أفكار الكبارالمقالات

الأسرة الممتدة والأسرة النووية الحديثة

لعلّ الكتاب ذائع الصيت (رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمار) للمفكر المصري د. عبد الوهاب المسيري يعتبر محطة أساسية للكثير من المثقفين والمفكرين ممن أدركوا أهمية الوقوف على دراسة مراحل التكوين والتطور والتحولات الفكرية لأحد أعمدة الفكر في التاريخ المعاصر، فهذه المحطة من شأنها أن تلقي بظلالها على رحلتهم الفكرية نحو إنتاج ثمارهم الخاصة.

ويعتبرها المسيري أنها رحلة فكرية لمثقف عربي مصري، وليست قصة حياته الخاصة، إنها ترصد تحولاته الفكرية في الفكر والمنهج. وهي سيرة غير ذاتية غير موضوعية، لا تلقي الضوء على جوانب حياته الخاصة، بل هي سيرة إنسان يلتقي في فضاء حياته الخاص بالعام. وهي سيرة ننهل منها الكثير من المصطلحات التي نستطيع اليوم أن نقف عندها مطولًا، كما نقف اليوم في هذا المقال عند مصطلح الأسرة الممتدة والأسرة النووية، فالأسرة الممتدة التي أسهب في شرحها وربطها بالمجتمع التقليدي والتي عاش المسيري في كنفها تعطينا حنينًا ودفئًا للماضي الواسع الغزير الذي حظي بفترة التكوين، على نقيض الأسرة النووية التي تكاد تشبه ورقة خريف باهتة سقطت وحيدة عن شجرتها للتو.

ونجد أن الأسرة التي تكون فيها المسيري ممتدة زمانيًا ومكانيًا، ممتدة كدوائر ذات مركز واحد آخذة بالاتساع، وممتدة شاقوليًا عبر مراحل التكوين، منذ الولادة والنشأة في دمنهور عاصمة البحيرة التي تعبق بالتاريخ، والبحث عن الأصل، فيخبرنا أنه بحث عن أصل عائلته، الشرفاء من أهل النبي. وهذا ليس شغفًا بالبحث عن الجذور وإنما هو شغف بالتاريخ الذي يحتفظ بذاكرته بامتداد منا نجده ولا بدّ حينما نجدُّ في البحث عنه، نجد هويتنا الممتدة كجذور شجرة ضاربة في عمق التاريخ، ونجد الحركية والحيوية مع كل حركة نمو، لذلك فقد احتفظ المسيري بشجرة عائلته على الدوام. «لا ينظر الإنسان إلى واقعه بشكل مباشر ولا يستجيب له بجهازه العصبي ولا يرى اللحظة الراهنة بحسبانها البداية والنهاية، وإنما بحسبانها نقطة التقاء الماضي بالمستقبل»1

فالفرد هنا ليس ابن عائلته الصغيرة فحسب، وإنما هو منتمٍ لمجتمعه المحيط يتأثر به ثم يؤثر فيه ضمن حركية تفاعلية لا تنقطع، تنجم عنها جملة الأعراف والعادات والأخلاق التي يقرها الجميع ويعيشون في ظلالها.

الأسرة الممتدة

يخبرنا المسيري أن الإطار الذي تحركت فيه طفولته هو الأسرة الممتدة، ففي الجيرة التي نشأ فيها كان كل الأطفال معروفين للجميع. ولذا كان الوقت الذي يقضيه في الشارع ليس مجرد صياعة، وإنما وقت تنشئة اجتماعية، على عكس الشارع هذه الأيام. كما كان الصبية الكبار يراقبون الصغار وكأنهم أولياء أمورهم ما كان يخفف العبء كثيرًا عن الوالدين.

فالفرد هنا ليس ابن عائلته الصغيرة فحسب، وإنما هو منتمٍ لمجتمعه المحيط يتأثر به ثم يؤثر فيه ضمن حركية تفاعلية لا تنقطع، تنجم عنها جملة الأعراف والعادات والأخلاق التي يقرها الجميع ويعيشون في ظلالها.

«ودمنهور كانت تعيش داخل إطار صارم من القيم والشعائر الدينية والعرفية التي تضبط حركة كل شيء. من يقبل يد من؟ من يفسح الطريق لمن؟ ما واجبات كبار العائلات؟ وما حقوقها؟ ما واجبات الأهالي وحقوقهم؟»

«كان المجتمع في دمنهور يحدد كثيرًا من حركات المرء وسكناته، ففي أمر نتصور أنه خاص وفردي جدًا مثل الملبس، كان المجتمع- وليس مصمم الأزياء في فرنسا- يقرر للأفراد، وخاصة النساء، ماذا يلبسون»

«كان المجتمع يحدد كيف تقام الأفراح والجنازات»

ونستطيع أن نلخص أبرز سمات الأسرة الممتدة في المجتمع التقليدي التي ذكرها المسيري في كتابه موضوع المقال في النقاط التالية:

  1.  في الأسرة الممتدة لا تكون شخصية الأب هي الطاغية، بل هناك نماذج أخرى يمكن أن يحتذى بها بدءًا من العم والخال إلى باقي الأقرباء والجيران. فتقع مسؤولية التربية والتنشئة الاجتماعية على الجميع، وليس على الوالدين فحسب، فالفرد في هذه المجتمعات التقليدية منتمي لأسرة كبيرة جدًا، ترعاه وتصونه، تضبط حركاته وسكناته، إنّ الفرد في هذه الأسرة يجد على الدوام حائطًا يسند إليه ظهره.
  2. يتسم المجتمع التقليدي بالتسامح، فهو مجتمع تتم فيه عملية الضبط الاجتماعي بشكل مباشر، كل شخص يعرف مكانه وتتم مراقبته بشكل مباشر من خلال أبويه وأقربائه والجيرة.
  3. والمجتمعات التقليدية لا تمانع في أن تترك حيزًا لا بأس به للأفراد ليمارسوا فيه أشكالًا من التفرد.
  4. ينمو الفرد في الأسرة الممتدة والمجتمع التقليدي نموًا سريعًا، إذ إنه ينهل النضج من كل مكان، ومن كل منبع متوفر في محيطه.

يعترف المسيري بانتمائه لجيل كان ينضج سياسيًا بسرعة حيث تكونت مواقفه السياسية منذ نعومة أظفاره وهذا ما يحتمه الواقع المحيط وحركة التاريخ وعوامل النهضة المتفاعلة في تلك اللحظة.

فالإنسان ابن بيئته يؤثر ويتأثر بها، هو فرد ضمن المجموعة التي لها ضوابطها ومحركاتها، وهذا ما شهدناه زمن ثورات الربيع العربي من نضوج الشباب سياسيًا نضوجًا سريعًا وانخراطهم في العمل الشبابي والمجتمعي والسياسي، وتبؤهم المسؤولية التاريخية وتفاعلهم مع الأحداث الكبرى وتأثيرهم فيها تأثيرًا فاعلًا راسخًا لا يمكن تجاهه.

الأسرة النووية

تفرض الحياة الوظيفية في المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي نفسها مثل سوق العمل في النموذج العلماني المتغول، فتتكون مجتمعات تجمعها روابط العمل، وليست لها جذور، وتتشكل تجمعات سكنية مؤلفة من أسر نووية شتى غير مترابطة فيما بينها سوى بالانتماء إلى نفس المشروع الإسكاني. والفردانية المتغطرسة تمنع أدبيًا أن يتدخل الجار في شأن جاره، وحتى إفشاء السلام لم يعد خلقًا ممدوحًا هناك. لذلك فإن الأسرة النووية الصغيرة مفصولة عن جذرها الزماني والمكاني وهي أسرة في مهب الريح، فإن لم تعصف بها اليوم ستعصف بها غدًا أو بعد غد، وإن لم يشعر الأبوان بالأخطار المحيطة فإن الجيل الثاني سوف يغرق فيها حتى أذنيه، ولسوف يتعايش ويتأقلم معها حتى يغيب عن إدراكه أنها أخطار جسيمة تبتلعه.

«من مظاهر الصراع بين الحداثة والتقاليد ظهور الأسرة النووية مع استمرار الأسرة الممتدة، كانت الأسر النووية قد بدأت تطل برأسها في دمنهور، فكان هناك الموظفون، وكان لكل موظف أسرة مكونة من زوجين وطفل، ولا تعرف شيئًا عن أصولهم»

ونسوق هنا جملة من سمات الأسرة النووية التي ذكرها المسيري:

  • في الأسرة النووية تكون شخصية الأب هي الطاغية، وتختفي فيها البدائل الأخرى.
  • الفرد في الأسرة النووية قلق، تائه، يجد نفسه في مهب الريح، أما في الاسرة الممتدة فيجد نفسه شجرة راسخة لها جذور ضاربة في الأعماق يصعب اقتلاعها.
  •  تدرك الأسرة النووية مدى هشاشتها، كما تدرك أنها تعيش على فتات التعاقدية المادية الصلفة التي لا بدّ أن ينفد يومًا ما، فترجح عدم الإنجاب حتى لا يكون الطفل هو ضحية هذا التعاقد. فيكون البديل هو أحد الحيوانات الأليفة. وقد امتلك حقوقًا تفوق حقوق البشر.
  • الأسرة النووية الحديثة تحتضن الإنسان الحديث الذي يبدو يومه مبددًا تمامًا، ويجرد من أي إيقاع إنساني. والإيقاع الموجود هو إيقاع مادي سريع يهدد الحياة الأسرية ذاتها. فلا علاقات اجتماعية ولا تواد ولا تراحم، وإنما تسابق شرس للإنتاج المادي والاستهلاك يستحوذ على ساعات اليوم.

«حركة الرجل في العصر الحديث قد زادت بشكل غير إنساني، مما يعني بعده أو غيابه عن المنزل، فيقع عبء تنشئة الأطفال على كاهل الأم وحدها إلى جانب أعبائها الأخرى».

لكن ما نعرفه الآن أنّ حركة المرأة أيضًا زادت بشكل غير إنساني، وصارت تغيب كالرجل عن المنزل، ضمن إيقاع الحياة العلمانية التي تدفع بجميع الأفراد إلى العمل والاستهلاك، وربط مفهوم الوجود والنجاح بالقدرة على الإنتاج والكسب، فعلى من سيقع عبء تنشئة الطفل؟ لقد عولجت مثل هذه القضايا سابقًا، ووفرت العلمانية دور الحضانة ورياض الأطفال، والمربيات العاملات اللاتي يأتين إلى البيوت لرعاية أطفال الآخرين. كما يميل الزوجان إلى تأخير الإنجاب، وفي أحيان كثيرة إلى استبعاد هذه الفكرة، أو الاكتفاء بمولود واحد في أحسن الحالات.

وإذا كانت المجتمعات التقليدية تحافظ على دور الأسرة الممتدة فإن المجتمعات الحديثة ترسخ فكرة الأسرة النووية والفردانية والاستقلالية بأقسى مظاهرها.

«لم يعد هناك في الغرب مجرد فجوة أو صراع بين الأجيال، وإنما تطاحن وحشي، وفردية مطلقة لدرجة أن الشاب الذي يصل إلى سن 16 عامًا عليه أن يجد منزلًا مستقلًا لنفسه، إذْ إنّ عائلته ترفض الاستمرار في الإنفاق عليه. وعلى الإنسان الذي يصل سنّ الستين أن يجد ملجأ للعجزة لأن أبناءه لن يسألوا عنه إلا مرةً واحدة كل سنة، عادةً في الكريسماس»

إذ لا وجود لمعنى الأسرة الممتدة في تلك المجتمعات، بل هو تعاقد في أسر نووية آخذة بالتقوقع على نفسها، وآخذة بالتقلص إلى درجة صارت فيها تتكون من شخص مع حيوانه الأليف، أو من فرد واحد، وضمن هذا التقوقع والتعاقدية لم يعد أي إنسان قادرًا على التدخل في شؤون الآخرين، أقرباءً وجيراناً وزملاء.

«أن تزجر طفلًا في العاشرة يدخن سيجارة من باب الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية يستحيل أن يحدث في المجتمعات الغربية الحديثة وفي كثير من المجتمعات العربية الحديثة، خاصة في المدن الكبرى. فهي مجتمعات مكونة من أفراد، يعرف كل منهم حدود مسؤوليته ولا يمكنه تجاوزها، فالدولة قد ملأت الحياة العامة، وجزءًا من الحياة الخاصة»

وتغيب في الأسرة النووية المعاني التي كانت راسخة عبر التاريخ من تعاون وتراحم وتواد ليتحول كل فردٍ إلى ذئب محاط بالذئاب، وهو معنى يترسخ يومًا بعد يومًا في مخيال الأفراد في الأسر النووية والتجمعات التي تحوي هذه الأسر. فالفرد هنا لا يتوقع لمسة حنان من أحد، لا يتوقع مساعدة مجردة بدافع إنساني محض، بل هو حذر من تصرفات الآخرين المشبوهة على الدوام.

لقد كانت صرخة تلك العجوز انعطافًا حادًا في خلقه، لقد بدأ بالتناغم والتكيف مع المجتمع المفكك وتعلم الخلق المجتمعي الذي يقضي بألا يتدخل أحدٌ في شأن أحد

ذكر لي صديق أنه حاول مساعدة سيدة عجوز تنوء تحت حمل أكياس ثقيلة في طريقها إلى بيتها، وما أن وقف عندها ليعينها على حمل الأكياس حتى صرخت بأعلى صوتها كأن ذئبًا هاجمها، ولما حاول تهدئتها وشرح أنه فقط يريد مساعدتها صرخت أكثر وهي تسأله عن نواياه الشريرة، فما كان منه إلا فرّ وصرخاتها تلاحقه، قال لي إنه غيّر طريقه وغاب في حديقة وشوارع ضيقة نجّته من شر المرأة العجوز.

وأخبرني أنه لم يعد يفكر في مساعدة أحد، وكلما وجد امرأة عجوز تتسكع في الشارع تذكر صاحبته، وكلما التقى بكهل يتكئ على عكازه نأى بنفسه بعيدًا، لقد كانت صرخة تلك العجوز انعطافًا حادًا في خلقه، لقد بدأ بالتناغم والتكيف مع المجتمع المفكك وتعلم الخلق المجتمعي الذي يقضي بألا يتدخل أحدٌ في شأن أحد.

والأسوأ من ذلك ما رواه صديقٌ آخر عن الخطر المحدق بالأسرة النووية، فجميعنا يدرك معنى الجدّة في طفولتنا، ومدى تعلقنا بحكاياتها التي نتدفأ بها في ليالي الشتاء الباردة ونحلق بأجنحتها عاليًا. ونلجأ إلى الجدة وحنانها حين نفر من تقريع الأب أو الأم. هل يمكن أن تتحول الجدة إلى مصدر إزعاج؟ وللطفل تحديدًا؟

روى لي ذلك الصديق أنّ جدةً وجدت نفسها يومًا وحدها مع حفيدها في البيت في المجتمع الغريب، وحين بدرت من الطفل تصرفات غير مألوفة ومزعجة وهو يخاطب أصدقاءه الافتراضيين في لعبة عبر الشابكة، بادرت الجدة إلى تقريعه، وربما علا صوتها، فما كان من الطفل إلا أن استدعى (البوليس). ولدى حضورهم جرى استدعاء الأب، الذي وجد نفسه في موقف محرج أمام والدته المتهمة، فتدخل وبرر الموقف بسوء تفاهم حصل ما بين الطفل والجدة التي لا تتقن اللغة الأجنبية.

لقد قرر ذلك الأب منذ تلك اللحظة العودة إلى وطنه، وما إن حطت بهم الطائرة على أرض الوطن حتى نال ذلك الطفل نصيبه.

وإذا كانت الأسر النووية تتكاثر في المدن الكبرى فإن الأسر الممتدة تتقلص في الأرياف، حيث بدأت العولمة عبر وسائل الإعلام المختلفة الممكّنة بشبكات تواصل فعالة ببتر أذرع هذه الأسر وتفريغها من مضمونها ومعانيها، ليجد الفرد نفسه ضمن هذه الأسرة الممتدة المحيطة به-والتي لم يعد لها ذلك التأثير- وحيدًا وقد امتلك مساحة واسعة من الحرية وتخلص من الضوابط الاجتماعية التي كانت تحكمه.

وفي المدن الكبرى التي قد تجد في بعض زواياها أسرًا حافظت على امتدادها تأتي مشاريع الإسكان لتقضي عليها بذريعة التحول الحضري وتحسين المدن وإعادة تأهيل العمران، لتساهم بشكل فاعل في تشكيل الأسر النووية.

وإننا والحال هذه نحتاج لمشاريع إعادة تأهيل الإنسان وربطه بجذوره وقيمه، وإضفاء معاني الأنس والود والتراحم على حياته، وإنقاذه من حياة الآلة التي يعيشها ويتحول إليها، ففي الأرياف والبلدات والمدن الصغيرة نستطيع إنقاذ ما تبقى من أسرنا الممتدة، ونحافظ على استمراريتها بحمايتها من تغول العولمة وسلطة الشابكة.

وفي المدن الكبرى، حيث التشرذم وكل فرد مسؤول عن ذاته، يمكن للفرد البحث عن حاضنة اجتماعية تأخذ دور الأسرة الممتدة، ويمكن أن يساهم مع الآخرين في تشكيلها، كما يستطيع الاستفادة من وسائل التواصل لإعادة بناء العلاقة مع أسرته الممتدة والمشتتة وتوطيدها وترسيخها حتى ولو كانت عن بعد.

 إن إدراك خطورة انقراض الأسرة الممتدة على حساب انتشار الأسر النووية يجعلنا يحتم علينا ربط أنفسنا وأبنائنا بالجذور، وبناء دوائر اجتماعية تحوطنا، وتعزيز الانتماء للهوية، فإنما ينال الذئب من الغنم الشاردة.

وتعزيز المفهوم الإنساني داخلنا، هو ما يحمينا من الموت ونحن على قيد الحياة، وربما هو أضعف الإيمان.

  1. ما بين مزدوجين مقتبس من كلام الدكتور عبد الوهاب المسيري. ↩︎
أ. عماد كوسا

كاتب روائي وقصصي وناشط في مجال العمل الشبابي والمجتمعي.

أ. عماد كوسا

كاتب روائي وقصصي وناشط في مجال العمل الشبابي والمجتمعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى