لماذا يجب أن نتخلّى عن هويّاتنا الوطنية؟
هذا المقال أيها القارئ الكريم هو للحثّ على “مشروع طلاق”، نعم حثّك أنت وكلّ قارئ مسلم يمكنه قراءة هذه الكلمات على طلاق كلّ ما يمتّ بصلة إلى الهوية الوطنية القُطرية، وأعني بها ذلك الانتماء المبهم لشيء كبير اسمه “الوطن”، والتوجّه بمشاعر غامضة غير مفهومة لكل ما يمت بصلة إلى هذا الوطن المتوهَّم الذي تحدّده الحدود القُطرية السياسية. وإذا كان أبغض الحلال عند الله الطلاق في الحياة الزوجية، فإنّ الطلاق الذي أدعو إليه في مقالي هذا هو طلاق ضروري، لأنه يعني إنهاء “علاقة سامّة” استمرّت تنهش في قلوب أمّتنا منذ نحو قرن وما زالت، دون أن تقدّم لنا منفعة واحدة، بل الواقع يدلّ على أنّها تسبّبت في مفاقمة مشاكلنا وأزماتنا كما سأوضح في هذا المقال الذي أرجو أن تصبر على قراءته حتى النهاية؛ حيث سأقدّم في قسمه الأخير مناقشةً وحلولًا للمخاوف التي تُثار حين يُطرح هذا الخطاب، والتي تتناول مسالك العمل السياسي، ومصير أقطارنا السياسية الحالية، وكيفية تعاملنا مع هذا الواقع الراهن الذي يفرض نفسه ويتعارض مع مفهوم الهوية الجامعة على المستوى السياسي.
منذ سنوات طويلة، بل في كلّ عقد تقريبًا، نموت في عالمنا العربي والإسلامي بعشرات الآلاف، نُقتل ونُباد وتُدمّر مدننا وحواضرنا، في البوسنة وكوسوفو والشيشان وفلسطين وأفغانستان والعراق وكشمير وتركستان وسوريا وليبيا واليمن ومصر والسودان.. هذا على الأقل ما تعيه ذاكرة عمري القصيرة من مجازر ونكبات، في كل عَقد هناك عدة مذابح وعمليات تهجير وهدم للبلاد.
كل ذلك كان صفعاتٍ أليمةٍ متتالية لنا لنصحو من وهم الحكومات القُطرية الصغيرة التي يمكنها الانخراط “بسلام” في النظام العالمي حين تندمج معه وتقيم شرائعه من مواثيقَ دوليةٍ وحقوقٍ للإنسان وغير ذلك.
كل ذلك كان لندرك أنّنا لن ننجوَ بغير آلام إلّا حين يكون لنا كيانٌ دوليٌّ قويّ الشوكة يحمي البيضة ويذود عن الحمى والدماء والأعراض والأموال.
ومن هنا كان كل خطاب يزيد من ترسيخ الهويات القُطرية الانفصالية التي رُسمت خلال الاحتلال الأوروبي لبلادنا خطابًا أثيمًا مجرمًا ملعونًا، مهما ظنّ أصحابه أنّهم يسعون إلى شيء نبيل، فهذه خطوات زيّنها الشيطان ولا ينقاد إليها سوى غافل.
ومن هنا أيضًا، تكون الحرب على هذه الهويّات الوطنية الضيّقة، وتفتيح الآفاق نحو عالم عربي إسلامي واحد يواجه أزمة مصيرية واحدة، من أهم الخطوات الضرورية للخروج من نفقنا المظلم الطويل الذي بدأنا بدخوله منذ نحو قرنين.
كل خطابات ترسيخ الهويات الوطنيّة ستزيد من نزعات رفض الآخر المسلم والعربي، ومن نزعات التعنصر عليه، وتُرسّخ وجود كيانات هشّة هزيلة عالقة في التبعية بسبب ضعفها وصغر حجمها وعدم قدرتها على بناء مشروع؛ لأنها لا تجد من قوى العالم الإسلامي من يتطابق معها على هذا المشروع.
وإذا بدا هذا الكلام حالما فجميع مشاريع القوى الدولية القابعة على صدور العالم اليوم بدأت بأحلام صغيرة وأفكار وأيديولوجيات، ثم غدت واقعًا يُحسّ بالطائرات وحاملاتها والصواريخ والأقمار الصناعية والجيوش الجرّارة، ولو فعلتْ بريطانيا في الولايات المتحدة ما فعلته في قلب العالم العربي من زراعة لهويات دخيلة وترسيخها، وغدت كل ولاية صاحبة هوية وجنسية مختلفة، مع عداوة وتنافر وعنصرية تجاه غيرها من الولايات، وغدا خطاب “نحن” و”أنتم” حاضرا، مع إضفاء خصائص وهمية على كل ولاية باعتبارها “وطنًا لشعب”.. لَما نشأت هذه القوة الدولية الكبرى اليوم التي تسمّى “أميركا” أو “الولايات المتحدة”، ولكانت أشبه بحال أمريكا الجنوبية.
بل إنّ أحد أكبر المخاطر التي تؤذن بانهيار المشروع الأمريكي هو تفكير بعض الولايات بالانفصال والاستقلال، مثل كاليفورنيا، بسبب طمع مَن فيها بثرواتها.. ونحن ما زلنا نفكّر في المزيد من ترسيخ هذه الهويات الوطنية الزائفة!
كيف نبدأ؟
يبدأ الأمر بخطوات صغيرة جدّا، أن تتخلّى عن “نحن” القُطرية، ألّا نقول: نحن الفلسطينيّون، نحن السوريّون، نحن اللبنانيّون، نحن العراقيون، نحن السعوديّون، نحن المغربيّون.. فهي “نحن” وهمية تجمع مجموعات سكانية وعرقية متنوّعة ضمن إطار حدود لم نكن نحن من أرادها وحدّدها بل المحتلّ الغاشم. والذي يجعلك تشعر بهذا الانتماء الوهمي لكل من هم داخل الحدود هو أنّهم ببساطة يعيشون داخل هذه الحدود للدولة القُطرية منذ عقود، ومورس عليكم خطاب الدولة نفسه من خلال مؤسسات التعليم والإعلام والقانون والجيش وغيرها، ممّا شكّل بعض “المشتركات”، وما أقبحها من مشتركات! وما أوضعها من مشتركات! ولأنّكم أيضًا تعيشون في هذا القفص الذي يُسهّل عليكم التواصل مع بعضكم بعضًا ويجعلكم أكثر تشابكًا من ناحية السفر والاجتماع وبناء العلاقات الأُسْرية وغيرها ممّا هو الحال بينكم وبين أهل الأقفاص (الأقطار) الأخرى.
ولكنّنا اليوم، ومنذ عقود قليلة نعيش ثورةً في عالم الاتصالات، ثورة كشفت لنا بجلاء عن الوجه القبيح لهذه الهويّات التي تستند إلى مشتركات هشّة غير ذات قيمة. واكتشفنا أيضًا أنّ المشتركات التي بيننا في تلك الأقفاص المتنوّعة أكبر بكثير وأهم بكثير وأشرف بكثير من تلك المشتركات التي تجمع أبناء القفص الواحد، وأبرز ما يميّزها أنّها مشتركات “اختيارية” وأنها مرتبطة “بالقيم”، فالقُطر الذي يسمّونه “وطنًا” لا يُولّد قيمًا، الأرض تُنبت بقلًا وقثّاءً وفومًا وعدسًا وبصلًا وأشياء من هذا الجنس، أو عقارب وحيّات وآفات، ولكنّها لا تلد قيمًا يمكن للبشر الأسوياء الاجتماع عليها، فكيف إذا كان هؤلاء البشر “مسلمون” لهم كتاب هادٍ حدّد لهم من هم وما غايتهم في الحياة وما الذي يجمع بين البشر ويحدّد العلاقات وروابط الولاء بينهم؟!
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}
يقول تعالى في كتابه الكريم: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون: 52).
“تتجلّى وحدة الهويّة لهذه الأمة في هذه الآية أبهى تجلّ وأعذبه؛ فهي أمّة واحدة، تحمل أهدافا وغايات واحدة، وطموحات واحدة، ومنهجًا واحدًا، ومصيرًا واحدا. وهي وحدة تتعدّى حدود الزمان والمكان، وترتفع فوق عوامل الوحدة الأرضية والعرقيّة، وحدة تنبثق من هذا التقرير القرآني لخالقها سبحانه، وهل بعد تقرير الله سبحانه يكون لأيّ من البشر مكانٌ لتقرير؟!
أمّة واحدة لا ينبغي أن تنقسم على نفسها كما انقسمت في العهود الأخيرة، وأصبحت “أمما” شتّى، تتنازعها مصالح أرضية شتى، وأهواء شتى. أمّة واحدة تحدّد وجهتها التي أرادها الله لها، ثمّ تمضي في الطريق الواصل إلى الله.. بإذن الله”[1].
ويقول سبحانه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج: 78).
فالله عزّ وجلّ قد اختار لنا اسمًا وانتماءً يعبّر عن هويّتنا الأصيلة، فكيف نتّخذ هويّات أخرى ونسمّيها – تشتيتا لقلوبنا وعقولنا – “هويّات فرعية”؟
ويقول عزّ وجلّ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (المائدة: 55). فلم يذكر أهل الوطن الواحد ولا النسب الواحد ولا العرق الواحد، فكيف بمن يريد أن يوالي ويعادي على أقطار مخترعة يعيش فيها أخلاط شتى من الناس المتنافرين في أحيان كثيرة مع غالبية مسلمة سنّية؟!
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “المسلمون كرجل واحد. إن اشتكى عينه، اشتكى كلّه. وإن اشتكى رأسه، اشتكى كلّه” (صحيح مسلم). وقال عليه الصلاة والسلام: “ومن ادَّعى دَعوى الجاهليَّةِ فإنَّهُ من جُثى جَهَنَّم، فقالَ رجلٌ: يا رسولَ اللَّهِ وإن صلَّى وصامَ؟ فقالَ: وإن صلَّى وصامَ، فادعوا بدَعوى اللَّهِ الَّذي سمَّاكمُ المسلِمينَ المؤمنينَ، عبادَ اللَّهِ” (سنن الترمذي، وهو صحيح).
فهذه الآيات والأحاديث وغيرها تشير بوضوح إلى وجود أمّة واحدة لها هويّة مميّزة، ينبغي أن تكون هي الانتماء الأول والمحرّك الأول للمسلمين في النظر إلى مصالحهم العامّة.
وكم يُزعج المرءَ هذا التسليم غير الواعي بتقسيم الأمّة إلى انتماءات وطنية قُطرية بحسب الحدود التي وضعها المحتلّ الأوروبي لمزارعنا العربية وسمّاها “دولًا”، وخصوصا حين يخرج من دعاةٍ لهم دورهم الواجب في كسر أثر هذه الانتماءات الكارثي في تفريق الأمّة. والمشكلة ليست في التعامل السياسي مع هذا الواقع – كما سأوضّح في آخر المقال – ولكنّها في خطاب يعزّز هذه الانتماءات الوهمية التالفة ويبني عليها المواقف بدلًا من توهينها في قلوب المسلمين!
أزمة مقتل نصر الله نموذجًا لمفاسد الهوية الوطنية
من النماذج التي أظهرتْ بوضوح فساد الاستناد إلى الهويات الوطنية في تحديد المواقف ما حدث قبل أسابيع قليلة عند مقتل الأمين العام لحزب الله اللبناني، فقد كان في الأمّة – مع الأسف – من أعلنه شهيدًا بطلًا قائدًا يستحقّ الإشادة والتكريم، متناسيًا أنّه مات وهو موالٍ لجبهة إجرامية سفكت دماء أهلنا في الشام، وهي جبهة تقودها قوى الكفر كالروس والنصيرية، وقد قرّر نصر الله حتى آخر نفس من حياته أن يكون منحازًا بكلّه إلى هذه الجبهة ضدّ المسلمين السنّة الذين قرّروا الثورة على النظام النصيري في سوريا، فأقام لهم المجازر وشارك في تهجيرهم وسفك دمائهم وهتك أعراضهم مع الكفرة المجرمين.
ومع ذلك كلّه فقد كنّا قادرين خلال هذا الحدث – في الغالب – على تحديد موقف النّاس عبر معرفة انتماءاتهم القُطرية الوطنية؛ فإذا كان الإنسان “فلسطينيّا” فهو في الغالب سيدافع عن تكريم الرجل ويجعله بطلا لوقوفه مع قضية فلسطين، وإذا كان “سوريا” معارضًا لنظام الأسد فهو في الغالب فرحٌ بهلاكه غير آسف عليه لأنّه حارب ثورة شعبه. والمشكلة أنّ المعيار الذي حدّد مواقف قطاعات هائلة من المسلمين الذين ينتمون إلى هذه الهويات الوطنية هو معيار فاسد، بينما كان الأصل أن يكون المعيار في المدح والذمّ معيارًا أعلى وأنقى، وهو المعيار الشرعي الذي غاب كثيرًا مع الأسف في خضمّ النظرة التي تضع في أوّل اعتبارها “القضية الوطنية”، سواء كانت “القضية الفلسطينية” أو “الثورة السورية”.
بل إنّ بعض الدعاة الذين يُفترض بهم التعالي عن هذه الانتماءات الوطنية الزائفة، ومخاطبة المسلمين بالخطاب الشرعي في الكتاب والسنّة؛ قد أقرّوا بها ضمنًا – بوعي أو بغير وعي – وصادقوا على وجود “طائفتين” أو “فصيلين” متنازعين في الأمّة، وأنّ لكلّ فصيل وجهة نظر فيما يقوله، فرسّخوا تقسيم الأمّة عبر إقرارهم بهذه الانتماءات الوهمية؛ إذ ليس بالضرورة أن يكون كلّ من يسمّي نفسه سوريّا قد وقع عليه شخصيا أو على أسرته وذويه جور حزب الله اللبناني، وربما عاش من يسمّي نفسه فلسطينيّا في سوريا ووقع عليه جور الحزب، والأهم من كل ذلك أنّ المسلمين الذين يعيشون في القطرين (سوريا وفلسطين) لهم حقّ النصرة والتضامن على كل مسلم، سواء سمّى نفسه فلسطينيّا أو سوريا، فكيف يقرّر مسلم أن قضيّته الأولى هي القضية الوطنية (الفلسطينية أو السورية) ويقرّر الانطلاق منها لتحديد موقفه؟! ولماذا يقرّر الانتماء لكل “الفلسطينيين” أو لكل “السوريين” أكثر من غيرهم فيحدّد موقفَه بناءً على ذلك؟! بل وجدنا بعض الدعاة يتحدّث بنبرة إصلاحية فيخاطب “السوريين” قائلا إنّه “يتفهّم جراحهم”! وكأنّ جراحهم هذه ليست جراحه أيضًا لكونه مسلمًا، هو منهم وهم منه، وإلّا فأين هو “الجسد الواحد” الذي نعظ بحديثه الناس على المنابر؟!
إنّ الخطأ الأكبر هو في “التوقيع على بياض” لهذه الانتماءات وعدم الانتباه إلى اختلالها وفضفاضيّتها وخداعها. وينبغي لأي داعية متحدث في هذا الشأن أو غيره مستقبلًا فيما يتعلق بفلسطين وسوريا أو غيرهما من الكيانات القُطرية أن ينطلق من أنّنا “أمة واحدة من دون النّاس” كما وصفنا حبيبنا المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وأنّ المسلم الذي ولد في إحدى بلدات الشام (سواء كانت ضمن فلسطين الانتدابية أو سوريا الانتدابية) لا ينبغي له أن يُقرّر أو يُعزّز أو يَشرب الانتماء لفئة كبيرة حَدّدت سياجَها بنادقُ المحتلّين!
ومن ثمّ لا ينبغي أن يكون موقفه من أي مسألة مبنيًّا على الانتماء إلى “الشعب المتخيّل” الذي ينتمي إليه، بل ينبغي أن يكون مبنيّا على الانتماء إلى الأمة المسلمة، فقضيته الأولى هي قضية هذه الأمة والولاء لها ونصرة قضاياها وحقوقها، وحين تصبح قضيّته الأولى التي تحدّد موقفه “قضية فلسطين” أو “الثورة السورية” ويغيب عنه انتماؤه الأوّل للأمة المسلمة تصبح المواقف مشوبةً، وتدخل الأمة في تناحرٍ وفُرقة، وهو من آثار التمسّك بهذه الهويّات المخترعة. بل لعلّه إذا عادى ذلك الحزبُ شعبَه المتخيّل يومًا؛ كاجتياحه للمخيّمات “الفلسطينية” في لبنان أو للضفّة الغربية مثلًا، لكان موقفه منه ومن زعيمه وقتذاك مختلفًا مهما فعل، ولن يظلّ “بطلًا” و”قائدًا” في حسّه، بل سيكون “عدوًّا لنا”. و”لنا” هنا تعود إلى “نحن الفلسطينيون”، فهي التي تحدّد في الهوية الوطنية مَن نوالي ومن نعادي، بينما الأصل أن تكون “نحن المسلمون” هي التي تحدّد الولاء والبراء.
ومن المؤسف أن نقول إنّ المسألة أشبه بأن تضع (إنْ كنت تعرّف نفسك “فلسطينيّا) “المسلمين” في انتمائك إليهم ودفاعك عن حقوقهم ومعاداتك لمن يظلمهم بمنزلة “الفلسطينيين”، فتكون لديك من الحساسية تجاه ما يمسّ حقوقهم ودماءهم مثلما تجده في حسّك تجاه ما يمسّ “الفلسطينيين” بل أعظم! والأمر ينطبق على كلّ جنسية مخترعة أخرى، وهو مثال للتقريب، ولبيان الحال المؤسف الذي بلغناه، إذ بات الشعور الحقيقي الواجب لدى كثير من المسلمين قائمًا في المكان الخطأ!
الفرق بين “الوطن” وبين “الأيديولوجية الوطنية”
فالانتماء الجغرافي أو العرقي أمرٌ فطري تعارَف عليه البشر منذ آلاف السنين، ولكنّه ليس “هوية” تُشكّل تعريفنا الأول بذواتنا وتُحدّد ولاءاتنا ومواقفنا الأخلاقية
وثمة أمر يجب التنبيه عليه لوقوع المغالطة فيه عند كثير من الناس، وهو جعلهم “الوطن” بمنزلة “القُطر السياسي”، وهو خطأ كبير؛ فالانتماء الجغرافي أو العرقي أمرٌ فطري تعارَف عليه البشر منذ آلاف السنين، ولكنّه ليس “هوية” تُشكّل تعريفنا الأول بذواتنا وتُحدّد ولاءاتنا ومواقفنا الأخلاقية. كما أنّ الانتماء الجغرافي يكون للمدينة أو القرية أو المنطقة التي ولد وعاش فيها الإنسان، لكنّه لا يكون للقُطر السياسي، ومتى تحوّل الانتماء إلى القُطر السياسي أصبح أيديولوجية غربية وافدة، لها مضارّ عانينا منها كثيرًا على مستوى الأمة ولم نكسب منها شيئا، فضلا عن عدم فطريّته ولا اتّساقه المنطقي، وإمكان التلاعب من خلاله بعقول الملايين وقلوبهم، وارتداء “الدولة” رداء “الوطن”، وتحويلها إلى “وثن” يُصرف الولاء إليه، وتُقطف المُهج من أجله، ويكاد يُعبد من دون الله! وتلك قصة طويلة وضّحتها في كتابي “الهوية والشرعية”.
أما حين ننطلق من الانتماء الإسلامي أولا وآخرا، فإنّنا نجد مفهوم المصالح له مرجعية واضحة هي “الشريعة”، ونجد الانتماء للأمّة ابتداءً محدّدا للولاء وللفئة التي يسعى المسلم بذمّتها ويحامي عن مصالحها، فحيثما كان المسلم، حين يجد عدوّا يوالي أعداء الله ويتعاون معهم على ذبح المسلمين وما زال، يدرك أنّه عدوّه، وأنّه لا يجوز له وضعه موضع البطولة فضلا عن إطلاق أوصاف “الشهادة” و”السيادة” و”القيادة” عليه، فهذا رجل أخرج نفسَه وحزبَه من الانتماء للأمة بولائه للروس والنصيريين وذبحه للمسلمين وتهجيرهم، فكيف يكون بطلا لهم وقائدًا وسيّدًا؟!
يحقّق لنا الانتماء الإسلامي “المرجعية” الواضحة لاتخاذ المواقف والاصطفاف، بينما تربكنا الانتماءات القُطرية والوطنية الفاسدة، لأنها مبنية على خيال ووهم، ومصالح متضاربة غير واضحة، والأرض في جميع الأحوال لا تقدّم شرائع ولا أخلاقيّات!
لهذه الأسباب أعلاه أكره تعريف نفسي بكلمة “فلسطيني”، فأنا أكره هذا الانتماء لما يحمله من تشوّهات وأمراض، ولي انتمائي الجغرافي المحدود الذي أحمله لمدينتي، فهي “الوطن” في حسّي لا كامل فلسطين الانتدابية التي لم تطأ قدمي العديد من مناطقها. لا أحبّ أن أحمل مشاعر ذاتية خاصّة تحدّدها مسبقًا خرائط المحتلّين السياسية، فأقرر مسبقًا أنّ كلّ من يعيش داخل هذه الحدود التي رسمتها بريطانيا – من أصبع الجليل حتى أم الرشراش – أو عاش أجدادُه فيها فلي تجاهه انتماء خاص أوشج من الانتماء لمن يقع خارجها، هذه فكرة غبية شربناها في عهود تخلّفنا وانكسارنا ونكساتنا، وإذا ما أردنا النهوض يومًا من كبوتنا، ينبغي لنا التخلّي عنها إلى الأبد.
يحقّق لنا الانتماء الإسلامي “المرجعية” الواضحة لاتخاذ المواقف والاصطفاف، بينما تربكنا الانتماءات القُطرية والوطنية الفاسدة، لأنها مبنية على خيال ووهم، ومصالح متضاربة غير واضحة، والأرض في جميع الأحوال لا تقدّم شرائع ولا أخلاقيّات!
بين عتمة الوطنيات ورحابة المجتمعات الإسلامية ما قبل الحداثة
إذا أردنا أن نحصيَ مساوئ التمسّك بهذه الانتماءات الوطنية والإعلاء منها والتفاخر بها، سنجد أنها – إلى جانب ما ذكرنا من اختلال المعايير والمرجعيات – تقف خلف كثير من التعصّب ضدّ المهاجرين المسلمين الذين تُضطرّهم الحروب للنزوح إلى بلدان أخرى، وحين تتكاثر أعدادهم ويتجمعون في بعض المدن والبلدات، تتصاعد أصوات العنصرية من فئاتٍ ترى أنها “أهل البلد”، وأن هؤلاء غرباء جاؤوا ليزاحموهم في أرزاقهم! ومهما حاولتِ الحكوماتُ استحضار نموذج “المهاجرين والأنصار” للتخفيف من وطأة ذلك، فإنّ البنية المفاهيمية التي غذّتها النزعات القومية والوطنية تظلّ ترفد هذه العنصريات، بل تضطر تلك الحكومات أحيانا إلى اتّخاذ إجراءات تتّصف بالعنصرية والتفريق مسايرةً لرأي الفئات المتعصّبة في الشارع!
ولو نظرنا اليوم إلى حال النازحين من فلسطين عام 1948 أو عام 1967، أو إلى حال النازحين من سوريا بعد عام 2011 في مختلف البلدان، سنجد أنهم جميعًا لا يحظون بالحقوق الكاملة التي يحظى بها أهل البلدان التي نزحوا إليها، مع أنّهم نزحوا في الغالب إلى مجتمعات مسلمة! ومع أنّ بعض النازحين قد مرّ على نزوحهم أكثر من ستّة وسبعين عامًا، وماتوا ومات أبناؤهم وبقي الجيل الثالث من ذراريهم في البلدان التي نزحوا إليها “لاجئًا”! وفي بعض البلدان لا يملك حقّ التملّك أو العمل بكثير من المهن، وكلّ ذلك تحت حجّة “حقّ العودة”، لكنْ تقف وراء ذلك في الحقيقة نزعات وطنية عنصرية ترى عدم إدماج هؤلاء اللاجئين تماما في المجتمعات، وإبقائهم مواطنين درجة ثانية أو ثالثة أو رابعة، إلى أنْ يتيسّر لهم الرجوع، هذا إنْ عاد الحفيد أو حفيد الحفيد إلى بلدٍ لا يعرف عنه شيئا، ولا يتعلّق فيه سوى من خلال تاريخ أجداده البعيد!
في المقابل، لا أريد العودة في التاريخ كثيرا، إلى زمن الصحابة أو حتى العهود الزاهرة للمجتمعات الإسلامية في العصر الأموي والعباسي، بل سأعود إلى زمن قريبٍ جدّا من عصرنا الحديث هذا، حين كانت الهوية الإسلامية ما تزال متماسكة قبل تسرّب النزعات الوطنية وقبل نشأة الدول القُطرية المبنية على أساس هذه النزعات. وذلك حين اندلعت الحرب بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية خلال الصراع على القوقاز المسلم وشبه جزيرة القرم، ففي منتصف القرن التاسع عشر عملت روسيا على بسط سيطرتها على القوقاز الذي كانت تعيش فيه شعوب مسلمة منها الشركس، والتي قاومت هذا الاحتلال الروسي بكل ما تستطيعه من شجاعة وقوة، لكنّها في النهاية هُزمت أمام جحافل الروس الضخمة، وهَجّرتْ روسيا قسريًّا عددًا كبيرا من الشركس من أراضيهم، فتوجّه النازحون منهم إلى أراضي الدولة العثمانية، كالأناضول والشام والبلقان.
ولو نظرنا إلى بلاد الشام، سنجد أنّ الشركس أسّسوا بعض القرى على نمط عيشهم وعاشوا فيها آمنين، كقرية مرج السلطان قرب دمشق، وبعض قرى الجولان، والريحانية وكفر كما في الجليل. بل أكثر من ذلك؛ فقد ساهموا في بناء مدينة عمّان (في الأردن اليوم) وتطويرها، حيث كانت آنذاك قرية صغيرة، ولاحقًا صار منهم رؤساء لبلدية هذه المدينة الناهضة كإسماعيل بابوق، وسعيد المفتي، وعبد الرحمن خليفة.
الشاهد: أنّ هذه الشريحة المسلمة حين هاجرت إلى بلدان مسلمة أخرى قبل نشأة النزعة الوطنية المصاحبة لإنشاء الاستعمار الأجنبي للدولة القُطرية لم يُعاملوا كغرباء، بل سرعان ما اندمجوا في المجتمعات المحلية مع حفاظهم على ثقافتهم ولغتهم واكتسابهم ثقافة المجتمع الذي هاجروا إليه ولغتَه وتلاقحهم معهم بشكل إيجابي. لم يعانوا كما يعاني النازحون اليوم لعقود وأجيال، ولم تنزعج المجتمعات المحلية التي لم تكن قد لُوّثتْ آنذاك بالنزعات الوطنية المرَضية من مظاهر الثقافة واللغة المختلفة، بل استفادت من هؤلاء وأفادتهم ورحّبت بهم باعتبارهم مسلمين ناضلوا ضدّ احتلال روسي غاشم. تماما كما كانت المجتمعات الإسلامية القديمة تستوعب مختلف الفئات، فقد استوعبت مدينة القدس مثلا مجتمع المغاربة الذي جاهد مع صلاح الدين الأيوبي في حروبه ضدّ الصليبيين، وبقيتْ “حارة المغاربة” المجاورة للمسجد الأقصى شاهدًا على هذه السعة والرحابة والأنس بالآخر المسلم حتى هدمها الصهاينة عام 1967.
بل اتّسعتْ هذه المجتمعات المسلمة للأرمن، وصاروا جزءًا من نسيجها في الشام وهم على غير دين الغالبية من المجتمع. بل من المفارقات أنّ نزوحهم كان على خلفية الصراع بين الميليشيات الأرمنية والدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، وحدثت آنذاك مجازر من الطرفين، ومع ذلك فضّل قسم كبير من هؤلاء الأرمن اللجوء إلى أراضي الدولة العثمانية، ومن أبرزها مدينة حلب التي استقرّ فيها عدد كبير منهم واندمجوا سريعًا في نسيج المدينة الاجتماعي والاقتصادي!
المشاريع الكبيرة تحتاج إلى التخلّص من النزعات المعيقة
ولو نظرنا إلى بعض أنجح المشاريع السياسية في عصرنا الحاضر، والتي حقّقت لأصحابها قدرًا كبيرا من الكرامة والقوة والعزة والمجد التي تقيم بها عمود ثقافتها وحضارتها، وجدناها تجارب تخلّت عن التقوقع الوطني القُطري، وفتحت قلوبها وعقولها إلى انتماءات واندماجات أرحب من الواقع القُطري الضيّق.
فهذه الولايات المتّحدة، لم تكن لتصير هذه القوة العظمى لو بقيتْ كل ولاية دولةً وحدها تؤسس لشعبٍ متخيّل، أو لو امتنعت عن استقبال المهاجرين الأوروبيين وغيرهم الذين رفدوها بالثراء والقوة، ولكنّها انفتحت على مختلف الثقافات والعناصر البنّاءة التي أضفتْ عليها ثراءً وخصوبة فكرية وعلمية وثقافية، مما جعلها تنهض سريعًا وتصبح بحجمها الضخم ومواردها وديمغرافيّتها الكبيرة القوة الأولى في العالم. بل تجاوزت الكثير من العنصريّات المبنية على الهويات القطرية، والتي ما زلنا عالقين بها مع الأسف، لنجد أنّ رجلا ولد في النمسا يمكنه أن يصبح بعد عقود من ولادته حاكمًا لإحدى أهم الولايات الأمريكية، وهي ولاية كاليفورنيا، وهو لاعب كمال الأجسام والممثّل النمساوي الأصل أرنولد شوارزنيجر.
أما المشروع الصهيوني، فهو نموذج للتفكير البعيد (دون تجاهل الدعم البريطاني والغربي له) في بناء دولة وهوية ولغة من لا شيء تقريبًا! إنّ الذي كان لدى الصهاينة الأوائل من موارد مادية ومسوّغات واقعية لبناء مشروعهم هو أقلّ القليل، بل كانت معظم المجتمعات اليهودية في أوروبا حيث نشطوا مخالفة لهم ناظرة إلى مشروعهم “الخيالي” بعين الريبة؛ إذ كيف يمكن لشرذمة من المنظّرين أن يقيموا دولة في مكان ما من العالم في ظلّ هذا الاستعداء القومي لليهود والحساسية العالية تجاههم وتفرّقهم على أقطار وشعوب ولغات متنوّعة؟!
ويحضرني في هذا الصدد موقف كثير من المنظّرين العرب، بل بعض “الإسلاميين” مع الأسف، الذين يوجّهون نقدًا للمشروع الصهيوني متعلّقًا بالهوية، يقولون: إنّ هؤلاء لا يكاد يجمعهم شيء، فقد جاؤوا من دول وشعوب مختلفة، منهم الأشكنازي ومنهم الشرقي ومنهم الحبشي ومنهم البريطاني ومنهم الأمريكي إلخ على سبيل الذمّ.. مع أنّ ذلك الأخ الداعية سيتحدّث في مجلس آخر مشيدًا بالدولة النبوية التي ضمّت أبا بكر العربي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي وصَهَرتهم في هوية واحدة وولاء واحد!
والواقع أنّ قدرة المشروع الصهيوني على استلهام هوية “مخترعة” بتعبير المؤرّخ اليهودي شلومو زاند، وإعادة بنائها وصهر كلّ تلك الأعراق اليهودية المتنوّعة فيها مع إعادة تأهيل لغتها وبنائها من جديد.. إنّ قدرته على فعل ذلك هو ممّا يُشاد به، ونحن الذين نملك من مقومات الهوية الأصيلة الواضحة الحيّة ما يفوقه بمراحل ثم نتنكّب عنها بتبنّي هويّات أخرى هي في واقعها “أيديولوجيات وطنية” وافدة ضارّة.. نحن الذين نستحقّ اللوم والنقد الذاتي قبل أن ننعى على الآخرين أنّهم استطاعوا بناء مشروع متجاوز للحدود والأعراق!
ولماذا نذهب بعيدًا، إنّ أحد أخطر المشروعات التي تفتّ في عضد الأمة الإسلامية، وتحديدًا في العالم العربي، المشروع الإيراني الشيعي، الذي تقوده دولة أعلتْ بشكل كبير من هويّتها العقائدية المتجاوزة للحدود القُطرية، فكان من نتائج ذلك: التشبيكُ الوثيق مع فئات في بلدان مختلفة، يتباين بعضها معها في المذهبية وفي اللغة، لتعيد الهيمنة على أربعة أقطار عربية وتتحكّم بمقدّراتها وهي العراق وسوريا ولبنان واليمن! أمّا نحن الذين بقينا غارقين في همومنا الوطنية القُطرية، نائين بأنفسنا عن “التدخّل” في شؤون “الآخرين” ممن هم أنفسنا: على ديننا ومذهبنا ولغتنا مع مجاورتنا جغرافيّا.. أمّا نحن فكان هذا التقوقع منّا وعدم النظر إلى امتداداتنا وفرص النهوض الكامنة فيها نكبةً متجدّدةً علينا!
فمتى نتعلّم من تجارب الأمم إنْ لم نتعلّم من هدايات ديننا ودروس تاريخنا؟!
وحين نصل إلى هذه النقطة يُطرح السؤال التالي:
هل سيؤدّي التخلّي عن هويّاتنا الوطنية إلى تدمير بلداننا؟
الإجابة باختصار: العكس هو الصحيح، فما قدّمتُ هذا الطرح وهذه الدعوة إلى التخلّي عن هويّاتنا الوطنية إلّا بعد قراءات مطوّلة عبر سنوات طويلة انشغلتُ فيها بهذا الشأن، وتدبّرتُ مسار الأمّة على ضوئه، فوجدت التمسّك بهذه الهويات ما زادنا إلا تفرّقًا وضعفًا وبلاءً. ويكمن السرّ وراء ذلك أنّ هذه الهويّات المخترعة ليست هويّات أصيلة في هذه الأمة التي لا تتحقّق خيريّتها إلّا بتمسّكها بالهوية الجامعة لخير أمّة أخرجتْ للنّاس، فالهويات الوطنية تفتقد – كما بيّنّا – إلى المرجعية الأخلاقية الواضحة، وتفتقد إلى تشكيل محور استقطاب فاعل يمكنه بناء مشروع نهضة، وقد ارتبطتْ منذ نشأتها بدولة الاستعمار التي صنعتْها على عينها لا ليعزّ أمرُنا بها، بل لنبقى أسرى حالة غير قادرة على القيام والنهوض.
لكنّ ذلك كلّه لا يعني القبول بتفتيت هذه الأقطار إلى أقطار أصغر كما يحدث الآن في سوريا واليمن وليبيا والسودان وغيرها من بلاد المسلمين، ومن هنا أحبّ التفريق بين “الخطاب السياسي” الذي يُعنى بالإجابة عن سؤال: “كيف نتعامل مع ما هو كائن؟” وبين “الخطاب الفكري” أو “الدعوي” الذي يجيب عن سؤال: “ما ينبغي أن يكون”.
وأحبّ أن أؤكّد أيضًا أنّ ما أدعو إليه في هذا المقال ليس دعوة سطحية ساذجة لإزالة الحدود فورا وإقامة الخلافة وأمثالها من الشعارات التعبويّة التي تستند إلى اصطلاحات شرعية فحسب غير آبهةٍ بمسارات الواقع الصعب. بل ما أدعو إليه هو تعزيز الخطاب الفكري والدعوي الذي يُذكّر الأمة بزيفٍ ما زالت تعتنقه على مستوى الفكر والشعور، لا على مستوى الحراك السياسي فحسب؛ فالتحرّك السياسي ضمن الأقطار الحالية لا يستلزم تعزيز الهويات الوطنية المبنية على هذه الأقطار، وهذا هو لبّ القضية.
وأنا أفرّق تماما بين “الخطاب السياسي” الذي يحاول الإجابة عن سؤال “التعامل مع ما هو كائن”، وبين “الخطاب الدعوي” الذي يذكّر “بما ينبغي أن يكون” ويسعى إلى تحقيقه. ويحدث الخطأ حين يُخلَط بين الخطابين، أو يُلغى أحدهما على حساب الآخر؛ كأنْ يتغافل أحدهم عمّا هو كائن من حدود قائمة وكيانات سياسية عمرها عقود ويقرّر فعل كلّ شيء لكسر حدودها، ثم تكون النتيجة زيادة تقسيمها نظرًا لصراع غير مكافئ أو استعجال في قطف الثمرة أو إعلان كيان على قطعة من القُطر السياسي، والنتيجة: تفتيت المفتَّت وتجزئة المجزّأ!
أو ربّما يتغافل آخر عن الخطاب الدعوي والإجابة عمّا ينبغي أن يكون والسعي إليه، فيفقد الاستراتيجية المفارِقة للواقع السيء في مشروعه، ويتحوّل خطابه وحراكه السياسي دورانًا في المستنقع الذي يريد التخلّص منه، بل لعلّه يغترف من هذا المستنقع مفاهيمَه وأفكارَه فيرى تعزيزَ خطاب الهوية الوطنية القُطرية ظانًّا أنّ ذلك يزيد من تماسك المجتمع، ولكنّه يُفاقم أزمة المسلمين في بلده والبلاد المجاورة، ويتسبب بخطابه هذا بأزمات وفُرقات جديدة كالتي تحدّثنا عنها في هذا المقال، فضلا عن كونه يُبعد المسلمين عن التفكير في طريق خلاصهم الذي يستلزم تجميع قواهم وإبصار هويّتهم الحقيقية، التي تدفعهم إلى التفكير خارج قوقعة المفاهيم التي كانت سببًا في تخلّفهم!
فالمطلوب التوازن في الخطاب، فلا أحد يمنع تحرُّر هذه الأقطار العربية والمسلمة من نير التبعية للغرب ومن التخلّف والضعف والمهانة، بل ينبغي لنجباء هذه الأمة من المتمسّكين بدينهم وعقلائها وأهل الأيدي والتدبير فيها أن يُمسكوا بمفاصل السلطة في بلادهم، فهذه بلادهم وينبغي منع الفاسدين المتسوّلين على موائد الغرب من البقاء على رأسها، فهذه حالة فاسدة تعاني الأمّة بسببها في دينها ودمائها وأعراضها وأموالها وأخلاقها، لكنّ هذا الواجب الشرعي الملقى على كاهلهم لا يسوّغ لهم أن ينحرفوا عن دورهم الحقيقي، فيتحوّلوا إلى تعزيز الهويّات الوطنية المحلّية بحجّة التماسك المجتمعي وبناء دولة قوية؛ فالدولة القوية لا تحتاج إلى تعزيز هذا الخطاب الفاسد المبني على أصول فاسدة كما بينّا.
كما أنّ لدى الخطاب السياسي من الأدوات السياسية والاقتصادية والقانونية: كالتنمية لمختلف القطاعات والأوساط، وبلورة منظومة الحقوق والواجبات بين فئات المجتمع ومؤسساته، وتعزيز الانتماء للهوية الإسلامية والثقافة الإسلامية العربية.. لديه من كلّ ذلك وغيره مندوحةً يُقيم بها تماسك الدولة والمجتمع دون الحاجة إلى تعزيز الهوية الوطنية في خطابه ورموزه وشعاراته وفنّه وغير ذلك، فقد أثبتت هذه الأدوات الرخيصة فشلها في تحقيق شيء حقيقي في مجتمعاتنا العربية المسلمة، فضلا عن تضادّها مع بناء الهوية الإسلامية، مع توليدها لمرجعية شائهة زائفة تزيد من اضطراب أبناء الأمّة ومن تفكيك أوصالها.
إنّ أي تغيير حقيقي في العالم الإسلامي والعربي تحديدًا يجب أن تسبقه ثورة مفاهيمية وجدانية، وهذا هو درس التاريخ الأبرز، فلن يحدث التغيير ونحن نتغذّى على المفاهيم التي زُرعتْ في عقولنا أثناء تقطيع أوصالنا وتلويث مجتمعاتنا.
وأودّ أن أقول أخيرا: إنّ المعوّقات المادّية، سياسيةً كانت أو عسكريةً أو اقتصاديةً، ليست هي الحواجز الوحيدة التي تقف حائلا دون نهضة أمّتنا وقيامها من كبوتها، بل ثمّة عوائق فكرية مفاهيمية شعورية، نحتاج أن نمتلك من أفق التفكير ومن الجرأة ومن الإصرار ما يكفي لتجاوزها. وأحد هذه المعوقات هو “الهويات الوطنية” المخترعة، التي تمثّل أورامًا متضخّمة في جسد هذه الأمّة المنهك، ولا بد من استئصالها كي تنهض من جديد، أما محاولة احتوائها تحت شعارات شتّى انطلاقا من القبول بالأمر الواقع فهو استبقاء للأورام المعيقة، وإقرار بالهزيمة الفكرية أمام الحضارة الغربية التي اكتسحتْ أدمغتنا بأفكارها ومفاهيمها.
إنّ أي تغيير حقيقي في العالم الإسلامي والعربي تحديدًا يجب أن تسبقه ثورة مفاهيمية وجدانية، وهذا هو درس التاريخ الأبرز، فلن يحدث التغيير ونحن نتغذّى على المفاهيم التي زُرعتْ في عقولنا أثناء تقطيع أوصالنا وتلويث مجتمعاتنا. ومهما بدا النظر إلى الأفق البعيد العالي ثقيلًا عن الأنظار الكليلة المتعبة، فلا بدّ لها أن تُعاني وتتحمّل كلفة كبوتها التي استحقّتْها عبر القرون، وتكتحل خلال هذه المعاناة بمِرْوَد النور المبين الذي سيُعينها بإذن ربّها ويضيء لها الطريق الطويل، ويكشف عنها مشاعر الوحشة. ولكنّ ذلك يحتاج منها أن تثق بهذا النور، أن تثق بهويّتها التي فرّتْ منها، وبقدرتها على بناء حضارتها وقوّتها من جديد. وأن تثق قبل كلّ شيء بربّها عزّ وجلّ الذي قال لنا:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 102-105).
[1] شريف محمد جابر، الهوية والشرعية: دراسة في التأصيل الإسلامي لمفهوم الهوية ورفع الالتباسات عنه (موقع الألوكة: 2012)، 17.