أفكار الكبارالمقالات

الصهيونية بين النشأة والزوال في فكر المسيري

إذا كان المفكر الكبير عبد الوهاب المسيري قد عاصر أهمّ الأحداث المتعلقة بتغلغل اليهود والمستوطنين في فلسطين، وبدايات تأسيس الكيان الصهيوني، وهو إذ ذاك ينحو إلى دراسة الظاهرة دراسة تحليلية واستنباط النماذج الكامنة فمن البديهي أن تشكل هذه القضية جزءًا مهمًا من اهتمامه، سرعان ما شغل كلّ تفكيره فكرّس حياته للغوص بطريقته الخاصة في موضوع الصهيونية يفككها ويحللها حسب خبراته، ويخرج بمفاهيم جديدة قلبت الموازين في ميدان الدراسات الفكرية والاستراتيجية الخاصة بهذا الشأن، مسؤولًا في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام عن الفكر الصهيوني. ولعلّ أهم إنجاز تركه المفكر المسيري بين أيدينا هو (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية)، كأضخم عمل تناول اليهود واليهودية والصهيونية تناولًا تحليليًا عميقًا إلى جانب العديد من المؤلفات الفكرية في ذات الشأن.

لمحة عن اليهود في البلاد العربية وبداية النشأة

يتطرق المسيري في كتابه (رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر) إلى وجود اليهود في بعض الدول العربية وتعايشهم الاقتصادي والاجتماعي مع عدم إنكار ولائهم القومي ونمو بذور العمل الجاد الرامي لتأسيس الكيان، وبرغم أن الموسوعة اليهودية جودايكا تصور بأنه كانت هناك حركة صهيونية قوية في مصر فإن المسيري يوضح أن ذلك محض كذب يهدف إلى تضخيم القوى الصهيونية آنذاك، لكن اليهود العرب كانوا يعملون من أجل فكرة إنشاء دولتهم على أرض فلسطين معتبرين إياها أرض إسرائيل التاريخية، فكرسوا حياتهم للعمل على تحقيق الأهداف الصهيونية، في حين كان السياسيون البارزون في أوروبا يسعون إلى تصدير مشكلة اليهود المتفاقمة عبر توطينهم في جيوب بعيدة عنهم، ويشير المسيري إلى بروز الوكالة اليهودية في العالم العربي وقيامها بالتجسس وتجنيد العملاء الصهاينة بين اليهود العرب، وإنشاء المخابرات الإسرائيلية الموساد في عام 1937 مركزًا لتدريب اليهود العرب على القيام بأعمال التجسس.

ويعترف المسيري أن اعتراضه على إسرائيل المزعومة في تلك الفترة كان اعتراضًا أخلاقيًا يأتي من تصنيفها كنظام رأسمالي قام بطرد الفلسطينيين أصحاب الأرض، وبالتالي فإن القضية الفلسطينية كانت تقدم كقضية لاجئين لابدّ من إنصافهم بعودتهم إلى ديارهم أو إعادة توطينهم في دول عربية أخرى، ويظن أن إسرائيل هي بلد تقطنه عصابة صهيونية يمكن للعربي القضاء عليها متى شاء. ولم يكن اعتراضًا سياسيًا ومبدئيًا يستند إلى اغتصابها الأرض وجلب كتلة بشرية غريبة لتؤسس جيبًا استيطانيًا يشكل قاعدة للمصالح الغربية وحل لمشاكلها مع اليهود. لكن المسيري يبين أن رؤيته هذه سرعان ما تغيرت اذ اكتشف أن العالم الغربي بأسره يدعم الكيان عبر المساعدات وبرامج التدريب العسكرية والاجتماعية، فالكيان استهدف أرض فلسطين بوابة مصر الشرقية وقلب بلاد الشام، ومن يحتلها فإنه يمسك بمفاتيح المنطقة.

وكانت الصهيونية تطرح نفسها كحركة إنسانية تريد إيجاد وطن لليهود يلجأون إليه عند الحاجة ويدّعون أن المستوطنين لم يغتصبوا الأرض وإنما اشتروها، وأنّ الفلسطينيين تركوا أرضهم لأن القادة العرب طلبوا منهم ذلك الى أن تتحرر فلسطين من اليهود، فالصهيونية تصور إسرائيل كدولة مهدّدة من جيرانها مظلومة بريئة، وبالطبع فهي تنكر كل المذابح التي ارتكبتها بحق الفلسطينيين. كما تصورها كدولة يهودية لاكتساب الشرعية، في حين يتبرأ منها اليهود الملتزمون، كما أن المستوطنون لم يعد لهم من يهوديتهم إلا ما تريد الصهيونية الاحتفاظ به وترويجه لدعم رؤيتها.

الوحش الصهيوني من الداخل

أدرك المسيري أن تأييد الغرب لإسرائيل هو من أجل تكوين جيب استيطاني جديد يخدم مصالحه، وأنه تعبير عن نموذج كامن راسخ في الوجدان الغربي المؤمن بالبراجماتية المستندة لأرضية داروينية صلبة، وأنّ العدو إنما هو عدو بدائي شرس يحمل أسلحة فتاكة. كما أدرك الوثنية الصهيونية وبدائيتها وواحديتها الهستيرية وانتماءها للغرب.

فيشير إلى أنه قد عرف الصهيونية من منظور عالمي كجزء من التشكيل الحضاري الغربي وتاريخ الأفكار في الغرب، وليس من منظور عربي أو توراتي يهودي، وأنه عرف الصهيونية على أنها أداة عسكرية واقتصادية وسياسية في يد الغرب وليس كظاهرة مستندة للوعد الإلهي، وأنه كوّن فكرة عن مجموعة من اليهود المختلفين بتاريخهم ولغاتهم وحضاراتهم؛ فهناك يهودٌ مؤيدون للمشروع الصهيوني كما هناك يهودٌ ضد الصهيونية، ولذلك لم يسقط في التعميمات السهلة بخصوص اليهود.

 والصهيونية في تصور المسيري كالحرباء تتلوّن حسب المحيط وتغير ديباجاتها حسب الظروف كي تكتسب الشرعية أمام الجمهور، وتمتلك ناصية فن الإعلام وتطرح نفسها على أنها إحدى دول العالم الثالث، وأنها حركة كفاح ضد المستعمرين وحركة تحرير الشعب اليهودي وتحرير فلسطين من الإنجليز والعرب.

 ويراها المسيري معاديةً للتاريخ، فإسرائيل تعبيرٌ عن الإنكار اليهودي للتاريخ العربي في فلسطين، بل التاريخ اليهودي في العالم خارج فلسطين، فالصهيونية حولت أرض فلسطين والفلسطينيين وجماعات دينية يهودية إلى مادة استعمالية قابلة للتوظيف؛ فهجّرت يهود العالم من أوطانهم إلى فلسطين، وهجرت الفلسطينيين من وطنهم.

 وبذلك تكون الصهيونية هي إحدى تبدلات العلمانية الشاملة، بينما أصبح النضال الفلسطيني رمزا للإنسانية في عالم واقعي مادي.

مقولة نهاية التاريخ

تناول المسيري في الدراسة الأولى التي نشرها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام عام 1972 تحت عنوان (نهاية التاريخ مقدمة لدراسة بنية الحكم الصهيوني) تحديد المستوى المعرفي بربط الرؤية الصهيونية للنفس البشرية بالتراث اليهودي القديم وفكرة الحلولية ووحدة الوجود – حلول الإله في الأرض والشعب وهو إله إسرائيل على وجه الخصوص- وهذا ضرب من الوثنية والعلمانية الشاملة.

كما تناولت الدراسة التاريخ اليهودي باعتباره النقطة التي يلتقي فيها الخالق بالشعب، ومساره ذو هدف واضح يتجسد في فكرة الماسيح المنتظر الذي هو نهاية التاريخ.

وتفضح الدراسة تصور المستوطنين الصهاينة بأنّ فلسطين هي أرض بلا شعب بإنكار تاريخ الأرض التي اغتصبوها وإنكار إنسانية أصحاب الأرض، فمحاولات إنهاء التاريخ والدخول في الفردوس ونشر المجلات الإباحية والإعلانات التلفزيونية ليعم الفساد هي كلها محاولات لإنهاء التاريخ عن طريق النهايات السعيدة التي تلغي أي تدافع أو تركيب.

