أفكار الكبارالمقالات

التاريخ الإسلامي بين الإجحاف والموضوعية

كثيرًا ما يحاول الباحثون الطعن في التاريخ الإسلامي، حيث تُستغل مغالطة التعميم المتحيز، وتنتهز أخطاء أو عيوب حصلت أو لم تحصل أساسًا من جهة بعض رجالات الدول العديدة التي حكمت المسلمين قرونًا طويلة. بغرض النيل من الإسلام ذاته. والتاريخ الإسلامي يمتد من عصر الرسالة عبر الدولة الأموية والعباسية والمماليك والدولة الفاطمية والسلجوقية والدويلات والإمارات التي قامت في ظل الدولة العباسية وحتى الدولة العثمانية. كما تشمل رقعة جغرافية شاسعة. وهذا الامتداد الزماني والمكاني يجري صهره في بوتقة واحدة ليقدم ككتلة متجانسة تحت مسمى التاريخ الإسلامي ممثلًا للإسلام كدين.

وإذا كان الطاعنون في هذا التاريخ يتكئون على مغالطات منطقية واضحة فإن المدافعون عنه يقعون في عدة مغالطات أخرى حين يحاولون إبراز جوانب مشرقة لشخصيات لامعة وتعميمها أو الاستشهاد بها في تحيزاتهم في الدفاع عن هذا التاريخ الممتد بمثالبه ومحاسنه.

ونحاول في هذا المقال تسليط الضوء على ما دعا إليه الغزالي في كتابه (تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل) بضرورة تقديم دراسة موضوعية شاملة وإعادة كتابة وفهم التاريخ الإسلامي وإنصافه، وذلك بهدف:

  1. التفريق بين الإسلام كدين وبين الدولة الاسلامية الحاكمة بأشخاصها. وطرح السؤال المنطقي: هل كانت الأمة الإسلامية راضية عن حكامها؟
  2. جبر النقص الكمي والكيفي في التاريخ الإسلامي:
    • فالتاريخ الإسلامي منقوص كمًا لأنه يسلط الضوء على حكم جماعة محددة من المسلمين تسكن ما يسمى الشرق الأوسط، بينما يشكل المسلمون خمس العالم تقريبًا. فمع العرب هناك الفرس والترك والكرد والهنود والزنوج والمسلمون في الصين واندونيسيا وماليزيا وفي شتى بقاع الأرض. والتاريخ الإسلامي إذا بدأ بالجزيرة العربية فإن دائرته تمتد مع خطوط الطول والعرض.
    • وهو منقوص كيفًا حيث تقدم الأحداث التاريخية وفق مغالطات عديدة، فهي منحازة تارة لجهة الحاكم في إضاءة سيرته وتشويه سمعة أعدائه أيًا كانوا، ويكاد يختفي نقد السلطة الحاكمة، وتطمس أي شائبة، وتظهر بعض الشخصيات التاريخية على أنها مقدسة، وتلقي باللائمة على الأعداء، ويبرأ أولو الأمر من مسؤولياتهم وأخطائهم. ما يوقع الأجيال في متاهات فكرية تودي إلى هشاشة الانتماء.
  3. الإجابة على التساؤل المطروح: هل هو تاريخ للإسلام وحركته وحملة رايته؟ أم هو تاريخ دول وامبراطوريات حكمت باسم الإسلام؟

ويرى الغزالي أنه عند دراسة التاريخ الإسلامي بموضوعية ينبغي على المؤرخ أن يلاحظ النقاط التالية:

  • وظيفة الدولة التي تقوم باسم الإسلام ليست فقط إدارة الخدمات ورفع مستوى المعيشة، وإنما تشمل حماية الإسلام من أعداء يتربصون به، وإزاحة العوائق من طريق دعوته.
  • تحديد موقف كل حاكم من واجبات دينه، وهل أحسن إعداد الأمة لحمل رسالتها أم لا؟
  • البحث في الأخطاء التي فشت في الأمة وأذهبت ريحها، وكيف جرى التعامل مع هذه الأخطاء.

ولما كان التاريخ الإسلامي ممتدًا على قرابة أربعة عشر قرنًا فلا بدّ من تجزئته إلى حقب ومراحل تتميز بعضها عن بعض، وإن التقسيم الأولي العام لهذا التاريخ حدده حديث الرسول ﷺ: (الْخِلاَفَةُ فِي أُمّتِي ثَلاَثُونَ سَنَةً، ثُمّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ)[1]

 فهناك حقبتان متمايزتان هما حقبة الخلافة التي دامت ثلاثين سنة، وحقبة الملك التي أعقبتها.

أولًا- تشمل الحقبة الأولى:

  1. عصر الرسالة (الدولة التي أقامها النبي في المدينة)
  2. عصر الخلفاء الراشدين والتي كانت تشبه امتدادًا لحكومة النبي وعلى نفس المنهاج والرسالة. وهي امتداد لفترة الرسالة لا تشوبها شائبة، يؤكد ذلك الحديث الشريف (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة…)[1]

«والحديث فيه إيذان بما وقع من فتن وكراهية المشاركة فيها، وفيه إشعار بأن سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده شيء واحد، ولا يوجد هذا التوافق إلا في حكم الرجال الأربعة. وفيه تحذير من استحداث أشكال في الحكم وفي غيره من شؤون الدنيا ينكرها الإسلام، واعتبار ذلك ضلالة، وهو ما وقع وأصاب الدين وأهله منه شرٌ وبيل»[2]

فينبغي التعامل مع هذه الحقبة المؤسسة للإسلام كدين وليس كدولة فقط على نحو مغاير من التعامل مع الفترة التي تليها، إذ كان رجالاتها هم الصحابة الذين تخرجوا من مدرسة الرسول ﷺ وكانت وظيفة الدولة نشر الإسلام في المقام الأول، وإزاحة العوائق من طريق دعوته. وموقف كل خليفة في إعداد الأمة لحمل رسالتها لا يخفى. كما إن اختيار الخليفة جرى على منهج إسلامي ضمن إطار المصلحة العليا للإسلام، فكانت صفات الحاكم في فترة الخلفاء الراشدين لا تخرج عن المحددات التالية:

  • هو خليفة رسول الله في نشر الإسلام.
  • يُختار من صميم الأمة ترشحه كفايته.
  • الحاكم رجلٌ عابد إمام، وأهل للإمامة، فقيه بالإسلام وخبير بروحه وقوانينه.
  • الحاكم خبير في شؤون إدارة الدولة.
  • كان جمهور المسلمين يعرف أنه مصدر السلطة، والحان كم أجير عندها.

وبذلك تتنزه هذه الفترة عن وجود المظالم، أو الاستبداد السياسي، أو أخطاء تتنافى مع شريعة الله تعالى، وإذا ما أشير لبعض المواقف والأحداث على أنها أخطاء، فينبغي معارضها على المقاصد العليا ومصلحة الدين ليتضح فيما إذا كانت هذه المواقف أخطاءً أم تقديرات صائبة في سياقها التاريخي الموضوعي.

ثانيًا- تشمل الحقبة الثانية

الدول التي أعقبت الخلافة الراشدة حتى سقوط الدولة العثمانية. وهي حقبة واسعة زمانيًا ومكانيًا، متنوعة وفق معايير متعددة، ومن العبث صهر كل هذه الدول في بوتقة واحدة، وتقييمها على حدد السواء إيجابًا أو سلبًا. بل يصعب التقييم ضمن الدولة الواحدة التي تعاقب على حكمها أفراد ذوي شخصيات متنوعة تركت انطباعات مختلفة.

ولا بدّ من التمحيص في ميزات كل دولة من هذه الدول من حيث تمثيلها للإسلام، تمثيل الخليفة/السلطان للإسلام، وتوفر ميزات الحاكم المسلم في شخص حاكمها، ومن حيث رسالة الدولة.

هذا من ناحية الخلط بين الدول التي تعاقبت على حكم المسلمين ووضعها جميعًا في كفة مكيال واحدة.

أما من ناحية الخلط بين تاريخ هذه الدول وتصرفات حكامها ورجالاتها، وبين الإسلام والمجتمع الإسلامي المحكوم، فيستفيد منه كل من يبتغي تشويه الإسلام كدين بتوجيه أصابع الاتهام إلى معايب وأخطاء تاريخية ارتكبها أشخاص، وهؤلاء يرفضون التفريق بين السلطة الحاكمة وبين الدين الإسلامي، بل يرفضون تفريق السلطة عن المجتمع الإسلامي والحراك الديني والاجتماعي والتربوي السائد والمستقل عن سلطة الدولة.

ويجدر التمييز بين أمرين عند دراسة التاريخ الإسلامي:

  • الدولة التي تحكم المسلمين (الدولة والأشخاص)
  • المجتمع الإسلامي وقادة الفكر والأئمة والدعاة.

حين نفرق بين تصرفات الدولة، سياسات الفرد الحاكم وأعوانه، أهوائه ومطامحه، وبين الحراك الإسلامي النشط في المجتمع الحي النابض بروح الإسلام تتجلى الصورة واضحة.

فالأخذ على الإسلام والتاريخ الإسلامي بجريرة أشخاص ارتكبوا أخطاءً هو مغالطة لا ينبغي أن يقع فيها المؤرخون والباحثون. كما لا ينبغي أن يقع فيها المدافعون. فحين ندافع عن تاريخ دولة ما (أموية أو عباسية، أو سواهما) فإنما ندافع عن الجوانب المشرقة فيها، والتي ما ينكرها إلا جاحد. ونبين للناس الغث والسمين، ونميز بين أهواء الملوك وتعاليم الإسلام.

وحين ننكر على دولة ما الأخطاء التي وقعت فيها، فيجب عدم التعميم، إذ ترتبط هذه الأخطاء بأفراد دون سواهم.

ولعلّ أبرز دولتين في التاريخ الإسلامي يتمركز حولهما البحث والتمحيص هما الدولة الأموية والدولة العباسية، ولكلٍّ منها مناقصها ومناقبها، كما لكلٍّ منها صورتها الكلية الناتجة من محصلة هذه المناقص والمناقب.

يقع كثير من الباحثين في إجحاف شديد بحق الدولة الاموية وهم يريدون الطعن فيها، وإنكارها جملةً وتفصيلًا، ويتعامون عن حسناتها الواضحة التي تركت أثرًا على ديار المسلمين وغير المسلمين

  1. في الدولة الأموية

يقع كثير من الباحثين في إجحاف شديد بحق الدولة الاموية وهم يريدون الطعن فيها، وإنكارها جملةً وتفصيلًا، ويتعامون عن حسناتها الواضحة التي تركت أثرًا على ديار المسلمين وغير المسلمين، نذكر بعضًا منها:

  • الدولة الأموية فتحت الأصقاع ونشرت الإسلام وحافظت على دين الله تعالى.
  • الازدهار العلمي الذي رافقه ترف فكري ومعرفي، نتجت عنه إبداعات في مجالات مختلفة من العلوم.
  • الازدهار الاقتصادي حيث عم الرخاء.
  • قوة الدولة مكنت المسلمين وجعلتهم أئمة في الأرض، أعزة مرهوبي الجانب.

وسواء أكثرت المآخذ على الدولة الأموية أو قلت فإن أحدًا لا يستطيع وضع هذه الدولة في كفة المقارنة مع امبراطوريات ذلك العهد وما سبقه، ولا مع امبراطوريات العهود اللاحقة، ومهما جرى الحديث حول ظلم أو قسوة حكام بني أمية فإنه لا يعدو إلا نذرًا يسيرًا لا يذكر في محفل الحديث عن مظالم الامبراطوريات الأخرى. 

وهذه بعض المآخذ التي يشير إليها الغزالي، وهي من وجهة نظر المجتمع المسلم الذي يرجع إلى كتاب الله حكمًا ودستورًا في التقييم:

  • وراثة الحكم، والاستبداد فيه أدى إلى وصول أفراد لا يمتلكون صفات الحاكم ليتبوأوا عرش حكم دولة الإسلام. والخلافة في الإسلام نيابة عن النبوة في رعاية شئون الدين والدنيا، فهي زعامة روحية ومدنية لا تتوفر خصائصها إلا في قلة من الرجال الموهوبين الممتازين، ولم يثبت عقلًا ولا نقلًا أن جنسًا من الأجناس قد احتكر في أفراده هذه المواهب والميزات حتى تحبس زعامة الأمة فيه وتوقف عليه. والنبوة نفسها وهي الأصل، لم تنقل بالميراث فكيف تتنقل الخلافة – وهي الفرع – بالمواريث؟

﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾[1] 

  • الحاكم الفرد هو السيد المطلق وبذلك ضعف إحساس الأمة بأنها مصدر السلطة والحاكم أجير عندها.
  • عودة العصبية الجاهلية التي هدمها الإسلام، ما أدى إلى تغذية الضغائن بين العرب وغيرهم من الشعوب الإسلامية، حيث قام الملك الأموي على نزعة عربية عنيفة.
  • ابتذال الحقوق والحريات على أيدي الولاة.

هذه المآخذ أخذت عليهم حينذاك، ورفضها المجتمع المسلم وصرح برفضه، وحاول التغيير، لكنه لم يدن من مرتبة معاداة كيان الدولة الحامية للإسلام ومحاربتها، فإيذاء هذا الكيان سيجر على المجتمع ويلات أخطر من الاستبداد، ولذلك حينما عجز الدعاة والمصلحون من التغيير اتخذوا مساراتهم الفكرية والتربوية بمعزل عن الدولة.

ولا ننسى أن تاريخ الدولة الأموية دُوّن في عصر الخصوم العباسيين.

2. في الدولة العباسية

إن الدولة العباسية أيضًا فتحت الأصقاع ونشرت الإسلام، وحافظت على دين الله تعالى. وشهدت ازدهارًا علميًا واقتصاديًا إلى جانب التفوق العسكري، لكن الأخطاء التي تجلت في هذه الفترة مهدت لعصور الانحدار وغروب شمس الحضارة الإسلامية، ويشير الغزالي إلى أهم المآخذ على هذه الفترة وهي:

  • الاستمرار في وراثة الحكم.
  • ظهور خرافة الحق الإلهي للسلاطين، حيث زعم أبو جعفر المنصور أن العناية الإلهية قد تخيرته وأجداده وأحفاده. (ويمكن أن نفند هذا البند كمأخذ على شخص بعينه ولا نعممه على الآخرين).
  • إثارة العصبية الفارسية، اعتمدوا عليها في بادئ الأمر ثم كادوا لها. واستبدلوا بها العصبية التركية.
  • الملك العباسي يجحد المعروف وينكث العهود. (وهو مأخذ على فترة محددة وأشخاص بعينهم، دون التعميم على الخلافة العباسية بالمجمل)
  • اهتم العباسيون بالقضاء على الدولة الإسلامية في الأندلس.
  • شاع الملق وتمدح الخلفاء بالحق والباطل.
  • ساد الغنى الفاحش لرجالات الدولة في أواخر العهد العباسي مقابل إهمال دور العلماء.
  • في حين اهتمت الدولة بالعلوم وأدخلت ترجمة النتاجات الفكرية لأمم أخرى فإن حماة الإسلام الكبار لم يلقوا الترجمة الصحيحة لأعمالهم، بل تناثرت هنا وهناك دون ضابط.

كما أن العديد من خلفاء العهد الأخير أهملوا واجباتهم وتقاعسوا عن تحمل مسؤولياتهم إزاء حماية الدولة الإسلامية والإسلام من الأعداء، وهذا التقاعس قد استفحل لاحقًا وجلب الويلات على الدولة والمجتمع، فها هو هولاكو يطيح بالدولة العباسية، ويقتل في بغداد سنة ٦٥٦هـ ما يقرب من مليوني نسمة من سكانها. والمسؤولية لا يتحملها هولاكو وحده، فاللوم ينبغي أولا أن يوجه إلى أمير المؤمنين المستعصم بالله العباسي، الذي حمل أمانة المسلمين ففرط فيها.

ولا ينكر إلا جاحد أن القلة الصالحة من الحكام هي التي أجدت على الإسلام، ووسعت رقعته في العالمين، وهناك ملوك ورؤساء على امتداد تاريخنا كله ابتذلوا أنفسهم لله وللأمة، وذهبوا إلى الله راضين مرضيين.

فالأمة كان لها مسارها الخاص.

هل كانت الأمة الإسلامية راضية عن حكامها؟

بين الأمة والحاكم

هل كانت الأمة الإسلامية راضية عن حكامها؟

إذا كان حكام الدولة الإسلامية مثلوا الدولة ولم يمثلوا الإسلام في كثير من مواقفهم، فإن الأمة زاخرة بمن مثلها ومثل الإسلام دون انقطاع. وإن العلاقة بين الأمة الإسلامية وبين حكامها لم تكن على نسق واحد، وإنما تماوجت حسب سياسات الدول وحكامها.

«إن طبيعة الإسلام فرضت نفسها على الأمة فجعلتها تُقبل على العلم وتوقر العلماء، وفرضت نفسها على الدولة فجعلتها تحذر جانب الأمة، وتحاول استرضاءهم بالرغبة أو استكراههم بالرهبة، ولم يستطع الاستبداد السياسي أن يضع العوائق في مجرى الثقافة نفسها فاستبحرت وضربت بسهم وافر في كل ناحية. إلا أن أثر الاستبداد ظهر في تثبيط الهمم عن علاج المسائل المتعلقة بأصل الحكم، ومن ثم اشتغل المسلمون بألوان من الترف العقلي وعكفوا على البحوث الفلسفية والنظرية والفرعية مما لا يضير الحكام أن تؤلف فيه المجلدات الضخام، واكتفى العلماء بدراسة آراء الإسلام في الحكم والمال، وتلاوة الآيات والأحاديث التي تكشف عن خلل الأوضاع القائمة.

وقد ظلت الفجوة بين العلم والحكم قائمة إلى أمد طويل، وكان العلماء يجتهدون في إفراغ ذمتهم حيال الأمانة التي ألقيت عليهم، أمانة الإبانة عن حقيقة الدين والنصح للحكام والمحكومين، وجار العنت على كثير منهم فهلك، وخلا الجو للحكام المستبدين فضلوا وأضلوا ومع ذلك فإن طبيعة الإسلام تألقت في أحلك العصور.

وكثير من ذوي الفضل رأوا أن يعترفوا بالأمر الواقع وأن يخدموا الدين في ظله قدر ما تواتيهم الفرص، فسلموا للولاة المتغلبين وتعهدوا المجتمع بما يمكنهم من إصلاح»

فانصرف العلماء والفقهاء إلى تدعيم الإسلام في ساحات لا تزدحم عليها مطامع الحكم وأثرة رجاله المستبدين.

ولم تتوغل وطأة الحكم والاستبداد في المجتمع المسلم، بل بقي مسار العلماء والمدارس الفكرية مستقلًا عن سلطة الدولة -على الأقل في العهد الأموي والعباسي- وبقيت أضرار الحكم في دائرة محدودة هي دائرة السلطان والحاشية، فقاطعوها ونأوا بجانبهم عنها وسلكوا سبيلهم بمعزل عنها، ما رفع من شدة الإحساس بحقيقة الخير والشر والمعروف والمنكر، فما تقع خطيئة من مستبد إلا لحقتها صيحات الناقدين الذين لا يخافون في الله لومة لائم.

هناك الكثير من الأحداث والمواقف التي تدل على عدم رضا المجتمع المسلم عن الاستبداد السياسي الحاكم، وعدم رضا الدولة عن رجالات نأوا بجانبهم عن مغازلة الاستبداد، مدركين دورهم في حمل راية الإسلام وتمثيل المجتمع المسلم. ونذكر هنا بعضًا منها تساعد في فهم ضرورة التفريق ما بين التيار الإسلامي في المجتمع المسلم وبين الدولة الحاكمة.

  • رفض سعيد بن المسيب تزويج ابنته للوليد بن عبد الملك ولي العهد، وآثر طالب علم فقير، وتحمل جراء ذلك عنت الخليفة.
  • إنكار سعيد بن جبير على عبد الملك بن مروان وفراره من الحجاج حتى استحى من الله، ومقتله على يد الحجاج.
  • أبو حنيفة النعمان رفض تولي القضاء بعد إدراكه نية المنصور، فزج به في السجن حتى مات فيه.
  • أنس بن مالك الذي أفتى بالحق في ولاية العهد التي تؤخذ غصبًا فطورد ولاقى ما لاقى.
  • الشافعي جيء مقيدًا مع جماعة من مكة إلى بغداد قتلوا كلهم وكاد الشافعي يلقى المصير ذاته.
  • محنة أحمد بن حنبل مع الخلفاء الذين أيدوا المعتزلة في مسألة خلق القرآن.
  • سجن ابن تيمية مرارًا بسبب مواقفه الثابتة.
  • نفي الإمام البخاري.
  • قصة العالم الفقيه عطاء بن رباح مع الخليفة سليمان بن عبد الملك
  • موقف العز بن عبد السلام من السلاطين.

إن التفريق ما بين التيار الإسلامي في المجتمع المسلم وبين الدولة الحاكمة من شأنه أن يريح ضمير المسلم في تحمل وطأة الدفاع عن حكم شخصيات تاريخية مستبدة مثلت نفسها ومثلت الدولة ولم تمثل الإسلام، وإن كانت قد خدمت الإسلام من جوانب أخرى. فالموضوعية في تقييم الفترات التاريخية تحررنا من فكرة الشر المحض والخير المطلق، وتساعدنا في إدراك أن التاريخ هو تفاعل بشري يخطئ ويصيب، يشرق حينًا ويغرب حينًا آخر. كما أن النظر في التاريخ الإسلامي الممتد يستوجب الإنصاف، فهمها جرى الحديث عن سَوْءات ومَخَازٍ ومَسَاوِئ ومَعايِب، فهناك في المقابل عَظائِمٌ وفضائِلُ ومآثِرٌ لا ينكرها إلا جاحد.

ودعوة الغزالي إلى إعادة تأريخ تاريخنا الإسلامي ما تزال قائمة وفق المرتكزات التي حددها، ونتيجتها سد ثغرات عديدة وإكمال جوانب النقص الكمي والكيفي، والتحرر من تعميم الدفاع إلى الوسطية والعدل في التقييم، وتوضيح إشكاليات هذا التراث التاريخي، والتصالح معها بموضوعية، وتحرير التاريخ من العاطفة القومية أو الدينية أمر لا يخدم أعداء هذا التاريخ بقدر ما يخدم أبناءه الغيورين اليوم.


[1]  سورة البقرة (124)

[1]  رواه أبو داود

[2]  محمد الغزالي، الإسلام والاستبداد السياسي.

[1]  رواه أحمد وحسنه الأرناؤوط.

أ. عماد كوسا

كاتب روائي وقصصي وناشط في مجال العمل الشبابي والمجتمعي.

أ. عماد كوسا

كاتب روائي وقصصي وناشط في مجال العمل الشبابي والمجتمعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى