العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة([1])
عُرّفت العلمانية منذ نشأتها على أنها فصل الدين/الكنيسة عن الدولة، ثم اشتملت على تطبيق القانون الطبيعي على الإنسان والطبيعة، بنشأة نظام اقتصادي اجتماعي سياسي مبني على تحقيق المصلحة المادية المجرّدة، وتحويل الإنسان العادي إلى إنسانٍ منتج، أو إنسان شيئي مادي معزول عن القيم والثوابت المطلقة، وبذلك توسع مفهوم العلمانية إلى فصل الإنسان عن إنسانيته وقيمه الأخلاقية والمطلقات، ودوره الحضاري في الإعمار بقيم الإصلاح.
وإذ كانت المرجعيات الدينية والاجتماعية تناهض توسع وتغول هذا المفهوم فإنه بالمقابل هناك الكثير من أمور الدولة ومن الأمور الحياتية متمايزة عن هذه المرجعيات، وتقع بالعموم خارج نطاق فاعليتها، مثل كل الجوانب التقنية والفنية التي يمكن أن تحل خارج المؤسسة الدينية. وينوه إلى هذه الحالة في البلدان المسلمة عبر شواهد من السيرة مثل موضوع تأبير النخل، والتعسكر في بدر. الأمر الذي أستُند إليه في تسويغ انتشار العلمانية بمفهومها المرتبط بالعلم واستخدام التكنولوجيا المعاصرة خدمةً للبشر.
وفي كتابه المعروف (رحلتي الفكرية من البذور الجذور والثمر) يطرح المفكر المصري عبد الوهاب المسيري مصطلحين جديدين متمايزين يعبران عن حالتين متفرقتين ومتداخلتين أحيانًا من حالات العلمانية، وهما العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، حيث يعتبر المسيري أن العلمانية بدأت في منتصف القرن التاسع عشر بفصل الدين/الكنيسة عن الدولة؛ لتكون الدولة هي المسيطرة اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا وتتدخل حتى في تربية الأولاد، ولتصبح التربية والتعليم بهدف الإنتاج والربح، وتمسي القوة والذكاء وتحقيق الربح هو المعيار الأساس في تفاضل البشر.
ويتحول العقل إلى عقل مادي معادٍ للتاريخ؛ فالتاريخ عبارة عن بنية غير مادية غير طبيعية. وتصبح الوسائل عقلانية فيتعلم الإنسان كيف يبني جسرًا لكن لا يهمه إلى أين يودي هذا الجسر (ألمانيا النازية أبدعت في صنع الأسلحة، وحلقت الطائرات في السماء، لكن ماذا كانت الغاية؟ …كانت غير عقلانية).
ويشير المسيري إلى أفكار الفلاسفة التي عبرت عن هذا المفهوم منذ ظهوره:
- هوبز وماكيافيلي اعتبرا أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، والتعاقد الاجتماعي هو بغرض البقاء.
- إسبينوزا ونيوتن اعتبرا أن العالم الذي نعيش فيه هو عالم مادي متحرك كالكون.
- لوك اعتبر أن العقل صفحة بيضاء، تتراكم فيه المعطيات.
- داروين وفرويد اعتبرا أن الإنسان يحوي الذئب داخله وخارجه.
- نيتشه اعتبر أن الذات الإنسانية المستقلة وهم.
وتوسعت العلمانية وامتدت زمانيًا لتلبس مفهوم الحداثة المبنية على العلمانية وسياسة الاستهلاك والترانسفير والتبدل المستمر.
وتوسعت العلمانية وامتدت زمانيًا لتلبس مفهوم الحداثة المبنية على العلمانية وسياسة الاستهلاك والترانسفير والتبدل المستمر. بالإضافة إلى وحدة الوجود المادية التي تعني سيادة القانون الطبيعي/ المادي على كلّ من الطبيعة والإنسان.
ويعتبر المسيري أنّ العلمانية في مراحلها الأولى كانت جزئية، وهو مصطلحٌ جديدٌ ألقاه في المحافل العلمية ليعبّر عن حالة متمايزة عن التي تليها.
