خصائص الحضارة الإسلامية (5)
1- الحضارة الإسلامية ربانية المنهج والتوجه:_الجزء الثالث_أصلّ نشأة الإنسان وما الغرض من وجوده وإلى أين منتهاه؟
نستكمل معكم حديثنا عن الخصيصة الأولى من خصائص الحضارة الإسلامية وهي خصيصة المنهج والتوجه وقد تحدثنا فى الجزء الأول عن علاقة الإنسان بخالقه وعقيدة التوحيد في الإسلام، وفى الجزء الثانى تحدثنا عن علاقة الإنسان بالكون، واليوم نتحدث عن أصلّ نشأة الإنسان وما الغرض من وجوده وإلى أين منتهاه؟
هذه الأسئلة التي تاهت فيها البشرية على مر العصور وجاء الفلاسفة في مختلف الحضارات بتصورات ومعتقدات شطحت بهم الأذهان والأفهام وتشعبت بهم الطرق وزاغت بهم الأبصار وما خلصوا إلى نتيجة ولا جواب حتى خرج لنا الإمام الغزالي حجة الإسلام ليكتب عن ذلك فى كتابه القيّم [تهافت الفلاسفة]: “أما الإسلام فبين لنا في محكم التنزيل عن أصل الإنسان وأين خلق وكيف خلق ولماذا خلق؟ وإلى أين يمضي، وإلى ماذا ينتهي؟ حقائق ذكرها القرآن واضحة جلية فليس بمقدور العقل البشري الإجابة عنها فأنى له معرفة بدء الخلقة الآدمية والدار الأخروية فهي أمور غيبية يقف عندها العقل البشري عاجزًا”.
إن الحضارة المعاصرة وبما لديها من علم ومعرفة وتقدم تقني وتكنولوجي فهي عاجزة أن تأتي بمعلومة عن خلق الإنسان أو عن الدار الآخرة أو الإجابة عن هذه الأسئلة، هل للجن وجود في الأرض؟ وما هي حقيقة الملائكة؟ كل ذلك من الأمور الغيبية وكم بذلت من جهود وقدمت من دراسات لمعرفة بداية الخلقة الآدمية وانتهى كل ذلك إلى نظريات تتجاذبها مختلف الآراء كنظرية داروين.
حين قررت القدرة الإلهية خلق الإنسان أشهد اللهُ عليه ملائكته وكان هذا الحوار القرآني في الملأ الأعلى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30). ومن سياق الآية السابقة نخلص إلى أن الله أشهد ملائكته على خلق آدم وأوكل إليه عمارة الأرض واستخلافها هو وذريته: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (هود: 62).
هذا التوازن بين الجانب المادي والروحي لا بد منه لصلاح الإنسان في الدنيا والآخرة
وتتوالى على أبينا آدم من رب العزة مشاهد التكريم، ففي الآية التالية يخبرنا رب العزة بأنه خلق آدم بيديه، فياله من تشريف ورفعة لمكانة لأبينا آدم عليه السلام: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} (ص: 75)، ونال آدم عليه السلام تكريمًا آخر حين نفخ الله فيه من روحه ليكون لآدم مكونين؛ الأول مادي والآخر روحي، الأول من طين الأرض وترابها والثاني من روح الله هذا التوازن بين الجانب المادي والروحي لا بد منه لصلاح الإنسان في الدنيا والآخرة: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (الحجر: 29)، {إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی خَـٰلِقُۢ بَشَرًا مِّن طِین (71) فَإِذَا سَوَّیۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِیهِ مِن رُّوحِی فَقَعُوا۟ لَهُۥ سَـٰجِدِینَ (72)} (سورة ص).
أما التكريم الرابع ففي أمر ملائكته بالسجود له فأبى إبليس وتمنع عن السجود لما أصابه من غرور، إن سجود الملائكة لآدم كان آخر تتويج لآدم عليه السلام، ثم تنقلنا الآيات إلى مشاهد أخرى وكيف تم تأهيل آدم إلى ما قبل الهبوط إلى الأرض دورة تدريبية عملية لتبقى معانيها ومضامينها حاضرة عند أبينا آدم وأمنا حواء وذريتهم من بعدهم، نعم كان لابد من هذه الدورة ليعلم علم يقينٍ لا لبس فيه أن إبليس هو العدو- قاتله الله- وتوعد إبليس آدم وذريته أمام رب العزة لأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم، كما أدرك آدم أن الإنسان تمر عليه حالة ضعف فيسقط فى الامتحان أمام إغواء وإغراء ومكيدة الشيطان وما يصيب النفس من وهن وما يعتريها من ضعف ولا يسلم من اتباع الهوى، فإن أسرع إلى التوبة والإنابة طالبًا عفو ربه ومغفرته متضرعًا إلى الله لا منجا منه إلا إليه حينها تدركه رحمة الله ومغفرته، وإلا يسقط سقوطًا مدويًا كالذي تهوى به الريح فى مكان سحيق أعاذنا الله من ذلك: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} (الأعراف: 23).
بعد هذه الدورة التدريبية بدأت رحلة آدم وذريته وهبوطهم إلى الأرض، ومع هذا التقرير الإلهي لآدم ولكل البشرية: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} (سورة طه)، {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 31)، هبط آدم إلى الأرض وهو مزود بزاد معرفي عن طبيعة الأرض وقاطنيها من مخلوقات وأشياء كما حذره ربه من عدوه إبليس الذي هبط معه إلى الأرض وبدون شك ولا ريب أنه يحمل معه رسالة السماء بزادها الإيماني ونورها الرباني رسالة سيورثها لأبنائه من بعده، وهنا يكتمل معنا المشهد الأول حول خلق آدم عليه السلام والدورة التدريبية التي تمت له وأخيرًا هبوطه واستقراره في الأرض.