المقالات

أجمل أيام العمر

تخيل معي أنك خرجت في مساء ربيعي من أيام فصل الشتاء، ويوم كهذا يكون له متعة خاصة، فهو كابتسامة بين تجهمين، وبينما تتمشى مستمتعا بكل شيء من حولك، قررت قناة تلفزيونية أن (تنزع مراقك) من خلال مقابلة عابرة، كانت المذيعة من ذلك النمط الذي يتخرج بأقل معدل ممكن من الجامعة، ولكنها وبطريقة غامضة صارت موظفة في قناة مرموقة.

وبينما تفكر أنت بالسؤال وتستعد للمقابلة، قامت المذيعة بتفجير نكتةٍ ثقيلةٍ مع شباب كادر التصوير، وأتبعتها بضحكتين بشعتين، وبذلك تكون قد حصلت على جرعتها الكاملة من تحقيق الذات لهذا اليوم:)

وبعد ذلك التفتت إليك وقالت لك، ما هو أجمل يوم في حياتك ولماذا؟

ربما لو كنت متزوجاً سوف ترد على الفور بجواب يضمن لك المبيت في المنزل هذه الليلة:)

بعيداً عن السخرية أخذت أفكر وأستعرض الإجابات المحتملة، ربما سيقول أحدهم إن أجمل أيام حياته ذلك اليوم الذي تخرج به من الجامعة بمرتبة الشرف، وسيقول آخر إن نجاح مشروعه الشخصي كان أروع ما حدث له، وستجيب أخرى أن اليوم الذي أصبحت فيه أماً هو الأحلى، وآخر يوم حفظ كتاب الله، وعجوز حين سيعود إلى وطنه وشاب حين استطاع الهرب منه، ستتفاوت الأجوبة، وتتباين لدرجة أنك ربما لن تجد جواباً يشابه أخاه..

 وكلما ارتفعت همة الإنسان ارتقت مطامحه، وكلما ارتقت مطامحه أصبحت عتبة السعادة عنده عالية مرتفعة، وعندها لا عجب حينما تسمع الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز وهو يقول: “إن لي نفساً تواقة، وما حققت شيئاً إلا تاقت لما هو أعلى منه، تاقت نفسي إلى الزواج من ابنة عمي فاطمة بنت عبد الملك بن مروان فتزوجتها، ثم تاقت نفسي إلى الإمارة فوليتها، وتاقت نفسي إلى الخلافة فنلتها، والآن تاقت نفسي إلى الجنة فأرجو أن أكون من أهلها”.

أيُّ نفْسٍ عظيمةٍ هذه! يتحدث عن أمر الخلافة ومطامحه فيها وكأنه يتحدث عن غرض قام يشتريه من السوق، رجُلٌ كهذا لن تعرف أي أيام عمره هو الأجمل، وإن عرفت فلن يكون جوابه عادياً.

وتعظم في عين الصغير صغارها

وتصغر في عين العظيم العظائم

ولكنني لم أشأ أن أقف هنا، وقلت في نفسي ماذا لو كان المسؤول هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأي يوم سيكون؟ هل هو يوم فتح مكة؟ أم ليلة الإسراء عندما التقى بإخوانه؟ أم يوم أُنزلت عليه اليوم أكملت لكم دينكم..

لم أجد فيما اشتهر عنه صلى الله عليه وسلم من أحاديث تصريحاً بهذا الأمر على وجه الخصوص، ولكنني وأنا أتأمل في الأمر تذكرت قوله – وهو يبرق من السرور- لسيدنا كعب بعد أن أنزل الله آية المتخلفين الثلاثة وقبل الله توبتهم: “أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، فقال كعب من عندك أم من عند الله؟ قال بل من عند الله”

حديث كعب يوم تخلف عن غزوة تبوك هو من أعظم القصص الذاتية التي قرأتها في كتب الأحاديث بعد حادثة الإفك، وكلام كعب الصريح عن نفسه، وتصالحه مع شعور الندم هو أصدق ما في القصة، وهذه اللفظة التي سقتها منذ قليل تكاد تكون ذروة الحبكة، وعندما تقرأ القصة من أولها متقمصاً دور البطولة والذي هو لسيدنا كعب، لا ريب أنك ستشعر بقشعريرةٍ تسري في عروقك عندما تصل إلى هذه الجملة (وأنت تتخيل أنك صبرت خمسين يوماً على هجر الناس كلهم حتى زوجتك وجفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لك والتيه الذي سقطت فيه ولا تعرف مخرجاً له، عداك عن تلك الندامات التي تقتات على قلبك ومشاعرك) “أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك” كيف لا يقشعر البدن ويخفق القلب والمبشر هو محمد، وصاحب البشرى هو ربه، والبشرى هي قبول التوبة!

ولما كان صحابة رسول الله مدركين لهذه المعاني، مستشعرين له أقبلوا أفواجاً يهنئون كعباً بتوبته! أتخيل المشهد ولا ينقضي عجبي من شدة استشعارهم لهذا المقام واستحضارهم له، يعانقونه كما نعانق نحن صديقاً في يوم فرحه، أو قريباً آب من سفره، هكذا كانت نظرتهم وفهمهم لمقام التوبة، نظرة فرحٍ وابتهاجٍ وسرور.

إذن يوم الصلح مع الله وقبول التوبة هو اليوم الأجمل والأعظم، يوم ترجع فيه بعد هجر طويل، وتعود بعد جفاءٍ عبث بالقلب

إذن يوم الصلح مع الله وقبول التوبة هو اليوم الأجمل والأعظم، يوم ترجع فيه بعد هجر طويل، وتعود بعد جفاءٍ عبث بالقلب، تلك المشاعر لا ينبغي لنا تجاهلها، بل إنه يجب الاحتفاء بها، وكتابة المذكرات عنها وتحديث الناس بها -إن أمكن- كما نحدثهم عن انتصاراتنا وأفراحنا الدنيوية، هذا النوع من التفاعل مع مقام التوبة يعيننا على تكثيف الشعور، ويساعدنا على تبادل أحاسيس الفرح مع الخالق، أي فرح؟ 

أعني حديث “اللهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة، فلما وجده قال يارب أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح” أقول؟  لئن كان هو يفرح – فرحاً يليق بأسمائه وصفاته- بعودتنا كل هذا الفرح، فحُقَّ لنا والله أن نطير سعادة بهذا المقام، وأن نتغنى بهذا الرجوع ونطرب.

 ولهذا لا أحب كثيرا تلك الخطب التي تكتفي بالحث على التوبة ووجوبها، وذكر شروط صحتها والتحذير من إهمالها، دون التعريج على هذا الجانب من التفاعل الشعوري، وكلما ازداد إدراك العبد لهذا المعنى من التوبة كلما صار أكثر تشوفاً لها، وشوقاً إليها، لأنه بات يستشعر فرح مولاه بقدومه وعودته، وحينها سيصير يوم توبته عرساً تتراقص فيه فرحاً كل خلية من خلاياه، ويدفعني كل ما سبق لأقول:

إن كثرة التعرض والتفكر بالإنجازات المضيئة والنجاحات اللامعة التي يستعرضها الناس على صفحات التواصل الاجتماعي والتي تتمحور حول الدنيا ومكاسبها المادية، تشوش على المؤمن -لا ريب- سُلّمّ أولوياتِه، وتزين له المفضول الزائل على حساب الفاضل الباقي، وتطمس الإحساس بمشاعر العبودية والاستمتاع بها على الوجه الاكمل، ولذلك لا بد من التعرض مراراً لجرعاتٍ من الخطابات التي تذكي لهيب المشاعر والتي تكتنف العبودية وتعزز قيمة الإنجازات الأخروية في النفس سواءً من خلال القرءان أو السنة أو كتب التزكية أو ربما من خلال سؤال مهم تسأله مذيعة مهمة:) 

أ. أيمن عوض

كاتب مهتم بالفكر والأدب العربي

أ. أيمن عوض

كاتب مهتم بالفكر والأدب العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى