كيف تُسهم اللّغة العربيّة في الحفاظ على الهويّة؟
سألني أحدُ طُلّابي المسلمين من غير العرب: كيفَ تكون اللغة العربيّة جزءاً من هويّتي وأنا أصلاً لا أملك لسانها ولا أنتمي لقوميّة عربيّة؟ ومثل هذا السؤال يدور في أذهان كثير من الشباب العرب أيضاً لكن بطرائق مختلفة، كأن يسأل: كيف تكون اللغة العربيّة عنوان الهويّة في هذا العصر الذي غدا فيه العالم قرية صغيرة والعربية لم تعد عنواناً للتقدّم والتواصل الحضاريّ فيه؟
من الطبيعي أن تثور مثل هذه الأسئلة في أذهان الشباب في زمن الاستضعاف والشعور بالتردي الحضاريّ وغلبة الأمم الأخرى واستعلاء التقنيّة وهيمنة القوة العسكريّة، لكنّ هذا لا يعني التسليم بهذه الأفكار والاستسلام لها، بل يفرض علينا وبشكل أكبر أن نُفنّد أشباه هذه الأفكار حتى لا تغدو قناعات وتتحول مع الزمن إلى أسافين تضرب الشخصيّة الحضاريّة لشبابنا وتهدمها من قواعدها.
وهذا يقتضي منا بالضرورة معرفة أنّ الهويّة تعني مجموع السمات والخصائص والمقومات الجوهريّة التي تجعل أي شعب مطابقاً لذاته، وتميزه من غيره من الشعوب والأمم، وبهذا المعنى فإنّ الهويّة ليست محض فسيفساء جماليّة خارجيّة، بل هي أساس جوهريّ في وجود الفرد والمجتمع، فلا وجود للإنسان في هذا الكون وجوداً حضارياً إنسانياً بغير هويّته.
انتماء أيّ مسلم إلى الإسلام بوصفه دينه وعنوانه الحضاريّ يلزم منه أن تكون اللغة العربيّة لغته الأغلى والأهم، فالعربيّة بهذا المعنى تمثّل معنى الارتكاز الحضاريّ لكلّ مسلمٍ في هذه الأرض
ترتكز الهويّة إلى عناصر لا تقوم إلا بها؛ منها الاعتقاد واللغة والتاريخ والثقافة المشتركة، والهويّة ضرورة وجوديّة، فلا وجود لشعب حقيقيّ بغير هويّته الخاصة به، وهي كذلك ضرورة إبداعيّة؛ إذ لا يمكن لشعب من الشعوب أو مجتمع من المجتمعات أن يبدع ويحلق في فضاءات التميز البشريّ بغير هويّته الرّاسخة، وفي هذا المعنى يقول المفكر عبد الوهاب المسيري: “ثمة علاقة بين الهوية والإبداع، فالإنسان الذي لا هوية له لا يمكنه أن يبدع، لأن الإنسان لا يبدع إلا إذا نظر إلى العالم بمنظاره هو وليس بمنظار الآخرين، لأنه لو نظر بمنظار الآخرين، أي لو فقد هويته وأصبح عقله في أذنيه، فإنه سيكرر ما يقولونه ويصبح تابعًا لهم، كلّ همّه أن يقلّدهم أو أن يلحق بهم، ويبدع داخل إطارهم، بحيث يتحقق إبداعه من داخل تشكيلهم الحضاري، كما يحدث لكثير من العلماء العرب الذين يهاجرون إلى الغرب”.
واللغة هي عنوان سيادة الهوية في أيّة أمّة من الأمم وعند أيّ شعب من الشعوب، وهي التعبير الجلي عنها، سواء أكانت هوية قومية أو دينية أو غير ذلك، فالعلاقة بين اللغة والهوية جذرية أصلية. ولَئِن كانت الهوية تقوم على عناصر عدة كما ذكرنا فإنّ اللغة تعدّ من أهمها، وتأتي في مقدمة طليعتها، فهي أداة التواصل والوعي، وهي أداة التعبير عما سواها من عناصر، والوسيلة التي تبين معالم المرتكزات الأخرى وتشرحها.
واللغة العربيّة ليست شأناً عربياً خاصاً بل هي شأن إسلاميّ، فهي عند المسلمين على اختلاف لغاتهم وقومياتهم وأعراقهم وبلدانهم لغتهم الأولى، فهي اللغة التي يعرفون بها كتابهم المنزل الذي يمثل بالنسبة لهم دستورهم ومرجعيتهم، ومن هنا فإنّ انتماء أيّ مسلم إلى الإسلام بوصفه دينه وعنوانه الحضاريّ يلزم منه أن تكون اللغة العربيّة لغته الأغلى والأهم، فالعربيّة بهذا المعنى تمثّل معنى الارتكاز الحضاريّ لكلّ مسلمٍ في هذه الأرض، ولا يمكن أن يتحقق الانتماء الهوياتي لأيّ منتمٍ للإسلام إلا بمقدار انغماسه باللغة العربيّة بوصفها أداة التواصل الحضاريّ المعبّرة عنه.
تعدّ اللغة لدى الشعوب المتقدمة شأنًا قوميًا وسياديًا لا يجوز المساس به بأي شكل من الأشكال، ويدخل في سياق الأمن الوطني والقومي لدى الشعوب المرتبطة ببعضها باللغة والتاريخ والحضارة، فالحفاظ على اللغة والاعتناء بها يغدو في هذه الحال واجبًا قوميًا بالمقياس الصريح لسلامة الشعوب وحفاظها على تمايزها وفرادة هويتها، ويغدو واجبًا وطنيًا حين ترتبط اللغة بماضي الشعوب وتلفّها بدثار وطني بعيد الأبعاد عميق المدى واسع الظل.
الاعتزاز باللغة العربيّة والتمسك بها يوازي عنوان الانتماء للهوية الإسلاميّة، فبها يبدأ المسلم خطواته الرئيسة ليكون رقماً صعباً ومؤثراً حقيقياً في هذا العالم الذي لا يعترف بأصحاب الهويات الهشة
وفي الإطار ذاته فإنّ اللغة العربيّة تمثّل شأناً سيادياً إسلامياً، ومن التجليات الفقهيّة لهذا المعنى السيادي اشتراط جمهور الفقهاء أن تكون خطبة الجمعة باللغة العربية، وخطبة الجمعة كما هو معلوم في أصل فلسفتها أنّها تمثل البيان السيادي الأسبوعي للدولة الإسلاميّة، وفي ذلك يقول الإمام النووي في المجموع: “فرع: هل يشترط كون الخطبة بالعربية؟ فيه طريقان: أصحهما وبه قطع الجمهور يشترط لأنه ذكر مفروض فشرط فيه العربية كالتشهد وتكبيرة الإحرام، مع قوله صلى الله عليه وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي” وكان يخطب بالعربية. أما أتباع المذهب الحنفي فقد ذهبوا إلى عدم اشتراط استخدام اللغة العربية في الخطبة، ولا بد هنا من الإشارة إلى أن المذهب الحنفي ينتشر في كثير من البلاد الإسلاميّة غير العربيّة كتركيا وأفغانستان وباكستان وغيرها، على أنهم يرون أن استخدامها مستحب ويحرصون على أن تكون أركان الخطبة ومقدماتها باللغة العربيّة، معللين ذلك بما جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي: “إن الرأي الأعدل الذي نختاره هو أن اللغة في أداء خطبة الجمعة والعيدين في غير البلاد الناطقة بالعربية ليست شرطًا لصحتها، ولكن الأحسن أداء مقدمات الخطبة وما تتضمنه من آيات قرآنية باللغة العربية لتعويد غير العرب على سماع العربية والقرآن؛ مما يسهل عليهم تعلمها وقراءة القرآن باللغة التي أنزل بها، ثم يتابع الخطيب ما يعظهم وينورهم به بلغتهم التي يفهمونها”، يقصدون بذلك أن الوعظ حاصل بكل اللغات.
تختزن اللغة بطبيعتها مكونات الانتماء، وتختزلها في الوقت نفسه، فهي أداة التعبير عن الانتماء، وهي اللسان الناطق عن مكونات الهوية، فبها تتجلّى، وبها تُختَصر، لذلك نرى كثيرًا من المتحدثين الرسميين في المحافل الدولية السياسية أو الثقافية أو ما سواها، يتمسكون بفكرة الحديث بلغاتهم، وإن كانوا يتقنون اللغة الإنجليزية بوصفها اللغة العالمية الأولى، لكنهم يفضلون استعمال لغاتهم الأم، بل يصرّون على ذلك، إظهارًا لشعورهم بالانتماء وتعزيزًا لمكانة اللغة وأهميتها لديهم، تاركين للمترجمين عبء ترجمة ما قالوه للحضور، معتزين بانتمائهم متمسكين به، مشيرين إلى استقلال كيانهم وقوة حضورهم بوصفهم هوية ووحدة قومية خاصة.
وهناك نماذج وصور أخرى للاعتزاز باللغة، فبعض الدول تمنع سفراءها ومسؤوليها من رؤساء ووزراء من الحديث الرسمي بغير لغتهم الأم في المراسم والمحافل والاجتماعات الدولية التي ينضمون إليها، وفي ذلك إشارة إلى تثمينهم للغتهم وعنايتهم بها، وفيه إقرار صريح بكونها العنصر الأول للتعبير عن رسوخ أركان الهوية وأصالتها.
وهذه المعاني تقتضي أنّ الاعتزاز باللغة العربيّة والتمسك بها يوازي عنوان الانتماء للهوية الإسلاميّة، فبها يبدأ المسلم خطواته الرئيسة ليكون رقماً صعباً ومؤثراً حقيقياً في هذا العالم الذي لا يعترف بأصحاب الهويات الهشة، ولا يقرّ إلا للأقوياء حضارياً بالوجود والتأثير.