المقالات

إحياء ابن خلدون

كثرت في السنوات الأخيرة الدعوات لبعث ودراسة نظريات ابن خلدون الكبرى، ومحاولة فحص مدى صلاحيتها في تفسير تاريخنا وواقعنا الحالي، بل استشراف أو حتى هندسة مستقبلنا الاجتماعي والسياسي. فهل هناك ضرورة لمثل هذه الأطروحات؟ وماذا عن إمكانية الأمر؟ وما هي أهم العقبات؟ وإلى أين وصلت جهود ومحاولات إحياء ابن خلدون؟ الجواب في الأسطر القادمة.

الضرورة

بدايةً، لا يخفى على مهتم أهمية تحرير العقل المسلم من هيمنة الثقافة الغربية، خاصةً في مجالات العلوم الاجتماعية وما يترتب عليها من اضطراب أو فقدان الهوية، ومن تشويش أو ضياع بوصلة الإصلاح. فهذه العلوم التي تُدرَّس في جل أو كل جامعات العالم بما فيها العالم العربي، نشأت في مجتمعات أوروبية وغربية، وبعقول فلاسفة ومفكرين غربيين، لا تكاد تجد شيئاً مشتركاً بيننا وبينها، فالدين مختلف، والتاريخ والجغرافيا كذلك، أما عن الثقافة والعادات والتقاليد فحدث ولا حرج. فلك أن تتخيل مقدار التشوه في تصورات من يجعل مصادر تلقيه الأساسية حول تفسير التاريخ وفهم حركة المجتمع ومشاكله وطرق إصلاحه من هذه المصادر. هذا إن كانت تدرس جنباً إلى جنب مع المصادر الإسلامية، فكيف إن كانت تدرس بمفردها! هذا من ناحية.

ومن ناحيةٍ أخرى، فبالرغم من اعتراف الأوساط الأكاديمية عالمياً بريادة ابن خلدون في تأسيس علم العمران البشري أو “علم الاجتماع” فإن نظرياته بقيت مهملة (المحاور القادمة ستتطرق للأسباب) ولم توضع على الأقل على قدم المساواة مع من أتى بعده كأوغست كونت وكارل وماركس وماكس فيبر وإيميل دوركايم وغيرهم.

العصبية الأضعف تستطيع التغلب على العصبية الأقوى إن دُعمت بدعوة دينية، شريطة أن تكون هناك عصبية.

وبنظرة موضوعية مقارنة، لا مجال للمقارنة بين الطرح الخلدوني متعدد المستويات والزوايا وبين أطروحات ماركس وفيبر الأحادية الاختزالية. فعلى سبيل المثال، يحصر ماركس نظريته التاريخية والاجتماعية في الصراع بين طبقات المجتمع، ويعمم هذه النظرية على العالم كله من مشرقه لمغربه. بينما، يرى فيبر أن أحد المذاهب المسيحية فقط: المذهب البروتستانتي، بما يحمله من مصفوفة أخلاقية تحض على العمل وتجعل منه عبادة، هو وحده القادر على النهوض بالمجتمع وتطويره وتأسيس حضارة حديثة. أما ابن خلدون، فيرى أن: الدين والمجتمع والاقتصاد والجغرافية، كل له دوره، في إحداث تغيير اجتماعي حقيقي، بشرط تكامل هذه الأدوار. ولا يحصر الأمر في الدين الحق أو مذهب معين، بل يرى أن أي دعوة دينية إن استطاعت أن تحشد قوى اجتماعية متجانسة متضامنة (عصبية) متقشفة، فهي قادرة على النهوض وتأسيس حضارة. وفي الوقت ذاته يقر بأن العصبية الأضعف تستطيع التغلب على العصبية الأقوى إن دُعمت بدعوة دينية، شريطة أن تكون هناك عصبية.

الإمكانية
نأتي إلى مسألة قابلية الإحياء. قد يقول البعض: نعم، من المفيد جداً على الصعيدين المعرفي والميداني إعادة الاعتبار إلى النظريات التراثية ومنها نظريات ابن خلدون المتعلقة بعلوم التاريخ وبسنن التغيير الاجتماعي، بل قد يقتنع البعض بضرورة هذا الأمر لإحداث نهضة جديدة للأمة الإسلامية، ولكن السؤال الجوهري هنا، هل يتحقق هذا بعد قرون من الهجران؟! والجواب: إن الأمر وارد جداً وله شواهد كثيرة تاريخياً في الحضارة الإسلامية وفي غيرها من الحضارات، بل حتى في عصرنا الحالي. تكرر هذا الأمر مع عدة شخصيات محورية نذكر منها ثلاثاً: الإمام ابن تيمية الحراني المولود في القرن السابع الهجري. فبالرغم من خفوت أثر إسهاماته العلمية والحركية لقرون عقب وفاته، لا يكاد يجادل أحد في تأثيره الهائل حالياً في الثقافة الإسلامية خاصة في القرن الأخير وبالأخص في المنطقة العربية، ليس فقط في المسائل العقدية والاختيارات الفقهية، إنما أيضاً في انعكاسات أطروحاته المتعلقة بالسياسة الشرعية على طيف واسع من كبرى الحركات والتيارات الإسلامية. وتلميذه الإمام ابن قيم الجوزية كذلك، خاصةً في كتاباته المتصلة بمجالات تزكية النفوس ولعل من أشهر كتبه التي انتشرت بعد قرون من إهمالها، كتابي مدارج السالكين وزاد المعاد. الشخصية الثالثة: الإمام ابن حزم الأندلسي المولود في القرن الخامس الهجري، وقد شهد القرن الماضي طفرة كبيرة في طباعة ونشر كتبه. ومهما قيل عن تشجيع بعض السلطات السياسية لطباعة وتداول كتب الأئمة المذكورين فإن الأمر يبدو أوسع من ذلك، فلقد ساهمت أيضاً حركات وشخصيات إسلامية كثيرة معارضة للسلطات في الترويج لهذه الأسماء وإحياء تراثهم على المستوى الشعبي لا الرسمي.

ابن خلدون في المناهج الجامعية الغربية والعربية يعامل بوصفه حالة تاريخية يتم دراستها، وليس بوصفه مصدراً للنظريات التي تُدرس بها المجتمعات القديمة والحديثة. 

العقبات

إذن، فما الذي يحول دون بعث فكر ابن خلدون وتأسيس مدرسة جديدة في علم الاجتماع انطلاقاً من نظرياته؟

عوامل خارجية وأخرى داخلية حالت ومازالت تحول دون الاستفادة من والبناء على الإرث المعرفي الذي خلَّفه ابن خلدون.

1- المركزية الأوروبية والتبعية العربية

في صدارة هذه العوامل تبرز مسألة المركزية الأوروبية من جهة، والتبعية العربية من جهة أخرى. فالأكاديمية والدوائر العلمية والثقافية الغربية لا تعتمد في دراسة المجتمعات إلا على إرثها وأدواتها ومناهجها المعرفية، سواءً كانت هذه المجتمعات غربية، عربية، آسيوية، إفريقية أو غيرها. وكذلك الجامعات والمؤسسات التعليمية العربية، لا تخرج عن النمط العام السائد في الجامعات الغربية، حتى عند إضافة بعض الأسماء غير الغربية كابن خلدون في المناهج الجامعية الغربية والعربية فإنه يعامل بوصفه حالة تاريخية يتم دراستها، وليس بوصفه مصدراً للنظريات التي تُدرس بها المجتمعات القديمة والحديثة.   

2- أسلمة المعرفة

في سياق متصل، وفي إحدى مقابلاته، شن الدكتور إبراهيم البيومي غانم أستاذ العلوم السياسية ومستشار المركز القومي للبحوث الاجتماعية في القاهرة، حملة كبيرة على الاتجاه الذي سارت فيه جل مشاريع أسلمة العلوم المعاصرة في العقود الأخيرة وانتقد التوجه التلفيقي الذي ساد فيها، متحسراً على الجهود الجبارة التي بذلت في الانفتاح على العلوم الإنسانية الغربية مع الإهمال الشديد للتراث الإسلامي، ومؤكداً أن التراث الإسلامي يحوي “نظريات عملاقة” في كآفة العلوم الإنسانية لم يطبقها أحد إلى الآن. وقرر أننا كأمة إسلامية: “غرباء عن تراثنا” وأنه “لا بد من توحيد المرجعية المعرفية العليا في العلوم الاجتماعية” إن أردنا التحرر المعرفي الحقيقي والنهوض من جديد[1].

إن أردنا قيامةً حضاريةً من جديد، الوصل مع تراثنا المهمل إلى حدٍ كبير، خاصةً في العلوم المتعلقة بتماسك وإصلاح واستقلال المجتمعات التي تواجه تحديات هائلة، كتلك التي عاصرها أحد أهم العقول في التاريخ البشري

الجهود

أما عن الجهود المبذولة لإعادة الاعتبار والفاعلية للتقاليد المعرفية الخلدونية ومحاولة تأسيس مدرسة خلدونية جديدة في علم الاجتماع، فتجدر الإشارة إلى عدة شخصيات ومحاولات، منها:

1- الدكتور التركي رجب شنتورك، وهو من أبرز رافعي شعار الاستقلال الفكري في مجال العلوم الإنسانية. يدعو الدكتور المتخصص في العلوم الإسلامية والحاصل على دكتوراه في علم الاجتماع، إلى اقتفاء أثر ابن خلدون والبناء عليه في تأسيس علم اجتماع إسلامي جديد مستقل ومتمايز عن الاتجاهات السائدة غربياً وعالمياً. والدكتور شنتورك له جهود كبيرة في هذا السياق، سواءً من خلال التأليف والكتابة، أو تنظيم مؤتمرات دولية دورية حول ابن خلدون، أو حتى تأسيس مؤسسات تعليمية كان آخرها جامعة ابن خلدون في تركيا.

2- آل العطاس في ماليزيا، وأعنى عالمي الاجتماع الماليزيين من أصول يمنية حضرمية: حسين العطاس وولده فريد العطاس. كلا الرجلين لديهما اهتمام بالغ بتراث ابن خلدون. وقد حاول فريد العطاس تطبيق نظريات ابن خلدون في صعود وانهيار الدول والحضارات على حالات تاريخية ومعاصرة خارج الإطار الزماني والمكاني الذي عاش فيه ابن خلدون. إضافة إلى أمر آخر هام، وهو إدخال بعض التعديلات على الفجوات الموجودة في النموذج التفسيري الخلدوني، مستعيناً ببعض نظريات علم الاجتماع الحديث خاصة تلك المتعلقة بالبنية الاقتصادية للدول أو قوى التغيير[2].

3- الأكاديمي الجزائري بدران بلحسن. أستاذ الفلسفة ودراسات الحضارات المقارنة، وصاحب السجل الطويل في التدريس في عدة جامعات عربية وآسيوية مرموقة. للدكتور نشاط ملحوظ في استدعاء نموذج ابن خلدون من أجل قراءة وفهم الواقع الاجتماعي- السياسي العربي في ما بعد ٢٠١١م، وما يتضمن ذلك من اختبار صلاحية نظريات ابن خلدون في العصر الجاري، ودراسة إمكانية تطوير علم اجتماع خلدوني جديد.

خاتمة 

وعليه، وفي ظل المنعطفات الكبرى التي تمر بها الأمة الإسلامية عموماً، والعالم العربي بشكلٍ خاص، على مختلف الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، يبدو أنه من الضرورة بمكان، إن أردنا قيامةً حضاريةً من جديد، الوصل مع تراثنا المهمل إلى حدٍ كبير، خاصةً في العلوم المتعلقة بتماسك وإصلاح واستقلال المجتمعات التي تواجه تحديات هائلة، كتلك التي عاصرها أحد أهم العقول في التاريخ البشري، أعنى بذلك فيلسوف التاريخ ابن خلدون. هذه المقالة كانت محاولة لتسليط الضوء على ضرورة وإمكانية استدعاء الإرث الخلدوني وتطبيقه، وتطرقت كذلك لأبرز العقبات، وآخر وأهم الجهود الساعية لإحياء ونشر وتطوير فكر ابن خلدون. 


[1] إبراهيم البيومي غانم، برنامج على التخوم، (إسطنبول: دار المخطوطات، ٢٠٢٣ممن الدقيقة 2:31:00 إلى.2:50:00.

[2]  للمزيد: السيد فريد العطاس، تطبيق ابن خلدون: إحياء تقليد مهجور في علم الاجتماع، ترجمة: أسامة عباس، (بيروت: مركز نهوض للدراسات والبحوث، ٢٠٢١م). في هذا الكتاب، طبَّق وفحص فريد العطاس الإطار النظري الخلدوني على دولتين تاريخيتين ودولتين معاصرتين: الدولة العثمانية والدولة الصفوية، والدولة السعودية والدولة السورية.

أ. كرم الحفيان

باحث في التيارات والحركات الإسلامية ماجستير في علم الاجتماع

أ. كرم الحفيان

باحث في التيارات والحركات الإسلامية ماجستير في علم الاجتماع المزيد »

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى