أفكار الكبارالمقالات

من بساطة المادية إلى رحابة الإنسانية والإيمان[1]

ظهر في عصر النهضة الغربية مصطلح الرؤية الإنسانية (الهيومانيزم)، والتي اعتبرت أن مركز العالم كامنٌ فيه، وأنّ الإنسان مكتفٍ بذاته لا يحتاج إلى أي معرفة غير موجودة داخل النظام الطبيعي، وأن الأخلاق هي ما يقرره الإنسان. ومن الجلي أن المصطلح ينفي كينونة الإنسان ويرجعه إلى شكله البسيط المختزل في عضويته وماديته القائمة على الوظائف الحيوية التي تضمن بقاءه على قيد الحياة مثله مثل باقي الكائنات الحية، مضافًا إليه وحشيته وهمجيته المستندة إلى إعمال العقل والتآمر.

وقد استفاض المفكر عبد الوهاب المسيري في شرح المصطلح وألقى الضوء على فلسفة الكينونة البشرية متعمقًا في دراسة النماذج الفكرية التي أوصلته إلى الإيمان، فقد اعتبر أنه يوجد تناقضٌ حاد داخل الفكر الإنساني الهيوماني، بظهور نموذجين داخله يبحثان أسبقية الإنسان والطبيعة/ المادة.

نموذج متمركز حول الإنسان، ونموذج آخر متمركز حول الطبيعة/ المادة.

ففي حين يؤكد النموذج الأول وجود الإنسان ككائن له استقلالية عن الطبيعة، ويضع الإنسان في مركز الكون، ويجعله الركيزة النهائية باعتباره إرادةً حرةً واعية، وقوة مبدعة، فإن النموذج الآخر ينكر على الإنسان أي مركزية وتعتبره جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة/ المادة، يخضع لقوانينها، وبالتالي فهو كائن يتسم بالبساطة البالغة، إذ لا يتجاوز الإنسان وفق هذا النموذج عن كونه كائنًا طبيعيًا له وظائفه البيولوجية، ودوافعه الغريزية، ومثيراته العصبية، ويعيش حسب قوانين الطبيعة المادة.

ويتضح أن النموذج الثاني يعادي الإنسان ويهمشه بردّه إلى المادة وإلغائه الحيز الإنساني، وقد اعتبر هوبز([1]) أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، في حين شبهه سبينوزا([2]) بالحجر، وربطت الداروينية بينه وبين القرد، وأكد فرويد أن القرد موجودٌ داخل الإنسان، وبالتالي فقد جرى بناء المجتمع الحديث على صراعٍ دائم بين الإنسان والحيوان، بين الإنسان والإنسان، فهل هذه حضارة أو استنارة أو نهضة عقلانية؟

العقلانية المادية

ويعتبر المسيري أنّ هيمنة العقل المادي في الغرب تقف وراء كرههم العميق للعرب وعدم فهم قضية فلسطين، وعدم فهم ما يجري في عقول الفلسطينيين المتمسكين بتراثهم ومقدساتهم برغم كل الإغراءات المادية

يذكر المسيري في كتابه (رحلتي الفكرية) أنه كان يلقي محاضرات حول الاستنارة الغربية منوهًا إلى مناقبها وعقلانيتها، وفي الوقت ذاته كان يتحدث في مكان آخر عن أزمة الإنسان الحديث وتفتته واغترابه عن ذاته وعن الطبيعة. وقد لاحظ هذا التناقض الذي شكل تساؤلًا رئيسيًا لديه؛ إذْ كيف يمكن لحضارة الاستنارة أن تنتهي في ظلمات الأرض الخراب؟

ومن ثم اكتشف أنّ كبار الكتّاب الغربيين لم يعودوا يتحدثون عن الاستنارة والعقلانية في مقابل تركيزهم على اللاعقل واللاوعي والمخدرات والعبث، وأن الحضارة الغربية التي عُرفت بعقلانيتها وإنسانيتها كانت تنازع سكرات الموت بعد أن توالت عليها الضربات من (كير كجارد، نيتشه، هايدجر، وهتلر) واكتشف أن العقلانية الغربية تخفي وراءها نموذجًا ماديًا يساوي بين الإنسان والطبيعة ويساوي بين العقل الإنساني والطبيعة المادية لتصبح مهمة العقل هي رصد الطبيعة ومعرفة قوانينها لتطبيقها على الإنسان، وهي مقدرة العقل على التجريب، ثم انفصلت النزعة التجريبية عن العقل فصار يلهث وراء التجريب المنفصل عن القيمة الإنسانية والأخلاقية.

 ويعتبر المسيري أنّ هيمنة العقل المادي في الغرب تقف وراء كرههم العميق للعرب وعدم فهم قضية فلسطين، وعدم فهم ما يجري في عقول الفلسطينيين المتمسكين بتراثهم ومقدساتهم برغم كل الإغراءات المادية.

الواحدية المادية

يميز المسيري بين الإثنية والثنائية، فالثنائية غير الإثنية أو الازدواجية، ففي الثنائية يوجد عنصران قد يكونا متكافئين أو غير متكافئين، لكنهما يتفاعلان ويتدافعان. أما في الإثنية فهما عنصران مختلفان يكادان يكونان متعادلين، مثل إله الخير والنور، وإله الشر والظلام في بعض العبادات الوثنية، وقد يكونا متعادلين متكاملين تمام التعادل والتكامل، وهذه هي الواحدية التي تقابل الثنائية.

وتذهب الواحدية المادية إلى أنّ العالم بأسره، الإنسان والطبيعة، جوهرٌ واحدٌ، والإنسان جزء لا ينفصل عن الطبيعة.

والثنائية هي الإيمان بوجود أكثر من جوهر في العالم، فالثنائية الأساسية في النظم التوحيدية هي ثنائية الخالق (المنزّه عن الإنسان والطبيعة والتاريخ)، والمخلوق، ثنائية الخالق والمخلوق. وينتج عن هذه ثنائية ظهور الخير الإنساني، كما ينتج عنها ثنائية الإنسان والطبيعة، والتي تفرض انفصاله عن الطبيعة أسبقيته عليها.

وقد انتهى المسيري إلى أن العالم (الإنسان والطبيعة) يتّسم بالثنائية الفضفاضة التي تقابل الواحدية المادية.

الإنسان والطبيعة

          يرتكز مفهوم الإنسان على ثنائية الطبيعة وما وراءها، وهذه الثنائية تفصل بين الإنسان والطبيعة ولا تعتبره جزءًا منها لا يتجزأ، وتعتبر أن الإنسان مادة وروح وله مركزية في الكون ويحمل مسئوليةً خلقية وأخلاقًا تتجاوز المنفعة المادية، ولا تأتي هذه المسؤولية والأخلاق من نظم الطبيعة، بل مما وراءها، وحين يستمد الإنسان هذه الأخلاق من مصدر خارج عن الطبيعة ويكمل بها جانبه الروحي يتجلى انفصاله عن الطبيعة بوضوح.

أما مفهوم الطبيعة/المادة فإنه يركز على الواحدية المادية، وتوحد الإنسان بالطبيعة، وتعتبره جزءًا لا يتجزأ عنها. وتعتبر أن الإنسان مادة وحسب، فتنعدم المسئولية، وتصبح الأخلاق نفعية بشرية، ومصدرها بشري، فلا معنى لجوانب الروح والقيم في كائن لا يفرق عن باقي كائنات الطبيعة.

وينوّه المسيري في رحلة البحث عن الحقيقة إلى تبلور النموذج الإنساني وغير الإنساني لديه بمساعدة عناصر عديدة حولته إلى عالم التحقق. فالنشأة في دمنهور، وملاحظة المجتمع التقليدي والأسرة الممتدة والأسرة النووية، ومفهوم التعاقد والتراحم، شكلت الإطار الكلي والتربة الخصبة لتبلور النموذج، وطرح الأسئلة التي ستستهلك الجهد والوقت حتى يلقى لها الأجوبة الشافية:

  • هل الإنسان فعلًا جزء من الطبيعة، خاضع لقوانينها؟ أو أن فيه أسرارًا وأغوارًا أعقد بكثير مما يطفو على السطح؟
  • هل له جزءٌ آخر بعيدٌ كلَّ البعد عن المادي؟

ولقد واجه المسيري نموذجين متناقضين بارزين، نموذج ظاهري مادي ونموذج آخر كامن يصل إلى الجوهر الإنساني المفارق لصيرورة المادة، وقد احتدمت التناقضات لديه بين النموذجين حتى وصلت إلى نقطة التطاحن؛ لتتبلور أسئلة جديدة بعد ولادة ابنته نور.

  • هل يمكن أن يكون نمو هذه الطفلة وتجاوبها مع المحيط مجرد تفاعلات كيميائية وأنزيمات وغدد؟
  • هل هذا الكل الإنساني هو نتاج أعضائه المادية وثمرة الصدفة؟
  • أو أنّ هناك شيئًا ما يتجاوز السطح المادي؟

واكتشف أنّ النماذج التحليلية المادية بسيطةٌ وساذجةٌ في معالجتها للظاهرة الإنسانية، فرصد إنسانية الإنسان وليس طبيعته المادية تتطلب نماذج تحليلية مركبة متعددة الأبعاد والمستويات.

الروحي والمادي.. (نسوا الله فأنساهم أنفسهم)

يعتبر المسيري أن الإنسان أصبح علامة الثبات في عالم المادة المتحرك، وعلامة الانقطاع في عالم المادة المتصل؛ أي إنه متجاوز لقوانين الطبيعة المادية. وهناك ثنائية تحتاج لتفسير وهي ثنائية المادة وغير المادة، الطبيعة وما هو ليس بطبيعة، ثنائية الإنساني وغير الإنساني.

 ولتفسير هذه الثنائية كان لابد من افتراض ثنائية أخرى هي ثنائية عالم الصيرورة ونقطة ثابتة منزّهة متجاوزة تقع خارجه، هذه النقطة هي ضمان ثبات الإنسان وانفصاله عن الطبيعة. واعتبر أنّ هذه النقطة هي الإله. أي لا يمكن تفسير ظاهرة الإنسان المستقل عن الطبيعة إلا بوجود الخالق عز وجل.

 ويعتبر المسيري أنه حينما أعلن نيتشه موت الإله فإنه كان يعلن في الوقت ذاته موت الإنسان وتحوله إلى كائن طبيعي مادي، وشيء من الأشياء. وهذا ما عبرت عنه الآية الكريمة ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[1]

فنسي الإنسان إنسانيته وجوانب الخير التي فطر عليها، تلك الجوانب التي تنجيه من عذاب الله وتدخله الجنة. وتحوّل بعد هذا النسيان إلى كائن مادي يلهث خلف هواه. فلنتصور طالبًا نسي الامتحان، نسي أنه طالب ثم داهمه الامتحان فجأة، لقد فقد كلّ أداة تمكنه من اجتياز الاختبار بنسيانه ذاك.

حقائق الجوهر الإنساني وتعقيداته

يعتبر المسيري أنه وصل إلى الله تعالى من خلال الإنسان وفهمه، وأطلق على هذا الفهم مصطلح (الإنسانية الإسلامية) الذي يرفض الواحدية المادية ويوقف ثنائية الإنسان والطبيعة/ المادة، ويصعد إلى ثنائية (الخالق والمخلوق)

وبفصل الإنسان عن الطبيعة واعتبار ثناية الطبيعة وما وراءها، واعتبار الإنسان ليس جزءاً لا يتجزأ من العالم الطبيعي المادي وإنما هو جزء يتجزأ منه وحسب، بل جزء منه متجاوز للمادة؛ طرح المَسيرِي فكرَةَ الإِنسانِ الإِنسانِ أَو الإِنسانِ الرَّبَّانِي، الكائِنِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. الإنسان المعجزة.

فجزء من الإنسان يتحرك حسب قوانين الجاذبية والدوافع البيولوجية والغريزية، ولكنه في الوقت نفسه تتوق روحه إلى عالم المثل والثبات والروح، لقد رأى أن الإنسان كائنٌ أقدامهُ مغروسةٌ في الوحل وعيونهُ شاخصةٌ في النجوم. ولكي تتحقق معادلة الإنسان الإنسان بجزئيه الطبيعي وغير الطبيعي وجد أنه لابدّ من الإيمان بالله، الضامن الوحيد لذلك.

ويشير المسيري إلى جملة من الحقائق التي تميز الجوهر الإنساني وتجعله متجاوزًا الطبيعة/ المادة:

  • فالإنسانُ قادرٌ على تطوير منظومات أخلاقية متجاوزة لطبيعة المادة.
  • طوّر الإنسان نسقًا من المعاني الداخلية والرموز التي يدرك من خلالها الواقع.
  • وهو يتمتع بذاكرة قوية.
  • الاختلاف في الأنماط الشخصية دليلٌ على الإنسان المعجزة الذي يجاوز الحتميات الطبيعية، إذْ يتميز كل فرد بخصوصيات ونمط شخصية وحالة لا تتكرر، فالأفراد ليسوا نسخًا متطابقة مقولبة.
  •  الإنسان وجودٌ غير مكتمل ومشروعٌ يتحقق في المستقبل واستمرار للماضي، الإنسان يعيش بذاكرته ووعيه وإدراكه زمنًا مفتوحًا ممتدًا من بداية الخليقة ومتجاوزًا لما بعد الموت ومتصورًا للدار الآخرة، متفاعلًا مع هذا المجال الزمني، وبالتالي فإن ممارسات الإنسان ليست انعكاسًا بسيطًا أو مركبًا لقوانين الطبيعة، بل هو ظاهرة متعددة الأبعاد لا يمكن اختزاله إلى بعد واحد من أبعاده.
  •  والإنسان يطرحُ الأسئلةَ الوجودية ويتدبر في نفسه وفي الكون.
  • اختلاف الاحتياجات النفسية من طفلٍ لآخر
  • الدينُ والهوية.
  • عالم الروح.

وهذه الميزات كلها ليست أمورًا طبيعية، إذْ لا توجد أعضاءٌ تشريحية أو غدد وهرمونات أو أحماض أمينية تشكل الأساس المادي لها. إنها الجانب الروحي الرباني في وجود الإنسان وسلوكه.﴿هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾([2])

ويطرح المسيري مثالًا عن هذا التعقيد والجوهر النابض بالروح فيشير إلى أثر الإسلام في أبعاده الفلسفية والمعرفية في شخصية (مالكوم اكس) أو (الحاج مالك الشباز) الذي كان مهربًا للمخدرات وخاضعًا لعالم الدولارية، وحين سُجن أقنعه المسلمون في السجن باعتناق الإسلام، فتغيرت حياته مدركًا عالمية الرؤية الإسلامية للإله والطبيعة الجماعية للإسلام ورفضه للتجسيد والعنصرية، في مقابل الفردية والأنانية في المجتمع الأمريكي. وحين حجّ البيت في مكة اكتشف إمكانية تحقيق المساواة دون إلغاء التنوع؛ فتجاوز كرهه للبيض وعاد إلى أمريكا وأسس حزبًا جديدًا جمع بين البيض والسود في رفضهم للدولارية، فقُتل.

يعتبر المسيري أنه وصل إلى الله تعالى من خلال الإنسان وفهمه، وأطلق على هذا الفهم مصطلح (الإنسانية الإسلامية) الذي يرفض الواحدية المادية ويوقف ثنائية الإنسان والطبيعة/ المادة، ويصعد إلى ثنائية (الخالق والمخلوق)

ثم يصف الإنسان أخيرًا في موسوعته الشهيرة([1]) بالكلمات التالية «إنّ إنسانيةَ الإنسان تعبّر عن نفسها من خلال مظاهر عديدة من بينها النشاط الحضاري للإنسان، الاجتماع الإنساني، الحسّ الخلقي، الحسّ الجمالي، الحسّ الديني، فالإنسان كائنٌ ذو إرادةٍ حرّة، واعٍ بذاته وبالكون، قادرٌ على تجاوز ذاته المادية، عاقلٌ، قادرٌ على استخدام عقله، وبالتالي قادرٌ على إعادة صياغة نفسه وبيئته حسب رؤيته»


[1]  موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية- دار الشروق

[1]  الحشر (19)

[2]  لقمان (11)

[1]  توماس هوبز Thomas Hobbes (5 نيسان 1588 – 4 أيلول 1679) عالم رياضيات وفيلسوف إنجليزي اشتهر بأعماله في الفلسفة السياسية.

[2]  باروخ سبينوزا  Baruch Spinoza ( 1632م – 1677م) فيلسوف هولندي يهودي ، وهو من أصول برتغالية أندلسية.

[1]  المسيري، عبد الوهاب، رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2001

أ. عماد كوسا

كاتب روائي وقصصي وناشط في مجال العمل الشبابي والمجتمعي.

أ. عماد كوسا

كاتب روائي وقصصي وناشط في مجال العمل الشبابي والمجتمعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى