قراءة فكرية في أنمي هجوم العمالقة
سيكون من الصعب جدّا قراءة هذا العمل الفريد: “هجوم العمالقة” – Attack on Titan (2013-2023)، قراءة فكرية محضة، ذلك أنّ “الفكري” و”الشعوريّ” هنا قد تعالقا بأجمل ما يمكن أن يحدث في عالم الإنتاج الدرامي عموما لا الأنمي وحده. ولهذا سأحاول في هذه القراءة الإشارة إلى محاور مهمّة جدّا قدّمها هذا العمل العظيم الذي ألّفه الكاتب الياباني والرسّام المبدع هاجيمي إيساياما، وهي محاور لامست المخيال الفكري والشعوري معًا، وأجدها جديرة بالتناول والتحليل.
لقد تحدث كثيرون عن الأفكار المركزية التي يتناولها أنمي “هجوم العمالقة”، الذي استمرّ عرضه لعشر سنوات على أربعة مواسم، سواء تلك التي تتناول علاقات الفرد والمجتمع والسلطة، أو التي تتناول الهوية والانتماء، أو الكفاح والتحرّر وقضايا الصراع والحرب وغير ذلك من موضوعات. وتحدّث آخرون عن الارتباطات التاريخية والسياسية القديمة والحديثة التي يشير إليها الأنمي، وهي في نظري مجرّد “قوالب” ناجحة لعرض أفكار الأنمي المركزية، دون أن تكون مقصودة بذاتها، مما يجعل جهد التحليل والربط بأحداث قديمة أو معاصرة جهدًا لا يعنيني في هذه القراءة، ذلك أنّها قراءة تتناول بُعدًا مرتبطا بالفكر الإنساني عمومًا، بصرف النظر عن العصر الذي يعيش فيه الإنسان، وهو ما أفلح الأنمي في تقديمه إذ كان قصّة خيالية في عصر خيالي وأماكن خيالية، ليعبّر بذلك أجمل تعبير عن كونه يتناول الفكر الإنساني وأعمق مشاعر الإنسان، فهي العنصر الحقيقي شبه الوحيد في الأنمي!
يمكن الحديث بصفحات طويلة عن الحسّ الأدبي الرفيع في هذا الأنمي، وعن جمال النصّ والسرد وإيقاعه المتنقّل عبر الأزمة، والثغرات التي يُرجئ سدَّها لحثّ المخيّلة وشدّها واستفزازها أحيانًا. لكنّ الذي يعنيني هنا هو صورة الإنسان كما عرضها هذا الأنمي، بل أعمق ما في الإنسان: مفهومه عن “الخير والشرّ”، و”الحقيقة” كما يراها، و”دوافعه” التي تُحرّكه في الحياة، و”الحرية” التي ينشدها، ويغلّف ذلك جميعًا “الحبّ” بمفهومه السامي العميق، الذي لفّ العمل من أوله إلى آخره كوشاح ميكاسا، إحدى الشخصيات المركزية في العمل.
ويعنيني أيضًا تقويم الأفكار التي يبثّها الأنمي، باعتبار أنّه يناقش مفاهيم تعيش بيننا في عصرنا هذا، وتتقاطع مع قضية “الدين” تقاطعًا مباشرًا. وهنا أرجو أن يفهم القارئ العادي أنّ التقويم موجّه للفكرة التي يوصلها العمل، لا للشخصية بحدّ ذاتها داخل العمل، فربّما اقترح مقترح أنّه من المفهوم ضمنًا أن هذه شخصيات أنمي لا تدين بدين الحقّ ومن العبث محاكمتها إلى القيم الإسلامية، ولكنّ الحقيقة أنني لا أحاكم الشخصيات بقدر ما أناقش الفكر الذي صنعها وبثّ مقولاته على ألسنتها.
كما سأحرص خلال هذه القراءة على عدم حرق الأحداث، وعلى أن تكون القراءة مفيدة لمن شاهد الأنمي أو لمن لم يشاهده، وأرجو أن أفيَ بهذا الشرط قدر الإمكان، فمن المعلوم أنّ الكتابة في هذه المساحة الشائكة التي يمتزج فيها الفكري بالشعوري وبإزاء عمل كثيف كهجوم العمالقة؛ تُصعّب تحقّق هذه الشروط.
صراع الخير والشرّ
لعلّ أجمل ما في أنمي هجوم العمالقة هو تلك الواقعية الشديدة في رسم الشخصيات، وأبرز جوانب هذه الواقعية هو ضبابية الخير والشر، تماما كما تبدو في الواقع الذي نعيشه، حيث نرى النّاس على جانبي الجبهات يعتقدون أنّهم على الحقّ، وأنّهم الجانب الخيّر الذي يحمل في عقله وقلبه قيم الحقّ والعدل والتحرّر وما قاربها من القيم التي ينادي بها النّاس. وهو في هذه السمة مفارق لكثير من الأعمال الدرامية التلفزيونية والسينمائية، تحديدًا في مجال الأنمي والكرتون، التي تُبرز الشرّ بوضوح فجّ، وبملامح “شرشبيلية” بارزة. ولعلّه من الطريف أن نقارن هذا العمل بعمل يبدو بدائيا بالقياس إليه، وهو أنمي “فتى المستقبل كونان” (1978) الذي أخرجه الفنّان ومنتج أفلام الأنمي الشهير هاياو ميازاكي في بدايات مشواره الفنّي، والذي عُرف في العالم العربي باسم “عدنان ولينا”، حيث يعرف المُشاهدُ “الخيّرَ” من “الشرّيرِ” بالنظرة الأولى، فملامح “عَلّام” و”نِمرو” تبدو بارزة الشرّ، بينما تبدو ملامح “عدنان” و”لينا” و”عَبسي” شديدة البراءة. ولا يقف الأمر على الملامح والرسوم، بل على المواقف، حيث تعلم من البداية أنّ أصحاب “القلعة” هم محور الشرّ، بينما تمثّل “أرض الأمل” ملاذ الطيّبين!
لا يتجاهل هجوم العمالقة تمامًا هذا الإرث الإنساني الدرامي في رسم ملامح الخير والشرّ، ولهذا فهو يتلاعب بالمُشاهد من خلال استخدام هذا الإرث لإضفاء المزيد من الضبابية على جهات الخير والشرّ. فالشخصية التي تتحدّث بصدق مع خلفية موسيقية مؤثّرة وتبكي ليظهر بأنّها آبت إلى رشدها لا تكفّ عن تلبّس الحالة التي لا تنفكّ عن الشرّ بسبب ما أحيط بها من غموض، مما يجعل القارئ يقف متخبّطًا في الحكم على الشخصية، وهو التخبّط الناشئ عن ذلك الإرث الدرامي سالف الذكر، المنفصل عن واقع الإنسان المعقَّد.
إنّ أجمل “الألعاب الدرامية” – إن جاز التعبير – التي يمارسها أنمي “هجوم العمالقة” هي ذلك التطوّر الفظيع لطبيعة الخير والشرّ في المسلسل، وهو التطوّر الذي يحثّك دومًا على الانعتاق من تلك النظرة الطفولية للعمل الدرامي، وإلى تأمّل النفس الإنسانية باضطرابها وجهلها وتخبّطها، وكيف يعترك فيها الخير والشر في الآن نفسه، وكيف ينجدلان في وصفة عجيبة تحار لها عقول النّاظرين وقلوبهم، ولكنّها تقف بإزائها على إحدى حقائق الإنسانية الراسخة: أنّ هذا الإنسان ليس قابلا للتصنيف الثنائي الحدّي، وأنّ مواقفه الأخلاقية في القضايا المعقّدة ترتكز على رصيد كثيف من الإرث الثقافي والعقل الجمعي وزاوية النظر والرصيد المعرفي المتراكم، وهي المتغيّرات التي راوح عليها كاتب النصّ هاجيمي إيساياما كثيرًا.
وهنا يبدو حلم “إيرين”، الشخصية الأبرز في الأنمي، في القضاء على العمالقة حلمًا نبيلًا لفتى شجاع. لكنْ هل تظلّ الأمور هكذا؟ وهل تساهم منافذ المعرفة الأخرى، المخبوءة والخارجية، في بقاء هذه الرؤية؟
ثمة إرث ثقافي ورواية تاريخية تَرضعُها شخصيات الأنمي أيّا كان مكان نشأتها، وهي ذات أثر كبير في الموقف الأخلاقي الذي تنطلق منه الشخصية. فالذي تفتّح للوعي وهو يعرف أنّ عدوّه وعدوّ بلاده الأول هو “العمالقة”، وأنّ بلاده هي ملاذ البشرية الأخير، وأنّ هؤلاء العمالقة شرّ محض مستطير، يأكلون لحوم البشر ويبطشون ويهدمون كل شيء.. لا شكّ أنّه سيرى الخير في موقفه المدافع عن أهله وبلاده والساعي إلى القضاء على العمالقة. وهنا يبدو حلم “إيرين”، الشخصية الأبرز في الأنمي، في القضاء على العمالقة حلمًا نبيلًا لفتى شجاع. لكنْ هل تظلّ الأمور هكذا؟ وهل تساهم منافذ المعرفة الأخرى، المخبوءة والخارجية، في بقاء هذه الرؤية؟
وإلى جانب ذلك فهناك زحزحة مطّردة لأكْسِيَة الخير التي لفّت بعض الشخصيات، وهي زحزحة ذكيّة متدرّجة وئيدة، تمرّ ببطء على أحداث تلك “الإنسانية” التي يعرضها الأنمي، وتكشف لك من خلال مسيرتها الفاتنة تلك الحقائق التي يغيب عنها النّاس الذين يعيشون في هذا العالم، فأنت في هذا الأنمي تتمتّع بميزة “الرؤية الكلية”، التي ترى من الأعلى وبشيء من الإجمال كيف تساهم مختلف العوامل في صناعة قيم الخير والشرّ في حسّ النّاس الواقعين تحت ضغط هذه العوامل. وسترى أيضًا كيف تنحرف بعض الشخصيات التي بدأت مناضلة عن “الخير” وشديدة الحماسة ضدّ “الشرّ”، ممّا يذكّرنا بمقولة الشاعر والناقد الأدبي الأمريكي توماس ستيرنز إليوت (ت. س. إليوت): “معظم الشرّ في هذا العالم يفعله الأشخاص ذوو النوايا الحسنة”.
ومن أهم محاور هذا الباب ارتباط “المعرفة” بقيم الخير والشرّ، فهو وترٌ مهم يعزف عليه إيساياما ببراعة منقطعة النّظير، إذ يبدأ الأنمي برواية اختزالية مبسّطة عن “رؤية العالم” أو “حكاية البشرية”، لكنّ هذه الرؤية ما تلبث أن تتغيّر كلّما تقدّمت الأحداث وتفتّقت ينابيع المعرفة الإنسانية، سواء من تحت الأرض، من “القبو”، أو من جهات خارجية، فلهذه المعارف الجديدة مساهمة أساسية في تحوّل الآراء والمواقف والمشاعر.
هل كان إيساياما يشير بذلك إلى معرفة الإنسان التي تكسر الرؤى الدينية؟ ربّما تكون هذه قراءة جديرة بالاهتمام خصوصًا حين نرى التحيّز الواضح ضدّ “رجال الدين”، حيث يظهرون بصورة المتخلّفين الذين يقدّسون الأسوار دون تسويغ يحترم العقل، والذين يخفون الأسرار عن النّاس، ويظهرون بوجوه مقطبة مريبة. هذا كلّه لم يكن عبثًا من وجهة نظري، بل يحمل في طيّاته بذور العداء للدين ورؤيته للعالم، ولكنّ التناول في هذه الجزئية كان سطحيّا جدّا مع الأسف، بخلاف العمق الذي عهدناه في مختلف جوانب الأنمي، إذ كيف يمكن لعملٍ متجاوز للنظرة الطفولية في رسم الخير والشرّ أن يمارس هذه النظرة الطفولية فيما يتعلّق بالشخصيات التي تمثّل “الدين”؟
وإذا أردنا أن نقول قولا إجماليا بخصوص قضية “الخير والشر” كما يعرضها الأنمي فهو أنّه عرضٌ عميق في مجمله، وضروريّ في آن؛ ذلك أنّ إغفال تعقيد النفس الإنسانية واحتوائها على الخير والشرّ يصطرعان في آن يتولّد عن نظرة سطحية للإنسان ولقيمه وطبيعة حياته. وصحيح أنّ إحدى المشكلات الأساسية للعمل برمّته هي افتقاره للأرضية الدينية السماوية، أي التي تستند إلى “التوحيد” باعتباره ضابطًا محكمًا لعالم القيم الإنسانية، لكنّ افتقاره لهذه الأرضية لا يغيّر من إحسان عرضه لبعض جوانب الطبيعة الإنسانية، التي تتأثّر في رؤيتها للخير والشرّ بتلك العوامل التي ذكرناها في الفقرات السابقة.
ليعلّمنا بذلك عدم التسرّع في الأحكام القيمية، وأنّنا بغير العلم الذي جاء من عند الله لا يمكننا أن نعيش حياة سويّة نعرف فيها الحقّ من الباطل.
فالإسلام لا يقدّم مرهمًا مزيلا لإشكالية الخير والشرّ مطلقًا، بل يؤكّد على كونها محورًا مركزيّا من محاور الابتلاء، وعلى أنّ “المعرفة” عنصر مهمّ في تبيُّن معالم الخير والشرّ، ولعلّ قصّة الخضر خير نموذج على ذلك؛ فما كان يبدو شرًّا محضًا في نظر موسى عليه السلام كان ينطوي في الواقع على خير، وما حجب رؤية هذا الخير هو المعرفة التي لم يشأ الله سبحانه في تلك اللحظة أن تتوفّر لموسى عليه السلام، ليعلّمنا بذلك عدم التسرّع في الأحكام القيمية، وأنّنا بغير العلم الذي جاء من عند الله لا يمكننا أن نعيش حياة سويّة نعرف فيها الحقّ من الباطل.
نسبية الحقيقة
من المواضيع التي ترتبط بالمحور السابق، الخير والشرّ، موضوعُ “نسبية الحقيقة” الذي طُرح بشكل واضح جدّا في الأنمي في أكثر من مفصل وموقف، سواء على مستوى الرواية الكلّية للأنمي وسَير الأحداث، أو على مستوى بعض الحوارات العابرة التي لا تخلو من تأكيد على هذه الفكرة.
ففي أحد الحوارات المركزية يسأل أحدهم الآخر: “إذن من تكون المؤسِّسة بالضبط”؟ فيجيبه بأنّ جهةً ما (سمّاها) تدّعي أنّها كانت “خادمة الشيطان”، وبالنسبة لجهةٍ أخرى (سمّاها أيضًا) كانت صانعة معجزات أُرسِلت من طرف الآلهة، وآخرون يعتقدون بأنّها شابّة تواصلت مع “مصدر الحياة العضوية”، ثم يعقّب المجيب قائلا: “لا توجد حقيقة مطلقة في هذا العالَم”.
هكذا إذن، يكشف لنا كاتب النصّ عن موقف واضح صريح من “نسبية الحقيقة”، إذ لا توجد حقيقة مطلقة في هذا العالم. فهو لا يعادي بوضوح أصحاب الرؤى التي تشبه أن تكون “دينية”، ولكنّه يكره أن تكون رؤاهم “حقيقة مطلقة”، ولا يفوّت هنا أن يجعل أصحاب الرؤية الدينية فريقين متخاصمين، ينطلقان من رؤيتين مختلفتين، رؤيتين تتراوحان بين “الآلهة” و”الشياطين”، ففريقٌ ينسب المؤسِّسة المذكورة للشياطين وآخر ينسبها للآلهة، معبّرا بذلك عن أحد المواقف العلمانية السلبية الرافضة لجعل الدين مصدرًا للحقيقة؛ إذ – بحسب هذا الموقف – أيُّ دين ذلك الذي يحمل الحقيقة؟ ولقد وصف رجالُ الدين اليهودُ عيسى بن مريم عليه السلام بأنّه قد أصيب بمسّ “الشيطان”، بينما يراه بعض أتباعه إلهًا، ويراه آخرون ومنهم المسلمون رسولًا من الله قد خلتْ من قبله الرُّسُل.
وبصرف النَّظر عن سطحية هذا الموقف الذي يرفض امتلاك رؤية دينية للحقّ بسبب اختلاف النّاس في الأديان، فلا ينبغي أن يفوتنا هنا كيف عبّر الموقف “العلموي” عن تفسير ظاهرة تلك “المؤسِّسة” صاحبة القدرات الخارقة، فبشكل محايد يوصَف “الخالق” بأنّه “مصدر الحياة العضوية”، وهو وصف يثير خيال المتابع للعمل بلا أدنى شكّ، ويظلّ يداعب خياله حتى يعود مجدّدا في أواخر العمل، ليكشف لنا عن “عبثية الحياة”، وأنّها ظهرت بالصدفة كما تقول الرواية العلموية الحديثة، ولا غاية لها سوى التكاثر، وهو الشيء الأبرز الذي يُفرّقها عن سائر موجودات العالم كالرمل والحصى والماء، فهذه لا تتكاثر، ولكنّ الحياة تتكاثر.
وهنا لا بدّ من التأكيد على أنّ العمل وإنْ كان يكرّر فكرة “نسبية الحقيقة” فيتبادر إلى الذهن بادي الرأي أنّه لا يروّج لرؤيةٍ بعينها، ولكنّه يميل إلى تزيين الرؤية الإلحادية العلموية والتنفير من الرؤية الدينية بوسائله الخاصة على النحو الذي مثّلنا له سابقا هنا.
وعند هذه اللحظة يدخل المتحدّث في حالة سوداوية يعبّر فيها عن “مأساة الحياة التي يحكمها الخوف”، فهو يرى هدف التكاثر عبثيّا، وأنّ السبب الذي يدفعنا إلى الاستمرار في الحياة هو الخوف المزروع بدواخلنا من الموت، ولا يوجد مغزى من جميع ذلك. وهي فكرة خطيرة يبثّها كاتب الأنمي على لسان إحدى الشخصيات المركزية، وهو يؤكّد ما ذكرناه من افتقار العمل للأرضية التوحيدية التي تعطي المعنى للحياة والبوصلة لمعرفة الحق والباطل. وبدلا من أن يكون هدف التكاثر والمظاهر الحيوية الكثيفة المرتبطة به والوجود الفريد للإنسان سببًا للتأمّل والتوصّل إلى “قصدية” الحياة وارتباطها بغاية واضحة[1]، تتحدث تلك الشخصية عن “عبثية” الحياة وتربط ذلك بالصدفة. وهنا لا بدّ من التأكيد على أنّ العمل وإنْ كان يكرّر فكرة “نسبية الحقيقة” فيتبادر إلى الذهن بادي الرأي أنّه لا يروّج لرؤيةٍ بعينها، ولكنّه يميل إلى تزيين الرؤية الإلحادية العلموية والتنفير من الرؤية الدينية بوسائله الخاصة على النحو الذي مثّلنا له سابقا هنا.
في حوار آخر يسأل أحدهم إحدى الشخصيات: “ومَن يكون خالقنا”؟ فيجيبه: “إنّه الكيان الذي وهبَ القوّة للمؤسِّسة.. وهو الإله”. ثم يعقّب: “هذا ما يعتقده بعض النّاس، فنحن أحرار في اعتقاد ما نشاء، أليس كذلك؟”. فهنا يشار إلى الجهة نفسِها تارة بصفة “الكيان” وتارة بصفة “الإله”، ثم يؤكّد على حرية المرء في اعتقاده، وأنّ رؤيةً ما لا يمكنها أن تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة وإلغاء معتقدات الآخرين!
ولكنْ مع جميع هذه المحاذير التي ينبغي الانتباه إليها في سياق ما يبثّه أنمي “هجوم العمالقة” حول “نسبية الحقيقة”، فإنّ هناك جانبًا إيجابيّا في التعرّض للآراء المختلفة حول “الصواب” و”الحقيقة”، وهو استطلاع زوايا النظر المختلفة، فكثيرا ما يكون هذا الاختلاف في تصوّر الحقيقة ناشئًا عن اختلاف زوايا النَّظر وغير ذلك من عوامل. وحين يقرّر المرء أنّه يرغب في استكشاف زوايا النظر المختلفة، خصوصاً في المسائل التي لا يوجد فيها حقّ وباطل واضح كلّ الوضوح كقضايا الخالقية والنبوة واليوم الآخر وما يبنى عليها، فإنّه سيكسب بذلك الكثير، على مستوى رسوخه في رؤيته، وعلى مستوى إحسان التعامل مع الآخر المختلف.
ولعلّ من أنفس ما قيل على لسان أرمين، إحدى الشخصيات المركزية في العمل، هو إصراره الدائم على “الفَهم”، فهم الآخر المختلف ومحاورته قبل الاندفاع لخصومته وإفنائه. ومن أجمل ما قاله في ذروة الصراع: “صحيح أنّه لا توجد نهاية في الأفق لهذا الصراع، وأنا متأكّد من أنّ الجحيم الذي مررنا به قد حدث مرارًا وتكرارًا، ولكنْ علينا أن نفكّر أنّه على الرغم من كلّ ذلك، في يوم من الأيّام، يمكننا أن نفهم بعضنا بعضًا”. وهو يذكّرنا بما قاله دوستويفسكي يومًا: “ليس هناك أسهل من إدانة فاعل الشرّ. لا شيء أصعب من فهمه”.
فسيفساء الدوافع الإنسانية
من الجيّد أن نؤكّد مجدّداً على كون هذا الأنمي يجري على أرضية افتراضية (باعتباره خيالياً) حيث لا وجود لله عز وجل وعبادته وحده لا شريك له بشكل واضح في حسّ أي من الشخصيات، مما جعله مرآة صادقة جدّاً لعرض الخيوط التي تتحكّم بدوافع البشر وآمالهم ومواقفهم حين يغيبون عن هداية الوحي، أي حين يعيشون في جاهلية عمياء.
منذ الحلقات الأولى، يستعرض العمل بتراجيدية عالية أزمة الدوافع التي تعصف بكثير من الشخصيات. يتساءل بعضهم: إلى أيّ فئة من الجيش سأنضمّ وبأي دافع؟ لماذا عليّ أن أموت؟ لأي شيء أعيش؟ يبكي بعضهم، ويضطرب آخرون.. معبّرين بذلك عن معضلة الإنسان الكبرى، غاية وجوده والدوافع التي من أجلها يحيا.
وفي أحيان كثيرة، تصبح الدوافع للعيش شديدة السذاجة، في ظلّ افتقار تلك الشخصيات لقصّة الإنسان كما يحكيها الوحي الإلهي، فثمّة من شعر بوجوده الذاتي ورضيَ عن ذلك لمجرّد أنّه عثر على الإنسانة التي استمتعت بتناول طبخه أكثر من أي شخص آخر، فقد أنقذته من الحرب اللعينة كما يقول، ويقول أيضًا: “جعلتني أدرك أنني شخص وظيفته الحقيقية هي إسعاد النّاس بطبخه”.
وآخر ربّما تبدو دوافعه ليغدو محاربًا أرقى من “الطبخ”، لكنّه يقف عند حدّ “المعرفة”، فهو يرضيه أن يعرف أكثر، ذلك هو السيّد كوسافا، الذي أدرك أنّه سيكون من الغباء أن يكون محاربًا تستغلّه دولته لغزو دول أخرى بغير هدف، لذلك تبنّى دافعًا مُرْضِيًا آخر:
“لماذا أصبحتَ محاربًا يا سيّد كوسافا؟”
“أردتُ أن أعرفَ أسرار العمالقة. فأنا باحث في نهاية المطاف”.
ويضيف لاحقًا بأنّ “الكراهية والصراعات تبدو تافهة مقارنةً بأسرار العمالقة”، ثم ينحني بأسًى وهو يقول: “لو لم أولد في هذا العالَم”. فهو يكره هذا العالَم الذي يجده بغير معنى يشبع دوافعه الإنسانية الأصيلة، ولكنّه يعزّي نفسَه بغاية يجدها أنبلَ مما وجد نفسَه في أتونه، وهي معرفة الأسرار العلمية. غير مدرك أنّها غاية ناقصة قاصرة، فلأيّ شيء يحتاج الإنسان أن يعرف أكثر؟ ماذا لو عرف أسرار العمالقة وعرف كل شيء في العالم، ثم مات، بغير مصير ولا غاية ولا أفق بعد الحياة. إنّه دافع “تعليلي”، يُعلّل كوسافا به نفسَه مع إدراكه لسوداوية حياته في هذا العالم الذي لا يرتضيه!
ولعلّ أعقد قصة من قصص الدوافع هي قصة إيرين نفسه، حيث يحار المرء في تطوّر شخصيته ودوافعه، ولكنه يجد مؤثّرات قديمة تنشأ من الطفولة، حيث الطفل الضعيف الذي يحمل قلبًا جريئًا لكنْ مع قدرات ومهارات عادية أو متواضعة، إلى جانب علاقةٍ وثيقة جدّا مع ميكاسا، المقاتلة “المعجزة” كما توصف، التي كان يحاول أن يظهر أمامها دومًا بأنّه القادر على الاستقلال بنفسه بل الدفاع عنها، ولطالما استاء من مجرّد محاولتها مساعدته وحمايته. إنّ هذا الشعور الطاغي الذي يبدأ في قلب طفل يكره أن تدافع فتاتُه ورفيقة دربه عنه، سيتمخّض عن أشياء كانت أكبر من خيال ذلك الطفل نفسه! يقول في إحدى محطّاته المأساوية وبعد حصوله على قوّة ما: “أردتُ أن أصدّق أنّ تلك القوة تخصّني، هذه بالذّات الطريقة التي يفكّر بها الواهن”. لقد أقرّ في لحظة صدق بضعفه، وهو الضعف الذي كان سببًا في تغيّرات لاحقة.
ربّما شعر إيرين بأنّه مقيّد في جزيرة “باراديس” خلف تلك الأسوار الثلاثة، وتحت وطأة هيمنة العمالقة وفَتْكهم بأمّه وأبناء بلدته، ثم أضيف إلى هذا قيد ميكاسا، رفيقة دربه التي أهداها وشاحه تعبيرا عن حبّه وتقديره لها، فهي التي تقف في ظهره دائمًا وتحميه دائمًا، وهو لا يحبّ ذلك.. لا يريد أن يظهر بمظهر الضعيف الواهن، بل يريد أن يظهر بمظهر القويّ الحرّ.. وهنا تبدأ مسيرة هذا “الدافع” نحو التحرر تكبر وتنمو، لنراه في إحدى محطّاته المفصلية يقول لأعزّ رفاقه: “أنا حرّ.. ما أفعله وما أقرّره كلّه نابع من إرادتي الحرّة”. ونراه وهو يردّد هذه الكلمات قد فقد ملامح وجهه الحيوية المتوفّزة المضطربة، بل اكتسى وجهه بملامح جامدة، وكأنّه قد وجد ذاته أخيراً وتبدّى له الدافع الذي يعيش ويفنى من أجله: وهو الحرية، تلك الحرّية التي عانى كثيرا وهو يبحث عنها بشغف. لكنْ هل تبدو حين شعر أنّه حصل عليها بتلك الصورة الطفولية الأولى التي كان ينشدها؟ أم باتت بنفسها قيدًا جديدًا حلّ مكان القيود السابقة فصار “عبدًا” للحرّية؟
وهنا مجدّدا يُظهر لنا أنمي هجوم العمالقة باحترافية مدى تعقيد المشاعر الإنسانية ومن ثمّ الدوافع الإنسانية في الحياة. إنّ الأمر ليس مجرّد “أفكار” يعتنقها المرء فتحرّكه لاتخاذ مواقفه من النّاس والأحداث والأشياء، إنّه ليس بتلك الطريقة الساذجة التي يتناولها بعض “العقائديين” حين يُحدّثوننا عن حلّ أسئلة الإنسان الوجودية في بُعد فكريّ أحاديّ، يُجيب عن الشبهات بحجاج ذهني منطقي، ويعتقد بذلك أنّه مَلَّك الفردَ المسلمَ بوصلةَ التوجيه التي تُحدّد له غاية وجوده.
إنّ مفهوم “غاية وجود الإنسان” بحدّ ذاته ليس قابلا للاختزال في بُعد أحاديّ، فلا يكفي أن نخبر النّاس أنّ غاية وجودهم هي عبادة الله وحدة بلا شريك بالمفهوم الشامل للعبادة، لأنّ ثمّة منافذ للنفس ترتبط بمشاعر الإنسان المعقّدة، أو بتجارب طفولية، أو بظروف واقعية صعبة، أو بغير ذلك من الطباع والحالات النفسية والظروف والعوامل.. ثمة منافذ للنفس تريد أن تحسّ بالإشباع بإجابات أكثر تفصيلًا، وكثيرا ما تكون هذه الإجابات مشاعر وممارسات لا مجرّد حلول فكرية أو ردّ على شبهات.
قد يمتلئ الذهن بحجج الإسلام وبراهينه وأحقّيته، ولكنْ تبقى في القلب ثقوب تتسرّب منها مياه الحقيقة، فربّما توقّف إنسانٌ مسلم عند محطّة من محطّات حياته ذاهلا حائرًا، يجهل ارتباطها بمادة الإسلام الذي اعتنقه وارتضاه، فلا تُسعفه الإجابات الكلية ولا المحاجات الفكرية كما تسعفه اللفتة الحانية والتجربة الدافئة التي تُشعره بالمعنى الذي أضاعه.
قد يمتلئ الذهن بحجج الإسلام وبراهينه وأحقّيته، ولكنْ تبقى في القلب ثقوب تتسرّب منها مياه الحقيقة، فربّما توقّف إنسانٌ مسلم عند محطّة من محطّات حياته ذاهلا حائرًا، يجهل ارتباطها بمادة الإسلام الذي اعتنقه وارتضاه، فلا تُسعفه الإجابات الكلية ولا المحاجات الفكرية كما تسعفه اللفتة الحانية والتجربة الدافئة التي تُشعره بالمعنى الذي أضاعه.
وكثيرا ما كنت أتأمّل باهتمام وأسى مواقف بعض الشخصيات بخصوص دوافعها وفقدانها للمعنى في ظلّ أحداث تعصف بها، فأشعر بوضوح كيف يؤثّر فقدان أنوار الوحي في فقدان البشر للاستقرار في حيواتهم، وافتقارهم للاطمئنان إلى المعاني التي يعيشون من أجلها، فتظلّ تلك المعاني في اضطرابٍ وخلخلةٍ دائمَين طوال حلقات الأنمي، إلى درجة أن تختلف الدوافع وتنعكس، في صورة صادقة مؤلمة عمّا يمكن أن يحدث للإنسان حين يتيه عن المصدر الذي يُنبئه بقصّة نشأته وغاية وجوده، ذلك النبأ الحاني اللطيف، الذي ينسرب في تفاصيل الوجدان الإنساني، فيقدّم له أكثر ما تفتقر إليه البشرية اليوم: الأمن والطمأنينة.
وشاح..
أولئك الذين لم يحصلوا على قدْر كافٍ من الحبّ يهتزّ في قلوبهم شيءٌ خطير، شيء ربّما يدفعهم إلى التعويض عن نقصان الحبّ باقتراف ما لم يتخيّلوا يومًا أنّهم سيفعلونه. يقول ابن تيمية رحمه الله في رسالة “قاعدة في المحبّة”: “وأصلُ كلّ فعلٍ وحركةٍ في العالم من الحبّ والإرادة”[2].
وفي ظنّي أنّ كاتب النصّ، هاجيمي إيساياما، أراد أن يعبّر لنا عن عظيم قدْر دافع الحبّ عند الإنسان، فأخذ الأمر إلى أبعد مدى، وجعل فقدان الحبّ وضياعه سببا في خراب العالَم!
إنّ تلك المشاعر البسيطة التي تنشأ بين البشر وتُشبع في نفوسهم نوازع فطرية أصيلة؛ يمكنها أن تُغلق في قلوبهم نوافذَ مُشرعةً للخطيئة والشرور.
إلى هذه الدرجة يمكن للحبّ أن يعصف بالإنسان. فالابن الذي لم يلق قربًا وحنانًا كافيًا من والده، كما يتجلّى في إحدى الشخصيات المركزية، وعاش معظم حياته بعيدًا عن كنفه، يتولّد لديه – بسبب فقدان ذلك الحبّ الأبوي المتين – حقدٌ كبير على والده، ونظرةٌ سوداوية للعالَم وللغاية من وجود الإنسان. إنّ تلك المشاعر البسيطة التي تنشأ بين البشر وتُشبع في نفوسهم نوازع فطرية أصيلة؛ يمكنها أن تُغلق في قلوبهم نوافذَ مُشرعةً للخطيئة والشرور.
كان “الوشاح”.. وشاح ميكاسا الذي أهداها إيّاه إيرين رمزًا صارخًا للحبّ الذي لم يكتمل.. الحبّ الذي ظلّ قماشًا أحمر ملتفًّا حول عنقها، وحالت العوائق دون تحوّله إلى إشباع حقيقي.
وفي لحظة ما، يُظهر لنا العمل موقفًا مفصليّا، يسأل فيه إيرين ميكاسا عن دوافعها من حمايته دومًا، فتخجل – كما يبدو – من البوح بدوافعها الأصيلة، وتخبره بأشياء أكثر سطحية وظهورًا. تبدو تلك اللحظة مفترقَ طُرقٍ رئيسي في العمل؛ فربّما وجد ذلك الواهن المسكين عزاءه في حبّها فتغيّر مسار حركته وإرادته، ولكنّها عزفتْ عن البوح لحيائها، فاتخذ طريقه في الدرب عجبًا، ومضى “بلا حبّ” يسلك طريقه الصعب الحزين، ليتمخّص عن أحداث كبرى غيّرت وجه الأنمي بأسره.
ماذا لو أنّها أخبرته بحبّها، وماذا لو عبّر هو قبل ذلك عن حبّه لها ورغبته بالارتباط بها والبقاء معها بدلا من سؤالها..
ماذا لو ربط الوشاحُ بين رفيقَي الدرب اللذين عاشا الطفولة والشباب معًا..
ماذا لو كفّه ذلك عن طريقه الخطر الطويل واكتفى بخُطى أكثر اتّزانًا وثباتًا مع فتاته التي أحبّ..
ثم ماذا لو عرف الله وأحبّه، وكان أشدّ حبّا له من كلّ شيء، هل تبقى في القلب فجوات تحتاج إلى آدميّ ليسدَّها؟ وهل يغدو بتلك الهشاشة والوهن والضعف التي تدفعه كاليائس إلى مزالق الانهيار؟
نعم، إنّ “لَو” تفتح عمل الشيطان.. ولكنّ القلوب التي تفقد حبّها الأول والأسمى، حبّ الله سبحانه، تنفتح عليها عواصف الشيطان وزلازله!
يقول ابن القيّم رحمه الله في كتابه “إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان”: “فإنّ في القلب فاقة لا يسدُّها شيء سوى الله تعالى أبدًا، وفيهْ شَعَثٌ لا يَلُمُّه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده، فهو دائمًا يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئنّ إلى إلهه ومعبوده، فحينئذٍ يباشر روح الحياة، ويذوق طعمها، وتصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خُلِقَ الخَلْقُ، ولأجله خُلِقت الجنّة والنار، وله أُرْسِلت الرسل وأُنزلت الكتب، ولو لم يكن له جزاء إلا نفسُ وجوده لكفى به جزاءً، وكفى بفَوْته حسرةً وعقوبةً، كما قيل:
ومَن صدَّ عنّا حظُّهُ البُعْدُ والقِلى … ومَن فاتنا يَكفيهِ أَنّي أَفوتُهُ”[3]
[1] راجع كتابي “الذرّة التائهة: من حافّة الكون إلى أحضان الكلمة”، فصل “يتناسلون” وما يليه.
[2] أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، قاعدة في المحبّة، تحقيق: محمد رشاد سالم (القاهرة: مكتبة التراث الإسلامي، 1987)،7.
[3] شمس الدين بن القيّم، إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، تحقيق: علي بن حسن الحلبي (الدمام: دار ابن الجوزي، 1432)، 1: 146-147.