خصائص الحضارة الإسلامية (4)
الحضارة الإسلامية ربانية المنهج والتوجه_الجزء الثاني
لا زلنا في الخصيصة الأولى من خصائص الحضارة الإسلامية، وانتهينا في المقال السابق إلى أن الحضارات البشرية على مر الأزمنة والعصور قد اتخذت الشرك عقيدة والأصنام آلهة وتعاقبت الأجيال جيلًا بعد جيل، وهي تردد {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (الزخرف: 23)، وجاء الإسلام ليحارب الشرك ويحطم الأصنام ويبطل التصورات والمعتقدات الخاطئة، ويقيم مقامها المفاهيم الصحيحة والأسس السليمة لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الإنسان والكون بمفهومها الصحيح الشامل والمتكامل؛ فأبطل أن يكون الإنسان في صراع دائم مع الطبيعة، ودحض من ادعى أن الطبيعة مصدر إلهام حين زعموا أن منها النفع والضر والخير والشر، وأنه لا بد من القرب منها لنيل الرضا والقبول فاتخذوا من الشمس والقمر والنار آلهة: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (فصلت: 37). ويرى الإسلام أن هذا الكون بسعته وظواهره المختلفة من ليل ونهار وشمس وأقمار وكواكب وأنهار خاضع لله سبحانه وتعالى الواحد القهار، فهو فاطرها والمتصرف فيها: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت: 61).
وإن الله سبحانه وتعالى سخر هذه الطبيعة وما بها من ظواهر لبني الإنسان فجاءت آيات كثيرة في مواضع مختلفة في القرآن لبيان وتبيان هذه الحقيقة جلية ناصعة، إنّ للإنسان منزلة ومكانة عظيمة حين يسخر الله له الشمس والقمر والليل والنهار وغيرها من الظواهر الطبيعية، فما عليك أيها الكائن البشري إلا حمدًا وشكرًا لله على نعمه والانصياع إلى أمره واتباع هديه وعدم نكران وجحود نعمه وفضله ومَنِّه: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم: 33-34)، {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية: 13).
وإن هذه المخلوقات مع تنوعها وتعددها ما هي إلا آيات الله في هذا الكون ودلائل خلقه وعظيم شأنه، ويوم كسفت الشمس في يوم وفاة إبراهيم- ابن الرسول صلى الله عليه وسلم- قال الناس “إن الشمس كسفت لموت إبراهيم”، وهذه دعوى جاهلية بزعمهم تكسف الشمس لوفات عظيم، فما كان من المصطفى إلا أن يصحح الأفهام وينور الأذهان، ففي الحديث الذي أورده الإمام البخاري: حدثنا أبو الوليد قال حدثنا زائدة قال حدثنا زياد بن علاقة قال سمعت المغيرة بن شعبة يقول: “كَسَفَتِ الشَّمْسُ علَى عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ مَاتَ إبْرَاهِيمُ، فَقالَ النَّاسُ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ فَصَلُّوا، وادْعُوا اللَّهَ”.
كما بين لنا الإسلام أن هذا الكون بعظمته واتساعة وكل ما فيه من موجودات ومكونات ومخلوقات خاضعة لخالقها وبارئها وأنها كلها فى انسجام واحد فى التسبيح لله والخضوع له والانصياع لأمره سبحانه وتعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (الإسراء: 44).
كما أراد الإسلام أن تكون علاقة الإنسان بالطبيعة علاقة انسجام لا علاقة تحدٍّ وانتقام؛ ففي الحديث عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: “خرجت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى خيبر أخدمه، فلما قدم النبي- صلى الله عليه وسلم- راجعًا وبدا له أحد، قال: هذا جبل يحبنا” [رواه البخاري].
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (إن أحدًا جبل يحبنا ونحبه) [رواه مسلم]، تامل أخي القارئ معي أن جبل أحد هو ذاك المكان الذى انكسر فيه المسلمون بغزوة أحد ليخبرنا المصطفى أن ما حدث للمسلمين من انكسار بجبل أحد لا يعني كره الجبل والمكان والزمان وأن أصل العلاقة بين الإنسان وهذه المخلوقات ما أخبرنا عنها المصطفى- صلى الله عليه وسلم- هي الحب والانسجام، وفى الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر”. ورواه البخاري بلفظ: “يسب بنو آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار”، كان العرب في الجاهلية تسب الأيام إذا وقع بهم مصاب وإلى يومنا هذا يتلفظ البعض بهذه العبارة “ألعن اليوم الذي ولدت فيه”، ولا جواز لهذا لأن الله سبحانه هو الذي يقدر الأقدار وبيده تعاقب الليل والنهار، وهكذا يتجلى الإسلام بتوجيه أتباعه إلى احترام العلاقة التي بينه وبين المخلوقات الأخرى أنه الدين الرباني الذي يسمو بأتباعه إلى مراتب العلو.
كما أمرنا القرآن الكريم التأمل فى هذا الكون وفي مخلوقات الله ففي هذا التأمل يأسرك الجمال ويشدك التنوع ويذهلك التناسق ويشطح بك الخيال إنه بديع صنع الله، إن البشرية اليوم مدعوة إلى صفاء النفس وسكونها ومعارج الروح وسمها
كما أمرنا القرآن الكريم التأمل فى هذا الكون وفي مخلوقات الله ففي هذا التأمل يأسرك الجمال ويشدك التنوع ويذهلك التناسق ويشطح بك الخيال إنه بديع صنع الله، إن البشرية اليوم مدعوة إلى صفاء النفس وسكونها ومعارج الروح وسمها، إن التأمل فى مخلوقات الله لفتة ربانية لنا نحن بني البشر ما أحوجنا إليها اليوم في هذا العالم المضطرب التى غلبت عليه المادية والشقاء والتعاسة وغابت عنه هدوء النفس وجمال الروح: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى ٱلۡإِبِلِ كَيۡفَ خُلِقَتۡ (17) وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيۡفَ رُفِعَتۡ (18) وَإِلَى ٱلۡجِبَالِ كَيۡفَ نُصِبَتۡ (19) وَإِلَى ٱلۡأَرۡضِ كَيۡفَ سُطِحَتۡ} (الجاثية)، {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} (النحل: 5-6).
إن هذه الآيات ترسم لنا لوحة فنية فيها من الجمال وانشراح الصدر حين ترى قطيع الأنعام وهي تسرح غادية مع إشراقة الصباح وانبثاق النور وجمال الشروق وحين تعود من المرعى مسرعةً مع الأصيل ذو المنظر البهيج لتستقبل فلذات أكبادها بلهفة وشوق وحب شديد: {وَٱلۡعَٰدِيَٰتِ ضَبۡحٗا (1) فَٱلۡمُورِيَٰتِ قَدۡحٗا (2) فَٱلۡمُغِيرَٰتِ صُبۡحٗا (3) فَأَثَرۡنَ بِهِۦ نَقۡعٗا (4) فَوَسَطۡنَ بِهِۦ جَمۡعًا (5)} (العاديات)، وهنا لوحة فنية أخرى للخيل وهي تعدو وأنت أنت تهفو طربًا وشوقًا لخفق قلبها ونبض فؤادها وإذ تغدوا الخيل عدوًا على العدو صبحًا لتقدح الشرر قدحًا وتملأ الجو نقعًا فى وسط الجمع زهوًا ونصرًا، إنها صورة فنية ترتسم في مخيلة الفارس الذي أحب الخيل وعاش في حبها.