كانتْ لنا برداً على الأكبادِ… حديثٌ عن التَّردِّي اللُّغوي وضياع الهويّات
جرّب أن تتحدّث بالعربيّة الفصيحة في الحافلة مع صديقك، أو في المقهى مع جليسك؛ فسيكون من الطبيعيّ أن تتعالى الضحكات هنا وهناك، وترمقك الأبصار بنظرات الاستغراب أو الاستهجان، وربما الاستهزاء!
مثل هذا المشهد كفيل بأن يعطيك صورة عن مدى التردي في العلاقة مع اللغة العربيّة التي غدت مقصورة على حصة التعليم في الغرف الصفيّة، وصارت عبئًا امتحانيًا ثقيلًا على الأهل، يتنفسون الصعداء عند تجاوزه والخلاص منه.
ومثل هذا الانحسار لمعنى اللّغة في الواقع الحياتي وتردي حضورها في عقول الجيل وعلى ألسنتهم لا ينفصل البتّة عن انحسار الهويّة عن الواقع الفكريّ والتربويّ والسياسيّ؛ فمن الطبيعيّ أن الفراغ الهوياتي الذي يردفه انحسار اللغة سيملؤه تقدُّمٌ هويّاتي مغاير، وقد يكون مناقضًا لهويتنا التي تعني وجودنا وبقاءنا الحضاريّ.
ومن نافلة القول: إذا صحّ لسان المرء صح عقله، وإذا صح عقل المرء عرف قدره وقوي انتماؤه، فاللُّغة ترتبط بالهُويّة ارتباطاً قوياً، وهي جوهرها وعنوانها الأصيل، لذلك نرى تردياً واضحاً في أحوال الأمم التي لم تتمسك بلغاتها، وتخلّـت عنها لما هو سائد وفاعل في قضاياها الحياتية، فصارت فجأة مبتورة عن ماضيها وغريبة مستبعدة في حاضرها، وفقدت بذلك ميراثها الحضاري وغابت ملامح هويتها الثقافية، كحال كثير من الأعراق والشعوب الإفريقية التي تنازلت عن لغاتها المحكية لصالح لغة المستعمر الغربي الذي أقنع كثيراً من هذه الشعوب بأهمية تعلم لغته وإتقانها على حساب التخلي عن لغاتهم، لتكون سبباً في تطور حياتهم وتحسن شكل معاشهم، وهم في ذلك غافلون عن أهمية التمسك باللغة الأم، وغافلون عن كونها حد الدفاع الأول عن كينونتهم، والدرع الواقي لملامح هويتهم ومعالم حضارتهم.
اللغة ليست محض مفردات وتراكيب للتعبير والتواصل مع الآخر، بل هي الوعاء الأصيل الذي يحمل ميراث الشعوب وحضاراتها، وإن كانت الثقافة عنصراً من عناصر الهوية فاللغة هي قالبها
ما الذي يجعل الهُويّة في خطر ؟
بالنظر إلى واقع شعوبنا العربية نلحظ تزايد الأحاديث والنقاشات حول الأخطار المحدقة بالهوية العربية والإسلاميّة، فهل هي فعلاً في خطر؟ في الحقيقة إن نظرة شاملة نلقيها على واقع الأجيال الناشئة كفيلة بتشكيل فكرة عامة تأخذنا إلى الإقرار بأن تخوفاتنا فيما يخص ضياع الهوية في محلّها، فكثيرٌ من أبناء العربية اليوم لا يولون عناية كافية لتعلم اللغة العربية وتعليمها للأبناء، بل يرونها عبئًا تعليميًا يسعون للخلاص منه من خلال جعل اللغة الأجنبيّة هي اللغة المركزيّة في حياة أبنائهم، والطّامة الكبرى أنّ هذه الأسر ومجاميع الشباب جعلت اللغة الأجنبيّة لغة حواراتها المنزلية والاجتماعيّة، ناسين غافلين عن ارتباط اللغة بالهوية، وأن أي ضعف في اللغة الأم سينعكس حتماً على ضعف في حسِّ الانتماء إلى الأمة الأكبر، وسيورث لدى الأطفال والناشئة والشباب شعوراً بأهمية الانسياق وراء الرائد زيفاً وفقاً لما يروّج له في وسائل التأثير المباشرة كوسائل التواصل الاجتماعي التي باتت إلى حدّ كبير وسائلَ لتخريب الأجيال والعبث في العقول وترسيخ أفكار مشوهة عن النجاح والإنجاز والفلاح في الحياة.
يميل الجيل الحالي من أبنائنا نحو تمجيد هوية الآخر والانسياق وراءها والانصياع لما يدخله تحت ستارها، فيتبنّون أفكار الآخر بحجة السعي وراء التقدم والتطور العلمي، فينغمسون في أوحال الثقافات الرثة، المنبتّة، البعيدة كل البعد عن عقيدتنا وهويتنا وانتمائنا وأخلاقنا، ويحصدون بمرور الأيام هوية غائمة الثنايا، وانتماء ضبابياً مشكوكاً بأصالته ومشتبهاً بحقيقته، ليصبحوا مع مرور الزمن كالغراب الذي أراد تقليد مشية الطاووس، فلا أتقن مشية الطاووس ونسي مشية الغراب، ولو أنصفنا لقلنا إنّهم يصبحون كالطاووس الذي تخلى عن جماله وبهائه ليصبح غرابًا فلم يفلح في أن يكون غرابًا ولا حافظ على بهاء الطواويس وجمالها!
يشبّه بعض الباحثين اللغة بتأشيرة العبور، فبها تعلو الأمم وترقى الشعوب، وأي أمة لا تحمي لغتها وتسمح بالعبث بأوصالها تغدو مبتورة عن ثقافتها وهويتها، فالهوية واللغة والثقافة مرتكزات عماد الأمم، إذا تداعى واحد منها آلت الأخرى إلى التهاوي والسقوط، ومع ذلك ينبغي علينا أن نفتح ذراعينا للوافد الحضاريّ لكن بعد التأكد من أننا نقف على أرض ثابتة وبجذور راسخة، فالتمسك بالهوية واللغة وما ورثناه من حضارة وتراث راقٍ لا يعني الانغلاق ونبذ الآخر، بل هو المنطلق الذي ينبغي أن ننطلق منه في انفتاحنا على الآخر لمواكبة عجلة التقدم والتطور الحضاري. وبعبارة أبسط: يمكن للإنسان أن يكون معتدلاً في الانفتاح على الآخر ويستفيد منه بدون المساس بهويته.
إن أهمية اللغة في تقوية أواصر الهوية والحفاظ عليها لا تكمن في وظيفتها التواصلية فحسب، علينا أن نعي ذلك ونتنبه له، فاللغة ليست محض مفردات وتراكيب للتعبير والتواصل مع الآخر، بل هي الوعاء الأصيل الذي يحمل ميراث الشعوب وحضاراتها، وإن كانت الثقافة عنصراً من عناصر الهوية فاللغة هي قالبها، والسعي نحو التقدم الحضاري يرفد الهوية ويعكس في طريقه مدى أصالتها وعمق جذورها، وهي الصورة الجلية لعقول الأمم وأفكار الأجيال، فاللسان عقلٌ قائمٌ بذاته؛ والرغبة في موازاة الآخر في تطوره يجب أن تُدعم بقدرة على التفاعل مع المختلِف، ومرونة في التعامل معه، لكن بدون العبث بمرتكزات الهوية، وبأقدام ثابتة تمنع من الانجرار وراء الاستسلام لهيمنة الآخر.
إعادة الاعتبار للغة العربيّة في عقول الأبناء ومن قَبلهم في عقول الآباء والأمهات بوصفها عنوان الهويّة؛ واجب العصر، فلا كينونة لهم على المستوى الفردي والجمعيّ إلّا بها، ولا وجود حقيقيًّا وفعلياً لهم مع غيابها عن حياتهم اليوميّة
كيف يحدث الاستسلام لهيمنة الآخر وسيطرته؟
حين تتقهقر الشعوب نفسياً وتتراجع الأمم عن الاعتزاز بجذورها وتراثها تنساق الأجيال وراء الآخر، وتخضع لسيطرته وتستسلم لهيمنته عليها، وحين تتهاون الشعوب في الحفاظ على مرتكزات هويتها ومكوناتها، ويتناسون أن تمايزهم قائم على تمايز الهويات في حقيقتها؛ تراهم في تبعية وانجرار وراء أسطورة العولمة واختزال العالم بقرية صغيرة تنصهر فيها الهويات وتتراكب الحضارات فتفقد بصمتها الخاصة بها، وتراهم في أثواب بالية من التبعية والهوان، والأمثلة في دول العالم الثالث –مع التحفظ على هذا الوصف الساذج- كثيرةٌ، فقد فرضت دول الغرب الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية كذلك سيطرتها على لغة كثير من تلك الشعوب وشوهت كثيراً من مكونات هويتها، فصارت تلك الشعوب تبعاً في اللغة والثقافة وطرز الحياة، وبعبارة أدق؛ صارت تلك الشعوب ترزح تحت وطأة هيمنة الآخر الغريب فظهر ضعفها، وبان عورها، واضمحلت في غياهب ضياع الهوية، وما ذلك إلا لأنها تهاونت في قضية التمسك بإحدى أهم مرتكزات الهوية؛ وهي اللغة؛ وعاء الفكر وأداة التقدم وأساس الحضور في حقيقة الوجود.
وهنا لا بدّ أن نشير إلى أنّ السياسيات التعليميّة التي تنتهجها الحكومات العربيّة أسهمت بشكل كبير في التردي اللغوي، وكذلك الإقصاء الممنهج للغة العربيّة عن وسائل الإعلام لصالح اللهجات المحليّة، وكلّ هذا وغيره تتحمل الأنظمة السياسيّة مسؤوليّته، غير أنّنا لا ينبغي أن نتوقف عند تعليق المشكلة على مشجب السياسات الرسميّة للتخلي عن المسؤوليات الأسريّة والمجتمعيّة.
إنّ إعادة الاعتبار للغة العربيّة في عقول الأبناء ومن قَبلهم في عقول الآباء والأمهات بوصفها عنوان الهويّة؛ واجب العصر، فلا كينونة لهم على المستوى الفردي والجمعيّ إلّا بها، ولا وجود حقيقيًّا وفعلياً لهم مع غيابها عن حياتهم اليوميّة، ولا انتصار على محاولات المحو التي يمارسها الآخر بحقنا إلا بالتدرّع بها، لنخطو الخطوة الأولى في طريق التعامل السليم والتفاعل الواجب لغتنا العظيمة لتكون بردًا على الأكباد في زمن التيه الحضاريّ؛ وما أصدق ما قاله الشّاعر حليم دموس وهو الذي عاش جلّ حياته في بلاد المهجر والاغتراب:
لـو لم تكُنْ أمُّ اللغـاتِ هيَ المُنى
لكسرتُ أقلامي وعِفتُ مِدادي
لغـةٌ إذا وقعـتْ عـلى أسماعِنا
كانتْ لنا برداً على الأكبادِ
سـتظلُّ رابطـةً تؤلّـفُ بيننا
فهيَ الرجـاءُ لناطـقٍ بالضّادِ