العلمانية الجزئية
إنها جزئية لأنها لا تدور في إطار القانون الطبيعي وحده، بل تترك مجالًا للقانون الإنساني والأخلاقي والديني، وتسمح بقدر من الثنائية. هذا ما لاحظه وأكده المسيري، وهذا ما دفعه لطرح المصطلح.
فالعلمانية تحت هذا المسمى تعني فصل الدين عن السياسة وربما الاقتصاد. وهي تعني أن يتولى الفنيون والمختصون شؤون المصالح الفنية الدنيوية «لا أحب أن أرى شيوخًا أو قساوسة أو فلاسفة أو أساتذة أدب إنجليزي يجلسون في لجان تناقش طرق تحسين التصدير وميزان المدفوعات أو نوع السلاح الذي يجب علينا تزويد جيشنا به. فمثل هذه الأمور الفنية يجب أن تترك للفنيين، أما المرجعية النهائية (الاستراتيجية والمعرفية والأخلاقية) للدولة، فهذه أمور لا يمكن أن تترك للفنيين، وتلزم العلمانية تحت هذا المسمى الصمت حيال مفهوم القيم المطلقة والحياة الخاصة والمرجعية النهائية للقرارات السياسية والاقتصادية، أي إنها تترك حيزًا واسعًا للقيم الإنسانية غير المادية والأخلاقية المطلقة، بل للقيم الدينية ما دامت لا تتداخل في عالم السياسة بالمعنى الفني»([1])
كما سمّاها المسيري العلمانية الأخلاقية أو الإنسانية والتي وصفت الواقع حين كانت الدولة ضعيفة لا تمتلك أجهزة أمنية وتربوية قوية، كما لم يكن هناك إعلام قوي يصل إلى المواطن في منزله، فظلت الحياة الخاصة بمنأى عن العلمنة. أما حين امتلكت الدولة زمام الأمور، وصارت قوية تمتلك أجهزة أمنية وتربوية متوحشة، ومكنات إعلامية تستطيع الوصول إلى عقل كل فرد والتأثير فيه، خرجت العلمانية عن قيود هذا المصطلح لتأخذ منحى آخر أخطر بكثير.
العلمانية الشاملة
هذه التطورات الضخمة غيرت الصورة تمامًا، إذْ تغولت الدولة وحولت نفسها ومصلحتها إلى مرجعية نهائية تجبُّ كل المرجعيات.
أطلق المسري هذا المصطلح الجديد ليعبر عن حالة جديدة وصلت إليها الدولة، فقد غدت قوية، وامتلكت أذرعًا طويلة مكنتها من الوصول إلى المواطنين من خلال مؤسساتها الأمنية والتربوية والإعلامية. وتوحش الإعلام، وأصبحت مؤسساتها قادرة على الوصول إلى المواطن في أي مكان وزمان، وتزودّها بمختلف المرجعيات! ولم تعد الحياة الخاصة بمنأى عن كل هذا، إذ يلاحظ اتساع رقعة الحياة العامة على حساب رقعة الحياة الخاصة، حتى تكاد أن تختفي تمامًا. هذه التطورات الضخمة غيرت الصورة تمامًا، إذْ تغولت الدولة وحولت نفسها ومصلحتها إلى مرجعية نهائية تجبُّ كل المرجعيات.
ولم يعد التعريف القديم الجزئي للعلمانية له أي علاقة بالواقع الجديد.
قام المسيري بصياغة مصطلح العلمانية الشاملة، ليصف وضع المجتمع العلماني بعد التطورات المشار إليها، واعتبرها أيديولوجية كاسحة لا يوجد فيها مجال للإنسان أو للقيم، فلا يمكنها أن تتصالح مع الدين أو القيم الثابتة أو الإنسان، بل تحاول أن تختزل حياة الإنسان بالبعد المادي وحسب.
«فالعلمانية الشاملة ليست مجرد فصل الدين عن الدولة وعن بعض جوانب الحياة العامة وحسب، وإنما هي فـصـل الـقـيم والغايات الدينية والأخلاقية والإنسانية عن الدولة وعن مرجعيتها النهائية، وعن حياة الإنسان العامة والخاصة، وتطبيق القانون الطبيعي/ المادي على كل مناحي الحياة، وتصفية أي ثنائية بحيث يتم تسوية كل الظواهر الإنسانية بالظواهر الطبيعية، فتنزع القداسة تمامًا عن العالم ويتحول إلى مادة استعمالية، يمكن إدراكها بالحواس الخمس، كما يمكن لمن عنده القوة الكافية لهزيمة الآخرين أن يوظفها لصالحه. ونتيجة لهذا يظهر العلم والتكنولوجيا المنفصلان عن القيمة والغاية»
والتعريف الذي طرحه المسيري ينبع من ذلك التمييز المبدئي بين الإنسان والطبيعة، فالعلمانية الشاملة أدّت إلى مركزية المادة وتهميش الإنسان واختفائه، ثم إلى اختفاء المركز كلية وإلى ظهور الفلسفات العدمية بما في ذلك ما بعد الحداثة.
«وأميّز بين الحلولية المادية الصلبة والحلولية السائلة. فالحلولية الصلبة هي الحلولية المادية في مراحلها الأولى، حين يتم تصفية الإنسان باسم الطبيعة، ويكون مركز العالم هو الطبيعة/ المادة (وهذه هي مرحلة الحداثة).
ولكن تصبح أشياء عديدة موضع الحلول، فتتعدد المراكز ويسقط كلُّ شيء في قبضة الصيرورة الكاملة، فيغيب كل يقين وتسيطر النسبية تمامًا. ويفضي بنا كل هذا إلى عالم مفكك لا مركز له، ويتحول العالم إلى كيان شامل واحد تتساوى تمامًا فيه الأطراف بالمركز، عالم لا يوجد فيه قمة أو قاع، أو يمين أو يسار (أو ذكر أو أنثى )، وإنما يأخذ شكلاً مسطحًا تقف فيه جميع الكائنات الإنسانية والطبيعية على نفس السطح وتصفى فيه كل الثنائيات، وتصبح كلمة (إنسان) دالاً بل مدلول، أو دالاً متعدد المدلولات، وهذا هو التفكيك الكامل، وهذا هو أيضا الانتقال من عالم التحديث والحداثة (والإمبريالية) والحلولية المادية الصلبة إلى عصر ما بعد الحداثة ( والنظام العالمي الجديد ) والحلولية المادية السائلة»
ويصف المسيري العلمانية الشاملة بأنها تنزع القداسة عن المقدس وتخلع القداسة على غير المقدس، وهي ذاتها التحديث على النمط الغربي والذي يتبني العلم والتكنولوجيا والعقل، بمعزل عن القيم والأخلاق حتى يتسنى التحكم في الإنسان والطبيعة تحكماً كاملاً. فالتحديث جوهره تطبيق نموذج الطبيعة/ المادة على ظاهرة الإنسان.
وحيال هذا يبدي المسيري أسفه إذ يردّد دعاة الحداثة في العالم العربي ما يقوله الغرب عن الحداثة الغربية دون أن يطرحوا آراءهم ورؤاهم في الموضوع، فيتبنون أفكار الحداثة الغربية كما هي.
«لقد تغلغلت عمليات العلمنة الشاملة وانتقلت من الحياة العامة إلى الحياة الخاصة، لتتحول الأسرار إلى ظواهر علمية قابلة للدراسة الموضوعية! وتسود العلاقات التعاقدية محل الصراعات الإنسانية المباشرة، وتسود أخلاقيات السوق والقيم الداروينية في كل مجالات الحياة.. ثم يعرف الإنسان ذاته في ضوء احتياجاته المادية، أي أنه هو ذاته، شأنه شأن النشاطات الطبيعية والاجتماعية، ينفصل عما هو إنساني واجتماعي وتصبح مرجعيته النهائية مادية. فيختفي الإنسان الإنسان (الإنسان الرباني) ويظهر الإنسان الطبيعي. فتقوم المنظومة العلمانية بسحب الأشياء من عالم الإنسان ووضعها في عالم مستقل هو (عالم الأشياء) ثم تسحب الإنسان نفسه من عالم الإنسان وتضعه في عالم الأشياء هذا»
ويضرب المسيري أمثلة على ذلك، ففي عالم الرياضة، كان الهدف هو تهذيب الجسد وتدريب الناس على التعاون وتفريغ نزعاتهم العدوانية من خلال قنوات متحضرة. فتحول إلى مفهوم إحراز النصر والتنافس الشرس وتصبح الرياضة مرجعية ذاتها، وتصبح معايير الرياضة رياضية، ونسمع عن بيع وشراء اللاعبين، ونشاطات اقتصادية واجتماعية وربما سياسية عديدة في قطاع عريض اسمه الرياضة.
فالعلمانية الشاملة تحول العالم إلى مادة استعمالية، وهي تمثل بهذا المعنى الوجه الآخر للإمبريالية التي حولت العالم إلى مادة استعمالية يوظفها الإنسان الغربي لصالحه.
حولت الصهيونية أرض فلسطين والفلسطينيين وجماعات دينية يهودية إلى مادة استعمالية قابلة للتوظيف؛ فهجرت يهود العالم من أوطانهم إلى فلسطين، وهجرت الفلسطينيين من وطنهم، وبذلك تكون الصهيونية هي إحدى تبدلات العلمانية الشاملة.
ويشير المسيري إلى بعض توجهات الفلاسفة التي يعتبرها تنويعات مختلفة على العلمانية الشاملة والنموذج المادي الكامن وراءها:
- الماكيافيلية: الغاية تبرر الوسيلة- ماكيافللي
- الهوبزية: الإنسان ذئب لأخيه الإنسان- هوبز
- الداروينية: الصراع من أجل البقاء، والبقاء للأصلح والأقدر على التكيف- داروين
- النيتشوية: تأكيد إرادة القوى والصراع ورفض المحبة بحسبانها مؤامرة الضعفاء ضد الأقوياء- نيتشه
- البراجماتية: يحكم على العقل لا من خلال أي منظور أخلاقي قبلي وإنما من خلال نتائجه العملية… الإنجاز – جيمس.
مفهوم العلمانية ما بعد المسيري ليس كما كان قبله
مفهوم العلمانية ما بعد المسيري ليس كما كان قبله، فانبثاق مفاهيم جديدة توصف حال المجتمع بدقة أعطى أبعادًا أخرى لهذا المفهوم، إذْ كانت بصورتها الكلية مسرحًا للتجاذبات والصراعات الفكرية يؤيدها البعض وينكرها آخرون، وحين ميز المسيري بين مفهومين متمايزين، بدا أن العلمانية الجزئية باعترافها بالمرجعيات النهائية وكونها لا تدور في إطار القانون الطبيعي وحده، بل تترك مجالًا للقانون الإنساني والأخلاقي والديني وتسمح بقدر من الثنائية، قابلة لاعتمادها في منظومات الدول الحديثة في الجوانب الفنية بعيدًا عن المرجعيات الاستراتيجية والمعرفية والأخلاقية.
أما العلمانية الشاملة فقد بيّن المسيري خطرها على الإنسان حيث إنها تجبّ كل المرجعيات وتفصل الـقـيم والغايات الدينية والأخلاقية والإنسانية عن الدولة وعن مرجعيتها النهائية، وعن حياة الإنسان العامة والخاصة، وتطبق القانون الطبيعي/المادي على كل مناحي الحياة. وتقضم الإنسان وتطحنه لتحوله إلى شيء مثل باقي الأشياء في عالم طبيعي مادي متلاطم، وهي بذلك تتربع على الدفة المظلمة في الصراع الأزلي بين الخير والشر على هذه البسيطة. ما يحتم على الإنسان اليوم إعمال العقل والتحرك بحزم لرفض هذه الممارسات الفكرية والتطبيقية التي لا توائم الفطرة ولا النسق الحياتي الإنساني.. وتقود البشرية إلى ما يشبه العدمية.. الثقب الأسود الذي سيلتهم ما تبقى من إنسانيتنا.
[1] كل ما بين مزدوجتين مقتبس من كتاب (رحلتي الفكرية)
[1] المسيري، عبد الوهاب، رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثم، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2000