ويقول المسيري في هذه الدراسة: إن نهاية التاريخ أصبحت إمكانية قائمة بارتفاع صرح اليوتوبيا التكنولوجية التي تحقق حلم الإنسان العلماني الشامل بالتأله الكامل والتحكم الشامل في كل شيء، لكنها أدت إلى ازدياد خطير في التلوث الكوني، وتراكم كميات كبيرة من الأسلحة المدمرة، والنموذج الكامن خلف الصهيونية هو ما يسمى التطور أحادي الخط أي الإيمان بأنه ثمة قانونًا علميًا وطبيعيًا واحدًا للتطور تخضع له المجتمعات كافة، وأن التقدم هو إعادة صياغة الواقع الإنساني في إطار الطبيعة/ المادة، بحيث يتحول الواقع إلى مادة استعمالية بسيطة ويتحول الإنسان إلى كائن وظيفي أحادي البعد، وتصاعد هذه العمليات على مستوى العالم هو العولمة التي ستحول المجتمع إلى قفص حديدي يحكمه المصنع والسوق وأماكن الترفيه وهو إيقاع ثلاثي يستوعب الإنسان الاقتصادي الجسماني ويشبع رغبات بسيطة طبيعية أحادية البعد.

 وحينما يسيطر هذا الإيقاع الثلاثي على العالم يظهر النظام العالمي الجديد وإيديولوجيات نهاية التاريخ وما بعد الحداثة.

يشير المسيري أيضا إلى الهوية اليهودية في مواجهة الانتماء الصهيوني وعدم اكتراث اليهود في أمريكا بالدين وشعائره وبالعهد القديم والتلمود. ومعظم اليهود الشرقيين يشعرون بأنهم قد غُرر بهم، ويحتفظ اليهود الغربيون بعلاقاتهم مع أقربائهم في الغرب حتى يجدوا لديهم ملاذًا حينما تسقط الدولة الصهيونية، فسقوط الكيان مطروح منذ نشأته.

خطاب المسيري الجديد

 تجاوز المسيري أفكارًا دارجة من قبيل أنّ الشيوعية هي مؤامرة يهودية أو أن إسرائيل دولة شيوعية، وأنّ اليهود يسيطرون على أمريكا، وتضخيم بروتوكولات حكماء صهيون والمؤامرات اليهودية، كما بدأ بتمييز الصهيونية عن اليهودية، وإسرائيل عن اليهود.

 كما بين مشروعية المقاطعة العربية لإسرائيل إذ يروي أنه اشترى في المكسيك مجموعة من السيجار الكوبي الذي صدر من الجمارك عند الحدود أثناء المقاطعة الأمريكية المفروضة على كوبا ثم شرح عبر التلفاز مشروعية المقاطعة وبين أن المقاطعة ليست أمر شاذًا عربيًا وإنما هو أمر عالمي مشروع تلجأ له الدول في بعض الحالات.

وفي مقال كتبه عام 1973 بعنوان (لا نهاية للتاريخ) بيّن فيه أنّ الزمان في الإدراك الإسرائيلي معطل، وأنه يستند فقط إلى إدراك المكان (الحدود الآمنة وخط بارليف)، لذا لم يكن بوسعهم إدراك يقظة العرب. وما حدث في حرب اكتوبر 1973 وانهيار خط بارليف كشف لإسرائيل هشاشة نظريتهم الأمنية.

 ومن المفارقات أنه بعد أكثر من 49 عامًا على هذا الانهيار اختُرقت النظرية الأمنية المستندة على إدراك المكان أيضًا، وفي شهر اكتوبر أيضا من عام 2023 في حدث أثبت مجددًا أهمية التاريخ ومقدرة الإنسان على النهوض. لذلك فقد اعتمد المسيري على تناول البنية والنمط الأساسي الكامن والثوابت دون الغرق في التفاصيل اليومية.

 وهو يواجه اليهود الذين يعلنون أنّ العرب قد هزموا وأنّ عليهم تقبل حقيقة الهزيمة، فيخبرهم باستعداده الكامل لتقبل هذا المنطق الدارويني المتوحش شريطة أن يتقبل اليهود بالمقابل ما فعله هتلر بهم. وحين يشير الإعلام والإدراك الاسرائيلي إلى الأحداث والوقاع والانتصارات الميدانية الآنية فإن المسيري يفتح أمامهم خارطة حركة التاريخ موضحًا أنّ انتصارات إسرائيل لم تأتِ بنتيجة، لماذا؟

  • لأن الاشتباكات ما زالت مستمرة، فبعد حرب عام 1967 جاءت حروب أخرى، وحرب اكتوبر 1973 مهدت لما بعدها.
  •  واستمرت العمليات الفدائية.
  •  واستمر الرفض الفلسطيني واستمرت المقاومة والانتفاضة.
  • الحقائق التاريخية والإنسانية تظل ثابتة لا تتحرك مهما تحركت الدبابات الشرسة.

 وهذه كلها نقاط تتعلق بإدراك الزمن الذي تتجاوزه إسرائيل دائمًا ولا تريد أن تدركه.

مؤلفات المسيري حول الصهيونية

1. إسرائيل وجنوب أفريقيا تطور العلاقة بينهما.

 2. أرض الوعد نقد النظرية السياسية.

3. الإيديولوجية الصهيونية، دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة، صدر عام 1980-1981 من جزأين، يتضمن رؤيته في الصهيونية (الإيديولوجية الصهيونية أيديولوجية عنصرية معادية لكل من العرب واليهود، وهي إحدى تجليات التشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي).

4. النازية والصهيونية ونهاية التاريخ، رؤية حضارية جديدة تتناول البنية المعرفية العميقة لكل من النازية والصهيونية والظاهرة المشتركة بينهما، وهي عقلانية الإجراءات والوسائل ولا عقلانية الهدف. كما تناول مفهوم الإبادة المشترك بينهما. وتنبأ المسيري بوقوع الانتفاضة وكتب عنها قبل وقوعها من خلال عملية تحليل مركبة وخطيرة إذ اكتشف أن الفعل الصهيوني أصبح محايدًا غير مكترث بالمثاليات الصهيونية متمركزًا حول ذاته، والنموذج الإدراكي الكامن هنا هو نموذج الإنسان الاستهلاكي المقبل بنهم على الحياة الدنيا،من خلال حرصه الشديد على المعادلات الاستهلاكية المادية، والمستوطنون الصهاينة هم مرتزقة بطبيعة الحال.

والاستعمار الصهيوني يهدف إلى:

  • استلاب الأرض.
  • العيش فيها بهدوء وطمأنينة ورفاهية.
  • سلب العرب أسباب الحياة حتى يرحلوا عن الأرض.

أما الإنسان العربي في الداخل الفلسطيني فلم يكن منكسرا ولا يهاب إسرائيل، والنموذج الإدراكي الذي يرى الفلسطينيون أنفسهم من خلاله يتجلى في أنهم:

  • يرفضون النموذج الاستهلاكي الاختزالي المادي.
  • يدركون أنفسهم بطريقة مغايرة.
  • كل ما ينغص على المستوطنين عيشهم هو بمثابة إحباط للمخطط الصهيوني، فإلقاء الحجارة على المستوطنين أصبح سلاحًا أساسيًا في الضفة الغربية، فالحجر وإن لم يكن يقتل فإنه يعكر صفو المستوطنين ويسقط معنى حياتهم المرفهة.

5- كتاب الانتفاضة الفلسطينية، دراسة في الإدراك والكرامة 1989

يتناول الكتاب نموذج الإنسان الرباني في مقابل الإنسان الطبيعي المادي، ومقدرة هذا الإنسان الرباني على توليد الأفكار الجديدة.

فحين يحظر الإسرائيليون رفع العلم الفلسطيني تراهم في غزة يرفعون نصف بطيخة كرمز للعلم، ويعتبر المسيري أن البطيخة المقطوعة بالسكين لها دلالات عميقة وهي أول سلاح في التاريخ يقاوم به الإنسان ثم يأكله بعد ذلك.

وإبداع هذا الإنسان الرباني يستند إلى التراث الغزير، فالحجر سلاح لا ينفد، وهو موجود في وجدان هذا الإنسان، في رجم الشيطان، وعند طير الأبابيل حجارة من سجيل، فكانت الانتفاضة تجنيدًا للكتلة البشرية الربانية من خلال مخزونها الحضاري، وهي عملية عودة عن الحداثة المادية الغربية المنفصلة عن القيم، لتبدع من خلال حداثة خاصة بها.

6- هجرة اليهود السوفييت، منهج في الرصد وتحليل المعلومات 1990

يتناول فيه المسيري هجرة اليهود السوفييت وتفنيدها ضمن إطار الهجرات العادية، وقد ثبت أن أعدادًا كبيرة منهم لم يكونوا بالأصل يهودًا.

7- اليد الخفية، دراسة في الحركات اليهودية الهدامة والسرية.

يتناول النموذج التآمري ومدى تشويهه واختزاله للواقع.

أما أضخم كتاب حول الصهيونية تركه المسيري وكرّس له جلّ حياته فهو الموسوعة بدءًا من موسوعة 1975 وانتهاءً بموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية 1993 وتحتاج لإفراد مقال خاص بها لأهميتها.

وهي ليست موسوعة معلوماتية أو إحصائية بل دراسة تحليلية معمقة بنيت على النماذج التحليلية ما جعل الإسرائيليون يكيدون له للإيقاع به عبر مؤامرات شتى منها النيل من سمعته، من حملات نشر الأكاذيب بأنه يؤيد مشروع كامب ديفيد، بغية إثبات أنّ ملف الصهيونية قد أغلق تمامًا بعد أن صار أحد أهم المتخصصين في هذا الموضوع داعمًا لمشروع كامب ديفيد.

وقد باءت هذه المحاولات بالفشل، وظل المسيري علمًا أزعج إسرائيل بتراثه الفكري، إذ أجبرهم على الإحساس بعبثية موقفهم، عكس موقفهم الإعلامي الرسمي الذي يسلط الضوء على النصر والقوة والبطش.

وإنه لحري بكل متتبع وباحث وكاتب في الشأن الإسرائيلي فضلًا عن صناع القرار السياسي أن يجعلوا من مؤلفات المسيري ركيزة فكرية ومرجعية في بناء تصوراتهم وتحليلاتهم الاستراتيجية، خاصة في فترة حرجة تشهد أحداثًا كثيفة ومتسارعة على أعقاب ثورات الربيع العربي ومضاداتها وارتداداتها في بلدان المحيط الإقليمي لفلسطين التي ازدادت هشاشة على هشاشتها، وظهرت فيها تحولات جديدة في الولاء وتبني القضية، بالإضافة إلى تحولات ديموغرافية خطيرة، وبروز أصوات مؤيدة للكيان من أوساط عربية مختلفة داعية للتطبيع على حساب الأرض والدم الفلسطيني. كما سعت الصهيونية في الفترة المنصرمة من التخلخل العربي إلى تحويل قضية المسجد الأقصى المقدسة في العالم الإسلامي إلى قضية دولة سياسية لها حدودها، وعزلها عن العالم العربي والإسلامي باعتبارها شأنًا فلسطينيًا خاصًا، لا ينبغي للآخرين التدخل فيه.

وإذا كانت إسرائيل تستند إلى الإدراك المكاني، وتتجاهل الإدراك الزماني وأن نهايتها مطروحة في الوجدان والأدب الإسرائيلي منذ نشأتها فإن الإنسان المسلم يجب أن يأخذ على عاتقه إقامة العدل في الأرض ولا ينتظر المعجزات، فالبقاء مكتوفي الأيدي لمراقبة كيف ستقوم إسرائيل بقضم نفسها والانتحار استنادًا إلى رؤية يهودية تصور النهاية بظهور الماسيح الذي يقود يهود العالم إلى أرض صهيون، واستعجال الكيان بالاستيطان وتأسيس الدولة وعدم انتظار الماسيح، الأمر الذي سيعجل في نهايتها، أو انتظار دولة أخرى نالت من الشعوب الإسلامية في المنطقة وما تزال بأن تقوم بضرب إسرائيل هو ضرب من التواكل الصدئ الذي يوغل في المذلة، وقد أشار المسيري إلى أنّ هذا الكيان ليس بالضرورة هو الدولة اليهودية التي سيحاربها المسلمون وينتصرون عليها في أحداث النهاية.

إن توقع المسيري بانتهاء إسرائيل يتطابق مع نظرة الصهاينة أنفسهم لحركة التاريخ، فهم لا يتكؤون على نصوص التوراة أو التلمود بقدر ما يرتكزون إلى دراسة وفقه التاريخ، الأمر الذي يجب أن نوليه الكثير من الاهتمام في المقابل وندرس أسباب النصر والهزيمة ضمن حركة التاريخ البيانية، نقتبس النور والهداية من الآية الكريمة ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾[1]

مدركين البعد الزماني وطبيعة الإنسان المسلم الذي تعجز إسرائيل عن إدراكه ووضعه ضمن حساباتها.


[1]  الآية 60 سورة الأنفال

أ. عماد كوسا

كاتب روائي وقصصي وناشط في مجال العمل الشبابي والمجتمعي.

أ. عماد كوسا

كاتب روائي وقصصي وناشط في مجال العمل الشبابي والمجتمعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى