المقالات

ثوابت الهوية الإسلامية في مواجهة العولمة

لماذا الحديث عن الهوية ولماذا الحديث عن دورها في مواجهة العولمة؟ قد يبدو للبعض مصطلح الهوية مصطلحًا مبهمًا أو على أقل تقدير غير واضح ومحدد بدقة، خاصة وقد تعددت التعريفات حول الهوية، مع إدراك أن مصطلح الهوية لم يتم تداوله إلا في الآونة الأخيرة في الكتابة الاجتماعية والمعرفية.

مصطلح الهوية في أحد بواعثه جاء كرد فعل على التهديد الكبير لهذه الهوية ولقيم المجتمعات في العالم، التي يبدو أن القوى الكبرى سياسيًا واقتصاديًا أرادت فرضه على جميع المجتمعات في الأرض، وبالأخص تلك المجتمعات التي تحمل هوية خاصة ومفترقة عن الهوية لهذه القوى الكبرى المستكبرة.

قد يكون من المفيد التوقف قليلاً لنؤصل لمفهوم وأهداف القوى الكبرى المستكبرة، المتمثلة بالقوى المتقدمة تقنياً واقتصادياً، حيث أوجدت لنفسها نادي عالمي خاص يضع بينها وبين الشعوب الأخرى الأقل تقدما تقنياً واقتصادياً حاجزاً لتصدير العلوم الحقيقة، لكنه يُصّدر صورة وهمية عن تلك القوى، صورة عن حضارتها وتقدمها ونظامها، من خلال هذه الصوة تقدم نموذجاً في الثقافة السياسة والأخلاق والقيم شديدة الخطورة، يخرج الأفراد والمجتمعات عن فطرتها وأمنها النفسي والاجتماعي، ومن أجل تمرير هذا النموذج تستنفر قدرتها العلمية في العلوم النفسية والاجتماعية والإعلامية والسياسية.

هذا النموذج يكرس صورة الاستكبار والاستعلاء على الأمم الأخرى، والهدف من الاستعلاء جعل الآخرين صغاراً أمام نموذجها وبالتالي يحتاجون أن يتماهوا بصورة الغرب الأقوى والأكثر تقدماً.

يُقدم النموذج الغربي ضمن إطار محتوى معرفي وثقافي جذاب يداعب خيالات الشعوب الصغار منهم والشباب النساء والحالمين بمزيد من التقدم والمتمنين أن ينتمون إلى عالم المال والشهرة والسيطرة، هل عرفت لماذا إحياء مفهوم الهوية مهماً للمجتمعات، لذلك نسأل ما هي الهوية؟

هذا النموذج يكرس صورة الاستكبار والاستعلاء على الأمم الأخرى، والهدف من الاستعلاء جعل الآخرين صغاراً أمام نموذجها وبالتالي يحتاجون أن يتماهوا بصورة الغرب الأقوى والأكثر تقدماً.

مفهوم الهوية وهوية الهوية

عندما يطلق مفهوم الهوية يراد به منظومة الخصائص والصفات الشخصية التي تصوغ سلوك وأفكار ومشاعر الأفراد والمجتمعات، بل ومواقفها من الحياة والصراع السياسي وقدرتها وفعاليتها على مواجهة المخاطر وإيجاد الحلول لمشكلاتك الاجتماعية.

قد يكون هذا التعريف مبتكراً لكن الهوية تستحق أن تكون أيضاً أنت معها مبتكراً، فالهوية هي ما يميزك عن غيرك، وبالتالي فإنها تستند إلى فهمك لذاتك ونظرتك لها وثقتك بنفسك، أي أنها تنبع من ثقافتك وتمسكك بعقيدة راسخة وقيم ثابته، مرتبطة بهوية جامعة للمجتمع الذي تنتمي إليه.

وبهذا المعنى تصبح الهوية لأي أمة هي منظومة القيم والأفكار والسلوكيات والمواقف الاجتماعية والثابتة الفكرية والمعرفية التي تحدد تصرفاتها الجمعية، وقدرتها على النهوض الحضاري أو الصمود في وجه العواصف السياسية الداخلية والخارجية.

وإذا كان معلوماً في علم الاجتماع أو علم النفس السياسي أن القدرة على تكيف فرد أو مجتمع مع الواقع مرتبط بكم القيم الأخلاقية والاجتماعية التي تتميز بها هذه الأمة أو ذاك الفرد، فإن إبعاد أمة أو فرد عن قيمه الأخلاقية والاجتماعية هو بحد ذاته يصبح تحدياً كبيراً، بل خطراً حاداً فما بالك بحرفها وإبدال هذه القيم وتلك الهوية.  

فالهوية ضمن هذا الإطار هي النواة الحية التي تنتج منها قرارات الأمة، وعزمها على الصمود في مواجهة المحن، عندما يحاول المحتل الغازي تدميرها واحتلال أرضها من خلال تحفيز روح المقاومة والصمود والتحدي في هذه الأمة، ولهذه الهوية أيضا دور مهم في تحفيز روح التمسك بقيمها السامية أثناء تعرضها للغزو الفكري والثقافي ومحاولة مسح خصائصها الفكرية.

قضية الهوية ليست قضية ثقافية أو ترف فكري، بل هي قضية وجود، حياة أو موت أمام الأزمات والمخاطر، أي إما أن تستطيع الاستمرار والحياة بشكل كريم وعدم التراجع والانسحاق أمام ضغوط القوى المستكبرة التي تسعى إلى إلغاء وجودها وإنهاء دورها، أو الذوبان ضمن ثقافة الآخر المستكبر والغياب للأبد ولقد حدث هذا لمجتمعات كثيرة ضعيفة.

علوم النفس جميعها الآن تؤكد أن من لا ينتمي للقضايا الشخصية والاجتماعية لا يمكنه الوصول إلى أي هدف

وبهذا المعنى تكون الهويات الصلبة القادرة على الصمود للمجتمعات الحية، هي نتيجة مسار تاريخي وصيرورة حضارية تم خلالها تأصيل عميق لقضايا الأمة الأساسية، اندمج فيه الصواب في البناء العقائدي بالإيمان العميق بالاعتزاز الانيق بروح من الانتماء الذي لا يمكن التنازل عنه او التراجع عن روحه ولا يخفى على عاقل أن علوم النفس جميعها الآن تؤكد أن من لا ينتمي للقضايا الشخصية والاجتماعية لا يمكنه الوصول إلى أي هدف.

ولا ينطبق هذا المعيار كما ينطبق على الهوية الإسلامية التي أطلقت قدرات شعوب وقبائل الجزيرة العربية للتحول إلى أمة قوية، هذه الهوية تقوم على أبعاد متماسكة، في البعد المعرفي والفكري والمنهجي والعلمي، تقوم على منهج إلهي، وفي البعد الواقعي – المنهج الالهي نفسه -وضع خطوات وأنشطة وأساليب نفسية واجتماعية فعالة لبناء العزة والانتماء للإنسان والمجتمع، متمثلة بشعائر الدين الإسلامي وعباداته وأسلوب حياة المسلمين ونظامهم الاجتماعي المحكم.

لذلك يبدوا أن تمسكك بهويتك الإسلامية هي مؤشر وعيك الحقيقي بنفسك ودورك في الحياة، حيث الشعائر تمنحك إحساساً عميقًا بالتميز النوعي والتفرد على قمة القيم الإنسانية، كما تمنحك طاقة هائلة للثبات على الحق والاستقلال الفكري والحضاري، وتمسكك بالمنهج الفكري الإسلامي فهو بمعناه الواقعي استنادك على رؤية فكرية شاملة متماسكة تمنحك قدرة على تحمل الضغوط والصدمات أمام القوى الكبرى والمستكبرة وأنت تشعر بهذا بكل يقين.

هذه الخصائص والمميزات للهوية الإسلامية تحتاج من المجتمع والفرد والأسرة دوراً فاعلاً للحفاظ عليها وتعميقها وترسيخها وإيصالها لأطفالها ولشبابها، عبر العملية التربوية والتعليمية للمدرسة، والمنزل والمؤسسات الدينية والثقافية.

لكن لماذا قد يبدو أن هذا المطلب شديد الأهمية شديد الإلحاح؟ لأن القوى الكبرى قد أفرزت مشروع سمته العولمة، فما هي العولمة؟ ولماذا نواجهها؟

في مواجهة العولمة

العولمة مفهوم ظهر في أواخر القرن الماضي على أساس أنه نتيجة طبيعية لتطور وسائل التواصل والأتصال وأنه يأخذ بعداً اقتصادياً إلا أن الحقيقة هذا الإدعاء غير صحيح فالعولمة لم تكن نتيجة تطور وسائل التواصل والاتصال بل نتيجة محاولة الغرب والولايات المتحدة الأمريكية بشكل أساسي السيطرة على العالم والهيمنة على مقدراته، بل إغراق العالم بالنماذج الثقافية الأمريكية من أفكار وسلوك ومواد إعلامية وممارسات سياسية وطرق حياة وأشكال لباس ونظريات اجتماعية وفلسفية تقوم على الليبرالية والرأسمالية والبراغماتية المتطرفة وفقاً للنموذج الأمريكي الذي تسبب بكل المعاناة النفسية للإنسانية من خلال خلق نماذج تطيل من أمد آلام الانسان ولا تساعده على التخلص منها،  بل تزيد من جموحه نحو الاستهلاك ونحو الاكتئاب ونحو القلق و السعي الوسواسي للثراء المالي المخل، والسعي الوسواسي للسيطرة على الاخرين، والنزوع نحو المظاهر البراقة المفرغة من المضامين الأخلاقية والقيمية التي تنسجم مع إنسانية الإنسان.

لذلك فان العولمة بهذا المعنى هي رؤية سيئة للحياة خاصة بالنموذج الغربي، هي سلوك ونمط عيش كرس خيال عاجز لدى الإنسان الذي يعيش في المجتمعات الضعيفة، أمام نموذج الحلم الأمريكي الذي صنعه الإعلام والأفلام على كتلة هائلة من الأوهام، لم تفرز للإنسان إلا سراباً لا يكتشفه إلا بعد المسير الطويل، في هذا الاتجاه الخطر على عافية الإنسان النفسية والجسدية، من طرق عيش ومأكل وملبس وممارسات يومية ونظام لا يعكس فطرة الإنسان واحتياجاته.

لكل هذا العولمة ليست خطراً على اقتصاد المجتمعات ورفاهيتها فقط، بل على أمنها النفسي والاجتماعي.

استخلاصات

أيها القارئ الكريم يلح علي واجب ان أتفق معك على مايلي:

أن تغيير معتقدات الناس وهوياتهم الأخلاقية والدينية لا يمر دون ثمن عليهم، خاصة إذا كانت هناك قوى تدفع لهذا التغيير نحو الأسواء، وقد ينتج عن هذا التغيير الكثير من الآلام، ولذلك فإن معظم آلامك نتيجة طبيعية لجهود قوى كبرى ومستكبرة، فلا تتساهل في الحرص على التمسك الحكيم بهويتك الإسلامية.

يا صديقي إن كثير من معاناتك ومعاناة أسرتك وأبناءك ومجتمعك النفسية والاجتماعية هي نتيجة للعولمة التي قد تكون بدأت تشعر بخطرها، ويجب أن نتفق أن أحد عوامل أمنك النفسي والاجتماعي هو حفاظك على هويتك النفسية والاجتماعية بروحها الإسلامية.

ويمكنني أن ألفت انتباهك أن ما يجري الآن في غزة في أحد أبعاده وأوجهه هو حالة صمود هوية مجتمع أمام محاولة سحق هذه الهوية، أياً كان موقفك السياسي مما يجري.

وإذا كنا نريد أن نفكر في الحلول، فيمكن الإشارة لمحورين أساسيين: الأول المحور العلمي الذي تقوم به دراسات علمية دقيقة في علم النفس والتربية والاجتماع والسياسة والإعلام، لتحدد مزيد من الخطوات والخطط، ومحور المجتمع الأفراد الذي يتمثل بواجب التمسك بهذه الهوية.

د. مكارم بديع الفتحي

باحث في علم النفس السياسي دكتوراة في العلاقات الدولية في جامعة كاربوك في تركيا ماجستير بعنوان الاستراتيجية الأمريكية تجاه الإسلام السياسي في المنطقة العربية وأفغانستان من جامعة كاربوك في تركيا معني بتوظيف علم النفس السياسي في تحليل وفهم السلوك السياسي في المنطقة العربية. عمل مدير لبرنامج الصحة النفسية والحماية الإنسانية ومدير تنفيذي في المنظمات الإنسانية. لديه العديد من التدريبات حول صناعة الخطاب السياسي وبناء فرق حل النزاعات لديه العديد من المشاركات في الفضائيات العربية في قضايا نفسية وسياسية.

د. مكارم بديع الفتحي

باحث في علم النفس السياسي دكتوراة في العلاقات الدولية في جامعة كاربوك في تركيا ماجستير… المزيد »

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى