المقالات

غاية التضحية

لكل فعل يقوم به الانسان غاية وهدف ودافع لأجله قام بهذا الفعل، ويفسر بعض علماء النفس والاجتماع في الحضارة الغربية أفعال الإنسان بناءً على طبيعته البشرية الصرفة متجاهلين بذلك الجوانب الروحية وحاجاتها، لذلك يعيش الإنسان في النموذج الغربي في خواء وفراغ روحي، وهذا النموذج بدأ يتمدد في عالمنا الإسلامي في ظل العولمة والتقنيات والتكنولوجيا، وظهرت نظرية الدافع البشري لعالم النفس الأمريكي الملحد أبراهام ماسلو في منتصف القرن العشرين لتمثل باكورة الفهم النفسي للإنسان في العصر الحديث، ولازال الكثير من الباحثين يعتمد عليها في وصف الدوافع البشرية التي تؤدي بهم إلى هذا الفعل أو ذاك، وأهم ملاحظة على هذه النظرية أنها فسرت كل دوافع الإنسان بناء على حاجات نفسية وجسدية بطريقة مادية صرفة، وحتى تلبية هذه الحاجات لا يتم إلا عن طريق فعل مادي بحت، ومع ذلك يعتبر ما يقوم به علماء النفس والاجتماع في الغرب من بحث علمي مجرد مبني على التجربة والملاحظة في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية عمل محترم ومقدر، ولكن يظل فيه قصور كبير إذ أنه يتغاضى عن النصف الآخر من فهم حقيقة الإنسان التي لا تدرك إلا بالربط بين جانبين مهمين في بناء الإنسان وهما الجانب الروحي والجانب الجسدي، وتفسير دوافع الإنسان انطلاقًا من حاجاته الروحية وحاجاته الجسدية معاً، وتلبية حاجات الإنسان عن طريق أفعال روحية ومادية.

ولا غرابة في أن يكون هذا أقصى ما وصلت وسيصل إليه الغرب لأن ذلك يعود لأصل المعتقد والأيديولوجيا التي تفسر نظرتهم للحياة، فمادامت النظرة الإلحادية سائدة في فهم الحياة فإن النتائج لن تتعدى الجسد وحاجاته المادية وتلبيتها بأفعال مادية.

أما عند المسلم فإن نظرته للدوافع مختلفة، وذلك لأن نظرته للحياة مختلفة، فهي مستمدة من عقيدة واضحة وصريحة، ودين رسم له معالم الحياة وبين حدود علاقته بها، وحدود علاقته بمن حوله فيها، وعلاقته بنفسه وفهم عوالمها ومكنوناتها، لذلك نجد أن الجانب الروحي في الإسلام هو الأساس لأن الروح باقية والجسد إلى فناء، ففي الحديث المتعلق بحاجة من أهم حاجات الإنسان اليومية يوضح فيه الرسول صلى الله عليه وسلم القدر الذي تلبى به هذه الحاجة “بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه”، وعند مقارنتها بالنظرة الغربية الرأسمالية فإن تلبية هذه الحاجة تدور حول الإشباع واللذة كما في نظرية سلوك المستهلك والتي تدور حول أقصى اشباع يمكن للفرد أن يحققه ضمن حدود دخله، في حين أن الاستهلاك في الإسلام يدور حول سد الحاجة فقط مهما كان دخل الإنسان وإمكانيته المادية كبيرة، كما في الحديث: “أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ، فقال: ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أفي الوضوء سرف قال: نعم، وإن كنت على نهر جار”، فتعامل الإسلام مع الجسد تعامل حفاظ على بقاءه وسلامته من الأضرار كأمانة مستردة، لكي يؤدي أدوار الروح التي يجب أن يغذيها ويرويها برواء الإيمان والتقوى.

يلاحظ إن الجانب الروحي لدى الإنسان يعطي حياة الإنسان المعنى الحقيقي لوجوده والمرتبط بحاجات نفسه الروحية والمتمثلة بالأمان الروحي والنفسي

ويلاحظ إن الجانب الروحي لدى الإنسان يعطي حياة الإنسان المعنى الحقيقي لوجوده والمرتبط بحاجات نفسه الروحية والمتمثلة بالأمان الروحي والنفسي، فترى من استكمل هذه الحاجات المتعلقة بالروح قد يفقد بعض الحاجات المتعلقة بالجسد، كالأمان الجسدي المادي من حوله ولكنه في أمان وسلام داخلي نسميه “الإيمان”، وقد يتعرض لمصائب الحياة المتعددة من الخوف والجوع والمرض ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ولكنه مع ذلك يعيش حالة من الرضا والتسليم، وهذه الحالة ليست سوى نتيجة لإشباع الجانب الروحي لدى هذا الإنسان، وكلما كان هذا الأمان مرتبط بعقيدة غيبية راسخة وواضحة في معالمها كلما كانت هذه الحاجة متشبعة أكثر، وكان الإنسان أكثر استقراراً وهدوءً في مواجهة المواقف المختلفة التي تمر عليه في حياته، وهذا ما يدفع الناس في هذا الزمن الذي تطغى عليه المادية الصرفة في البحث عن برامج روحية كالتأمل واليوغا وغيرها، وهذا ما يجعل الإسلام أكثر انتشاراً في الغرب كونه نظام حياة شامل وُجِدَ لإسعاد الإنسان في حياته، ليرسم له الطريق نحو فهم الحياة بصورة صحيحة وواضحة، وللانتقال بطريقة سلسلة لحياة الخلود في الآخرة.

لماذا نتحدث عن دوافع الإنسان؟

يقع الكثير من الناس سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين في تساؤلات مهمة حول غايات التضحيات التي يقوم بها الناس في سبيل غايات غير مفهومة وغير مستحقة من خلال النظرة المادية، فيبدأ الإنسان بقياس الخسائر والأرباح من خلال النظرة المادية الصرفة، ولو كانت الحياة الدنيا هي البداية وفيها النهاية كما في النظرة المادية الإلحادية لكان هذا التصور مفهوم ومقبول، كما كان يفكر منكري البعث الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن في مواطن كثيرة حين كانوا يصدون عن الإسلام كانت حجتهم هي الرغبة في الاستمتاع بهذه الحياة بشكل أكبر: (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ). وهذه النظرة هي نفسها التي كان يفكر بها ملحدو الجاهلية حين كانوا ينصحون اخوانهم من نفس ملتهم بعدم الدخول في معارك وغزوات خشية عليهم من الموت، لذلك حذر الله المسلمين من هذه النظرة لأنها تؤدي إلى الركون للدنيا وتنسي الإنسان وعد الآخرة وتنسيه غاية وجوده: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

ولكن لأن النظرة للحياة لدى المسلم مستمدة من نظرته الكلية للحياة ومن غايته وهدفه فيها، فإن الإسلام جعل للإنسان محددات تحدد له دوافع فعله وعمله وتضحياته، وهذه المحددات استنبطها العلماء من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي تتمثل في الضروريات الخمس والحاجيات والتحسينات، فالضروريات الخمس متمثلة في حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال تمثل أهم الدوافع لفعل الإنسان المسلم، حيث جعل الإسلام من يضحي لأجل هذه الضروريات بنفسه في أعلى المراتب في الآخرة، فهو لا يتساوى مع غيره من المسلمين في المنزلة، وهذه المنزلة هي منزلة الأنبياء والصديقين والشهداء التي ذكرها الله في مواطن عدة في القرآن الكريم، وهي الجائزة لمن بذل وضحى لأجل هذه الغايات الكبرى في الحياة، وذلك لأن كل حاجات الانسان الروحية والجسدية تأتي ضمن هذه المحددات والدوافع.

من خلال هذا الفهم المستقيم يمكن للمسلم أن يقيس المواقف بمنظور الربح والخسارة الإيماني، فحين يستشهد المئات والآلاف وحين يخسر الإنسان مكتسباته المادية لأجل غاية عظمى، فإن ذلك لا يعتبر خسارة وإنما هو ربح مطلق ينعكس على حياة الناس في الدنيا من تمكين وحفظ للدين والأنفس والعقول والأعراض والأموال، وينعكس عليه في الآخرة عبر مروره من اختبار الحياة بصورة مثالية إلى أعلى ما يتمناه الإنسان في الآخرة.

وتمثل الغاية الكبرى لسنة التدافع في الحياة كما وضحنا في المقال السابق، هي المحافظة على هذه الضروريات الخمس فضلاً عن الحاجيات والتحسينات، وتدور فلسفة (الجهاد) التضحية بالنفس والمال لأجل هذه الغايات الكبرى في أن المجاهد يبذل ويضحي بماله ونفسه (وهذه أعلى مراتب الجهاد) في سبيل حفظ دين ونفوس وعقول وأعراض وأموال باقي الناس، مقابل أن ينال أعلى الدرجات في الآخرة إن ارتقى شهيداً وهي درجة الأنبياء والصديقين والشهداء الذين ضحوا بأرواحهم وأموالهم في سبيل هذه الغايات، أو أن يحقق النصر فينال إحدى الحسنيين، في حين أن هذه الفئة المجاهدة المضحية قد حصلت على مقابل ما قامت به فإن نتائج هذه المدافعة يحصل عليها المجتمع وإن كانت النتائج جزئية، فيموت القلة ليعيش الباقي بسلام وأمان، وهذا المعنى متكرر في تشريعات الإسلام كما في القصاص -مع الفارق بينه وبين الجهاد والشهادة-، يقول تعالى: ولكم في القصاص حياة! فكيف يكون في الموت حياة؟ وجواب ذلك أن تطبيق القصاص على أفراد معدودين يشكل ردع في المجتمع من ارتكاب جرائم القتل العمد، فيكون القصاص من أفراد سبباً في حياة كثر في المجتمع. وهنا في المدافعة والجهاد، كيف تكون غاية الإسلام حفظ النفس بالدعوة لإزهاق الأنفس في سبيل الله، وجواب ذلك يكون بأن يزهق القلة أرواحهم في سبيل الله مقابل أن تعيش الأمة في مجموعها في عزة ومنعة وتمكين.

لذلك فإن النصوص من القرآن والسنة كثيرة حول هذه الأفضلية التي يحصل عليها المضحين، فقبل أن يذكر جل في علاه آيات القتال في سورة النساء قال تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فأولئك مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أولئك رَفِيقًا)، وفي سياق هذه الآيات قال تعالى: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).

وفي سياق آخر ذكر الله سبحانه وتعالى الحوار الدائم والمتكرر بين أصحاب النظرة المادية وأصحاب النظرة الإيمانية للحياة في قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ)(172).

ومن خلال هذا الفهم المستقيم يمكن للمسلم أن يقيس المواقف بمنظور الربح والخسارة الإيماني، فحين يستشهد المئات والآلاف وحين يخسر الإنسان مكتسباته المادية لأجل غاية عظمى، فإن ذلك لا يعتبر خسارة وإنما هو ربح مطلق ينعكس على حياة الناس في الدنيا من تمكين وحفظ للدين والأنفس والعقول والأعراض والأموال، وينعكس عليه في الآخرة عبر مروره من اختبار الحياة بصورة مثالية إلى أعلى ما يتمناه الإنسان في الآخرة.

وذلك لا يعني عدم الأخذ بالأسباب المادية وقراءة الواقع وإعداد القوة وبذل الاستطاعة وإنما يتم الأخذ بالأسباب المادية كاملة من خلال رؤية المسلم لطبيعة المدافعة بين الحق والباطل، لذلك لا يُسأل من يتصدى لواجب المدافعة هل كانت تضحيته مستحقة أم لا؟ ولا يحاسب الشهيد على بذل الروح والمال في سبيل الله؟ وإنما يحاسب القاعد المتخاذل عن نصرتهم إذا لم يتحقق لهم النصر، وأما المجاهد فإذا أعد العدة لمواجهة العدو وبذل الاستطاعة فهو منتصر في كل الأحوال فإما أن يفوز بالشهادة وإما أن يحقق النصر.

د. إبراهيم محمود آل حرم

دكتوراة في الاقتصاد الإسلامي من جامعة صباح الدين زعيم في مدينة اسطنبول ،ماجستير في الحديث الشريف من جامعة يالوفا في تركيا  ،حاصل على البكالوريوس في الدراسات الإسلامية من كلية الدراسات الإسلامية والعربية في دبي. ،الدكتور إبراهيم عضو مؤسس في "الرابطة الإماراتية لمقاومة التطبيع" وهو مهتم بالفكر والاقتصاد والسياسة. ،صدر له كتاب "التنمية الخليجية والفشل المتكرر" ،نشر كذلك رسالة دكتوراه بعنوان "مستقبل التنمية المستدامة في دول مجلس التعاون الخليجي في ظل الاعتماد على الاقتصاد الريعي (رؤية إقتصادية إسلامية)" ،تم نشر رسالة الماجستير للدكتور ابراهيم "علوم الحديث في مقدمات كتب الحديث حتى نهاية القرن الخامس الهجري". ،نشر الدكتور العديد من الاوراق البحثية منها: - الورقية البحثيةبحثية: التطورات السياسية في الإماراتفي تقرير مركز الخليج لدراسات التنمية لسنة ٢٠١٥م ( الخليج والآخر). - الورقة البحثية مقدمة للمؤتمر الدولي الثالث للأكاديمية الأوروبية بعنوان ( مقومات وتحديات نظام نقدي وإنساني عادل). - الورقة البحثية: أثر التبعية على التنمية المستدامة في دول الخليج، مقدمة للمؤتمر الدولي الرابع للأكاديمية الأوربية.

د. إبراهيم محمود آل حرم

دكتوراة في الاقتصاد الإسلامي من جامعة صباح الدين زعيم في مدينة اسطنبول ،ماجستير في الحديث… المزيد »

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى