماية الفئات الضعيفة، أو من خلال اللجوء إلى مبادئ النظام الاقتصادي الكينزي للخروج من الأزمات الاقتصادية العالمية، أو غير ذلك من المبادئ التي فيها أثارة من رُشد.

وعن المستورد بن شدّاد رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “تقوم الساعة والروم أكثر الناس”. فقال له عمرو: أبصرْ ما تقول، قال: أقول ما سمعتُ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: لئن قلتَ ذلك، إنّ فيهم لخصالًا أربعًا: إنّهم لأحلمُ النّاس عند فتنة، وأسرعُهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكُهم كرّةً بعد فَرّة، وخيرُهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسةٌ حسنة جميلة: وأمنعُهم من ظُلم الملوك” (صحيح مسلم).

  • ممارسات تفرضها طبيعة الأشياء، ففكرة تقسيم السلطات إلى: تنفيذية وتشريعية وقضائية هي تحديد لممارسة سلطوية مارستْها الأممُ قديما ولم يخترعها الغرب، وإذا قام نظام إسلامي يحدد هذه التقسيمات بين السلطات تماشيا مع ما يعرفه العالم اليوم من اصطلاحات ولعدم تصعيب الأمر على الناس ومجاراتهم فيما اعتادوا عليه ولا يخالف الدين؛ فهذا لا يعني أنه “متأثّر بالغرب” من حيث القيم والأيديولوجيات! فقديما كان الفقيه مثلا يفتي بحُكمٍ (سلطة تشريعية)، ويقضي القاضي بهذه الفتوى (سلطة قضائية)، فتنفّذ الشرطة التي عيّنها السلطان (سلطة تنفيذية) هذا الحكم القضائي. فنحن فعليّا أمام سلطاتٍ ثلاثٍ وإنْ لم تُسمَّ بذلك، والجديد أنّ البشرية كلّما تقدّمت مالتْ إلى التحديد والتنظيم. بل نجد مبدأ الفصل بين السلطات في تراثنا الإسلامي: كقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “ألا إنّي لستُ بقاضٍ وإنما أنا منفّذ لله، ولستُ بمبتدع ولكني متبع”، وحوادث قضائية لا يتدخّل فيها الإمام، وفتوى المفتين بغير تأثير السلطان، وغير ذلك.

    ورغم كل ذلك، فهذا لا يعني أنّ نظام الحكم الإسلامي يتفق تماما من حيث البنية مع الأنظمة الديمقراطية الحديثة، ولا أنّ كل ما في الدولة الحديثة اليوم طبيعي تماما، بل هناك فوارق لعلّي ألخّص أبرزها فيما يلي، كثيرٌ منها قطعي، وبعضها اجتهادي مبنيٌّ على مبادئ الشريعة وأحكامها:

    التحليل والتحريم في نظام الحكم الإسلامي حقّ خالص لله، والتشريع للمستجدّات يكون على أساس الشريعة وما حُمّل عليها بطرق الاجتهاد المنضبط بأصول الفقه، ويمارسه فقهاء لديهم من العلم الشرعي والعلم بالواقع ما يؤهّلهم لهذه المهمّة. بخلاف الأنظمة الديمقراطية التي يوكَل فيها التشريع إلى أهواء البشر مع عدم اشتراط الفقه والتخصص.

    ومحور الولاء في نظام الحكم الإسلامي هو الدين، وهو في الوقت نفسه لا يهضم حقوق الأقليات غير المسلمة، بل يقيم معها ميثاقا متينا يحفظ حقوقها وحرية عبادتها وحقها في إسماع صوتها ورأيها في السلطة وإدارة بعض شؤونها، فالدولة في الإسلام “دولة جميع رعاياها” مع هوية ورسالة إسلامية، لا “دولة مواطنة” تمنح الأقليات حقوقًا متساوية بالكامل مع المسلمين. فنظام المواطنة الغربي يجعل الرابطة الوطنية محور الولاء، والإقرار به يُدخل المسلم في مشكلات شرعية لأنّه يخالف بقبول هذا النظام مسائل أساسية: مثل حرمان غير المسلم من الدخول في عملية تشريع القوانين لأنها مبنية على أصول الفقه ويقوم عليها فقهاء مسلمون، إلّا لو كان دخوله كخبير في سياق توصيف الواقع، وحرمانه من المناصب السيادية كالرئاسة وممارسة القضاء على المسلمين.

    فلا بد من صيغة مختلفة تجعل الدولة حافظة لجميع رعاياها، وغير متنازلة في الوقت نفسه عن هويّتها ورسالتها ومبادئها. ولا توجد دولة في العالم بغير مبادئ عليا، حتى أرقى الديمقراطيات في أوروبا، تلك التي تضع “الصلبان” على أعلامها، لها ركائز قيمية وأيديولوجية لا يمكن لبعض الأقليات تجاوزها، فلا يمكن أن يكون رئيس ألمانيا مثلًا رجلا إسلاميّا يؤمن بضرورة تطبيق الشريعة ويرى العلمانية باطلة، ولا يمكن أن تقبل البرلمانات الأوروبية ببناء التشريع عبر منظومة أصول الفقه الإسلامي!

والعجيب أنّ بعض الناس يقول: لا يمكن تبنّي نظام آخر غير المواطنة في عالمنا اليوم، فالنظام الدولي لا يسمح بذلك مطلقًا. مع أنّ الحركة الصهيونية تمكّنتْ في هذا النظام الدولي مِن فرض منظومة مختلفة تساوي بين جميع اليهود في العالم وتمنحهم الحقوق الكاملة في إسرائيل كغيرهم من اليهود الحاملين لجنسيتها!

    فلكلّ نظام (الإسلامي والغربي العلماني) رؤية مغايرة ومنطلقات مختلفة، ستَحرِم ولا بدّ مَن لا يحمل هذه الرؤية مِن أن يكون عنصرًا أساسيّا في مفاصله المركزية المرتبطة بالهوية والتشريع. فلماذا يُطلب من المسلمين التنازل عن رؤيتهم وتعطيل هويّتهم وشريعتهم لأنّ هناك أقلية غير مسلمة تعيش بينهم؟ مع أنّ هذه الأقلية تعيش معهم باستقرار وأمن وتمارس حقوقها الفردية والدينية دون مساس.

    والواقع أننا حين نفهم بأنّ “العلمانية دين” ندرك أنّه لا يمكن التوفيق بين مقتضيات هذا الدين العلماني في الولاء والتشريع وبين الإسلام، وإذا قبل الغرب إدخال “مسلمين” في منظومته الحكومية والتشريعية فهذا لأنّهم قبلوا الرؤية العلمانية ولم يطالبوا بإقامة رؤية الإسلام في الهوية والتشريع. وما يريده المسلمون من الأقليّات غير المسلمة التي تعيش بينهم أن يقبلوا العيش ضمن هذه الرؤية التي تمثّل غالبية أهل البلاد، والتي لها رصيد من التجربة التاريخية الناصعة، دون محاولة فرض رؤية علمانية وهوية وطنية غريبة على المسلمين ومناقِضة لدينهم، ودون الاستقواء بالغرب المتفوّق عسكريّا في الوقت الحالي للضغط تجاه فرض هذه الرؤية.

    كما أنّ الهوية الإسلامية للدولة إلى جانب تحقيقها لرسالتها والتزامها بالضوابط الشرعية لنظام حكمها، فإنها تفتح الباب للمضيّ نحو التخلص من حالة الفرقة التي تعمّ المسلمين في العالم، فالدولة المسلمة لا يمكن أن تكون معنيّة بمواطنيها فحسب، بل لها تعلّق ينبغي أن يظلّ متزايدا بالمسلمين خارجها، فهي تمدّ أيدي العون والاستعانة بهم على قدر الاستطاعة، وتمنع العنصرية ضدّهم في حيّزها حين يكونون من أقطار مختلفة ويقيمون فيها، وتخفّف عنهم القيود الحقوقية في المال والسياسة وغيرها لتساويهم بالحاصلين على جنسيّتها، فلا تفرّق بين المسلمين المقيمين في أرضها في الحقوق، عملا بأصل المبدأ الإسلامي الذي يجعل المسلمين “أمة واحدة من دون الناس”، بلا خجل أو مواربة، وإنْ عجزتْ عن تطبيق ذلك بشكل كامل فوريّ بسبب معاهدات مع دول أخرى أو ما شابه، فإنها تسعى إليه تدريجيّا بحسب الاستطاعة، ولا تتبنّى نظام المواطنة المتمحور حول الأيديولوجية الوطنية أو القومية المرتبطة بالجغرافيا أو العرق، والذي يخالف المبادئ الشرعية الإسلامية ويُرسّخ حالة التفرّق بين المسلمين، ويُعزّز العراقيل التي تحول دون وحدتهم. وقد فصّلتُ هذا الباب في مقالي: “لماذا يجب أن نتخلّى عن هويّاتنا الوطنية؟” فليُراجع. فهناك فرق كبير بين الإقرار بقيود الواقع المخالف للمفاهيم الإسلامية ومراعاة هذه القيود مع استهداف التخلّص منها، وبين تبنّي مفاهيم هذا الواقع الجاهلي بحجّة صعوبة تطبيق المفاهيم الإسلامية أو استحالتها!

    والعجيب أنّ بعض الناس يقول: لا يمكن تبنّي نظام آخر غير المواطنة في عالمنا اليوم، فالنظام الدولي لا يسمح بذلك مطلقًا. مع أنّ الحركة الصهيونية تمكّنتْ في هذا النظام الدولي مِن فرض منظومة مختلفة تساوي بين جميع اليهود في العالم وتمنحهم الحقوق الكاملة في إسرائيل كغيرهم من اليهود الحاملين لجنسيتها! ولا يخفى بطبيعة الحال دعم النظام الدولي وعلى رأسه أمريكا للحركة الصهيونية، ولكنّه نموذج للإمكان الواقعي لا للقوة والنفوذ، إذ يَفترض هؤلاء أنّ هذا غير ممكن التحقيق في بنية النظام الدولي، مع أنّه يعمل وفعّال منذ عقود!

والنظام الإسلامي يميل إلى “الترشيح” أكثر من “الترشّح”: كما قال عليه الصلاة والسلام: “إنّا والله لا نولّي على هذا العمل أحدًا سأله ولا أحدًا حرص عليه” (صحيح مسلم)

    أمّا إذا انتقلنا إلى مجالس الشعب، فلا يكفي في المجالس التي تمثّل الأمة عند الحاكم وتراقبه وترشّد عمله أن تكون صفتها “التمثيل” فحسب كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية التي لا تشترط شيئا كبيرا وراء التمثيل، أمّا في النظام الإسلامي فيجب أن يُضاف إلى “التمثيل” صِفَتا “العدالة” و”الكفاءة” لأفرادها. وشيءُ من هذا معمول به في “مجلس الشيوخ” أو “الأعيان” في بعض الأنظمة الحديثة، على أنّ للنظام الإسلامي خصوصية في تحديد العدالة والكفاءة. ولا مسوّغ في عدم تنفيذ ذلك تحت حجّة صعوبة التحديد أو جهل الجهة التي تحدّد، فإذا كانت الأمم الغربية كالولايات المتحدة قادرة على التحديد فنحن أيضا قادرون وبكفاءة أكبر لانضباط معايير الشريعة لدينا ولتفوّق نظامنا الأخلاقي المنبثق عن الوحي. والسعي إلى التحديد – مع عدم إصابة الهدف بشكل مثالي – أفضل من ترك الأمور للتمثيل المحض بغير تقييد بالعدالة والكفاءة.

    والهدف من اشتراط الكفاءة والعدالة وعدم الاقتصار على التمثيل الذي تحدّده أصوات الناخبين؛ هو جعل هذا المجلس يمارس الترشيد حقّا، وللحدّ من أن تكون الأكثرية أكثرية أهواء، فلا بدّ أن يمثّل هذا المجلس مصالح الناس وتطلّعاتهم، ولكن لا بدّ إلى جانب ذلك أن يكون أهلًا لتحقيق هذه التطلّعات، وفاقد الشيء لا يعطيه. ولهذا فالتحديد بالكفاءة والعدالة، على مستوى يليق بمجتمع تحكمه القيم والأخلاق، ضروريّ جدّا، وأصحاب الخبرة السياسية والعدالة الأخلاقية أقدر على ترشيد مؤسسة الحكم والتعامل الناضج مع مستجدّات السياسة. ولطالما أَوْكل النّاسُ شؤونهم للخبراء واستشاروا من يرتضون خُلُقه ويعرفون حكمته، فمن باب أولى أن يكون المتّصف بذلك ممثّلا للناس في الشؤون السياسية الخطيرة التي تمسّ بأمنهم وتنظيم معاشهم.

    والنظام الإسلامي يميل إلى “الترشيح” أكثر من “الترشّح”: كما قال عليه الصلاة والسلام: “إنّا والله لا نولّي على هذا العمل أحدًا سأله ولا أحدًا حرص عليه” (صحيح مسلم)، ويُحيّد المالَ السياسي قدر الإمكان. بينما هناك ثغرة كبيرة خطيرة في الأنظمة الديمقراطية تجعل صاحب المال القويَّ إعلاميا قادرا على ترشيح نفسه وحصْد الأصوات والوصول إلى التأثير في السلطة، حتى لو كان تافهًا أو جاهلًا بأمور السياسة، أو كان كلّ رصيده أنّه رجل أعمال ثري أو إعلامي مشهور! وهو خلل كبير يسعى النظام الإسلامي إلى تلافيه عبر منع المال والإعلام من التأثير في الجماهير لاختيار من يحكمهم، وفتح باب الترشيح ليختار الناس في كل بلدة أو مدينة أو منطقة وجهاءَهم وكبراءهم وفضلاءهم وخبراءهم حقًّا، أي الذين هم عندهم بمنزلة “العرفاء” أو “النقباء” قديمًا، وهي عملية يمكن تنظيمها في واقعنا المعاصر مع مراعاة ظروف المجتمعات الحديثة بتنوّعاتها.

    والأمر نفسه في البندين السابقين ينطبق على “الحاكم” أو “الرئيس” أو “الأمير” أو “الإمام” أيّا كانت التسمية، فهو لا يُرشّح نفسه، ولا يكفي في اختياره أنه حاز على غالبية الأصوات، بل ينبغي أن يكون له قدْر جيّد من العدالة والكفاءة وسائر الصفات التي اتفق العلماء على توفُّرها في الإمام، ويمكن أن يُصار إلى “الترشيح”؛ فيختار المجلس الذي اختاره الناس واتّصف أعضاؤُه بالعدالة والكفاءة عدّةَ أشخاص، جميعُهم مؤهّلون ليكونوا في منصب الإمام من حيث العدالة والكفاءة وسائر الصفات، ويقدَّمون للأمة لتختار من بينهم فيتحقّق التمثيل أيضًا بصورة قوية. ولو قارنّا هذه الطريقة بالنموذج الغربي المتورّط برؤساء “مجانين” أو “فاسدين” أو “متحرّشين” سنجد فضلا كبيرًا لصالحها.

    ويهتمّ النظام الإسلامي في عمله بتفعيل دور الأمة، لا في المجالس الرقابية والتشريعية فحسب، أي ليس عبر منظومة الحكم الرسمية فقط، بل من خلال الحراك المجتمعي أيضًا وما يسمّى اليوم “منظمات المجتمع المدني”. وهذا الجانب مفعَّل في الديمقراطيات الحديثة اليوم، خصوصا في “الديمقراطية التشاركية”، ولكن للنظام الإسلامي خصوصيته النابعة من المسؤولية التي يضعها على مختلف فئات المجتمع، ومن طبيعة المؤسسات المجتمعية الإسلامية وعلى رأسها “المسجد” ومنابره، فللعلماء دور مركزي في ترشيد السلطة وكبحها حين تنحرف وتحريك الناس عبر الخطب والمنابر، وهنا تبرز أهمية إعادة تأهيل المؤسسة الشرعية المعاصرة لتؤدّي دورها المنوط بها في ترشيد الحكّام، والأخذ على أيديهم، وأَطْرهم على الحقّ والعدل، وعزلهم إنْ انحرفوا عن مصالح الأمّة أو وقعوا في قبضة الأعداء.

    وأخيرا، يختلف نظام الحكم الإسلامي عن الأنظمة الحديثة بشكل واضح في نظامه الاقتصادي، فهو يحرّم ممارسات مالية أساسية معظمها مباح في الأنظمة العلمانية الحديثة؛ كالربا والاحتكار والغرر والمقامرة والغبن والنجش والاتّجار بالمحرّمات الشرعية كالخمر والدعارة وغيرهما، ويفرض إلى جانب ذلك بُنى اقتصادية مختلفة لتوزيع المال كالزكاة والصدقات والاشتراك في الثروات العامة، ويؤسس لمؤسسات مالية مجتمعية كالوقف، ومن خلال هذه القيود والمبادئ والمؤسسات يقدّم نموذجًا مختلفا فيما يتعلق بالحقوق والضوابط المالية وبنية الاقتصاد.

****

لا توجد قوالب جاهزة مغلقة متكاملة لنظام الحكم الإسلامي تصلح لكل ظرف وعصر، فمن يطرح ذلك شُكّ في خبرته وتقديره للواقع وفهمه لطبيعة الدين وعلاقته بالحياة.

    هذه الاختلافات الجذرية كلها قد تتمثّل في نظام نرى فيه مؤسسات شبيهة جدا من حيث الشكل بمؤسسات الدولة الحديثة، ونرى فيه بيروقراطية ضرورية بالحدّ الأدنى كالبيروقراطيات الحديثة على تفاوتها، والتي نشأت ضرورتها من التضخّم السكّاني الهائل وتطوّر الوسائل التقنية. فلن نبني شيئا في فراغ، ولن نعيد اختراع العجلة، ولن نرفض كلّ شيء لأنه قادم من الغرب، فهو أولا: ليس قادما من الغرب تمامًا كما تقدّم، وثانيا: لأنّ المسلم ينتفع بالأدوات والوسائل ما دامت لا تخالف شريعته، وقد استعار الراشدون حين فتحوا الشام وفارس ومصر بعض البنى الإدارية الحكومية التي كانت لدى بيزنطة وفارس، وهي أمم عريقة لها إرث إداري وحكومي راسخ، ثم نبذوا ما يخالف شريعتهم، والأهم: أنّهم طوّروا هذه الأنظمة وضمّنوا مبادئهم الراشدة في أنظمة جديدة أخذت بالنموّ والتطوّر مع الزمن.

    ومن هنا يكون علينا دور رئيسي حين نتمكّن من هذه الدول الحديثة؛ أن نستبقي بنيَتَها الرئيسية، ثم نعدّلها ونعيد بناءها تدريجيّا استنادًا إلى مبادئنا واحتياجاتنا، وألّا نغلق باب النقد والتطوير والتحديث، فالمدارس بشكلها الحالي ومراحلها مثلا ليست ضربة لازب، وقد تكون لها أشكال ضرورية ولكنْ بتعديلات على الأنظمة الحالية لتتناسب مع قيمنا وثقافتنا، وهذا الباب مفتوح في الغرب، لكنّ بعض قومنا لديهم تمسُّك بأشكال تقليدية غربية أكل عليها الدهر وشرب!

    وقس على ذلك سائر النظم والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وعلاقة المجتمع بالسلطة، وطبيعة إدارة المجالات المختلفة، فكل شيء قابل للتعديل لبناء نموذج مناسب لنا، وهنا نستحضر مبدأين مهمّين نتعلّمهما من التاريخ:

    الأول: لا توجد قوالب جاهزة مغلقة متكاملة لنظام الحكم الإسلامي تصلح لكل ظرف وعصر، فمن يطرح ذلك شُكّ في خبرته وتقديره للواقع وفهمه لطبيعة الدين وعلاقته بالحياة. يمكن طرح رؤى جزئية، مع قابلية تعديلها وتطويرها وملاءمتها للاحتياجات، فحين توضع النُّظم على محكّ الواقع يظهر صوابها من خطئها. ويمكن بطبيعة الحال الحديث عن مبادئ ومحدِّدات مركزية، أمّا طريقة تطبيقها التفصيلية، وأمّا المواد الدستورية والقانونية وتحديد أنظمة تفصيلية متكاملة فهو عبث يتنزّه عنه العقلاء، ولم يفعله مَن هم أعلم منّا بالإسلام في العصور الأولى.

    والثاني: لن نصل يومًا إلى وضع “مثالي” في نظام الحكم، والتبشير بنظام عادل تماما تنتهي فيه المشاكل ويخلو من الخلل والتجاوزات ويضمّ الأمّة الإسلامية كلّها من المحيط إلى الخليج هو تبشير بخيال لن يتحقّق سوى في الجنّة، فلم تحدث هذه المثالية في خير القرون. ولا يعني ذلك عدم السعي إلى الأفضل، بل السعي إلى الأفضل هو الطريقة البشرية الراشدة لتلافي أكبر قدر من الأخطاء والانحرافات، كحال تجديد التوبة عند الفرد المؤمن، فهي لن تجعله معصوما لا يخطئ، ولكنّها تُبقيه مشدودًا إلى التعلّق بالله وتحافظ على حساسية ضميره تجاه الأخطاء والانحرافات.

شريف محمد جابر

17.1.2025

إسطنبول

أ. شريف محمد جابر

كاتب ومترجم وباحث ولد في عكا شمال فلسطين، حصل على إجازة في الأدب واللغة العربية إلى جانب إجازة في التعليم والتدريس والإرشاد من جامعة حيفا، ثم حصل على الماجستير في الأدب العربي من الجامعة نفسها، وكانت أطروحته بعنوان "تفسير القرآن عند الحكيم الترمذي" (2021). له من الكتب: "الهوية والشرعية" (2011)، و"الخطاب المريض" (2015)، و"مفاتيح لفهم السنّة" (2018/2020)، و"الذرّة التائهة" (2021)، و"رسائل إلى سلمى" (2021)، و"العقائدية القاصرة" (2023)، و"منطق القرآن" (2023)، "ولماذا هجرنا القرآن في بناء أصول الإيمان؟" (2024). إلى جانب عدد كبير من الدراسات والمقالات المنشورة في مختلف المواقع على الشبكة

أ. شريف محمد جابر

كاتب ومترجم وباحث ولد في عكا شمال فلسطين، حصل على إجازة في الأدب واللغة العربية… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى