المقالات

الخطة الشخصية بين المثالية والواقع

في اليوم الأخير من كل سنة، وبينما يضج صخب الاحتفالات مدوياً حول العالم، يضج صخب الحسرات في أعماقي، حيث أنزوي وحيداً وأتامل ما قدمت وما أخرت وما ربحت وما خسرت وأحصي الإنجازات التي لم أحققها من الخطة السنوية، تلك الخطة التي نعرفها أنا وأنت جيداً، أرجوك لا تنكر ذلك، لا يمكن أن أكون أنا الكائن الوحيد في هذا الكوكب الذي ينوي في بداية كل سنة تعلم لغةٍ جديدةٍ بطريقة خمس كلماتٍ كل يوم، وأن ينهي كتاب الأغاني بقراءة عشر صفحاتٍ قبل النوم، وخذ السمكة وعلمني الصيد.

أحبُّ أن أقدم كلامي بأبياتٍ للشاعر مريد البرغوثي وهو يتهكم متعجباً من كمال وجمال المحبوبات اللواتي يذكرهم الشعراء ويتغزلون بهنَّ في القصائد إذ يقول :

“من أين يأتي كاتبو قصائد الغزل

بكل “معبوداتهم ” إذن؟

من أيّ كوْكبٍ بَناتُهُ كواكبْ!

فلا هناك مَنْ على خُدودها حَبُّ الشبابِ، صُدفة

أو شَعرها مجعَّدٌ أو سنُّها مكسورْ

ولا هناك من لها وظيفةٌ ولا عملْ

ولا هناك من على عيونها نظَّارةٌ

وليس بينهنَّ واحدة تتابع الأخبارَ أو تُطالع الجرائدْ

الحب في الحياة غير الحب في القصائد 

وعلى هذا أريد أن أنسج فأقول لصانعي المحتوى وجماعة تنظيم الوقت، الذين يُشرِّحون اليوم ويضعون تلك الخطط التي يلتزمون بها ويواظبون عليها بالدقيقة، ومن دون تأخيرٍ ولا ملل، ويستمرون بالإنجاز مثل دقات الساعة: 

من أين يأتي هؤلاء بكل يومياتهم إذن…

فليس من يومٍ يمرُّ مسرعاً… 

أو فجأةً يُدعون دونما علمٍ إلى اجتماع…

ولا هناك مغصُ بطنٍ صدفةً ولا صداع..

والليل عندهم بلا مشاكلٍ يمرُّ أو أرق..

 ولا هناكٌ علةٌ يا صاحبي ولا قلق…

وما هناك خبرٌ منفِّرٌ …أو رجلٌ مربَّعٌ يسدُّ نفسَ المشتهي إذا رآه… 

نعم، أحياناً أضيق ذرعاً بأولئك الذين يتحدثون بتلك المثالية والعزيمة التي تدفع إلى الإحباط والاستسلام أكثر مما تحث على العمل، وأقول لو استطعنا أن نضبط أيامنا بتلك الطريقة المثالية والتحكم بأقدارها، لما احتجنا أصلاً للتخطيط والإنجاز وليذهب اليوم كله إلى الجحيم…

وبعد محاولاتٍ متكررةٍ خلال سنواتٍ مضت، وسماع الكثير من القصص والأخبار المشابهة لحكايتي، بدأت أقتنع أن تلك الطريقة تصلح لبعض الأهداف وخاصةً الأخروية منها التي ينبغي فعلها يومياً، وربما تصلح لفئةٍ من الناس الذي يعيشون في بيئةِ عملٍ تساعدهم، أو يعملون من منازلهم، ولكنها لا تنفع الجميع، بل إن الأغلب لا يقدر على ذلك، ليس كسلاً وحسب، ولكن تأخر ساعةٍ في المواصلات كفيلٌ بأن يخرب خطة اليوم، والانشغال بمرضٍ أو عارضٍ قد ينهي أحلام أسبوعٍ أو أسبوعين، بل إن خبراً محزناً قد يتلقاه المرء كفيلٌ أن يصيبه بخيبةٍ أو حالةٍ نفسيةٍ تخمد جذوة نشاطه أياماً وأيام… 

ومع مرور الأيام تركت سلفي القديم وتطورت…

وابتكرت خطةً جديدةً مغايرةً لخطة “ثلاث كلماتٍ قبل النوم”، خطةً علها تناسب فئة الكادحين أصحاب الأيام العادية، والملولين من أمثالي وألخصها بنقطتين سريعتين: 

أما الأولى فتلك الجملة التي يرددها العلماء والمربون وأصحاب القلوب حين يقولون “التخلية قبل التحلية” ويقصدون بها أن السالك في طريق العبودية ينبغي أولاً أن يُخلِّي النفس مما سوى الله ويطهرَّها مما يعيبها من رذائل الأخلاق والطباع، وبعد ذلك يُحلِّيها بالطاعات والعمل والتفكر الذي يجلو الروح ويسمو بها، ولا فائدة من الثانية قبل الأولى، فالمشغول لا يُشغل، وكذلك الأمر فيما يتعلق ببناء العادات والأهداف والخطط، فتبدأ بتخلية الوقت وتفريغه وتجهيزه للهدف المقصود، فلا تقتنع بمن ينوي مثلاً الالتزام برياضةٍ ما، وهو يعمل عملين يستغرقان وقته، ولا بمن ينوي القراءة أو الكتابة أو تعلم مهارةٍ جديدةٍ دون أن يلغي من حياته أحد مواقع التواصل، أو يتخلى عن بعض السهرات واللقاءات التي تقتات على الأوقات، وما ذلك إلا ليجد الهدف الجديد ذاك مساحةً مناسبةً للولوج في جدول اهتماماته وأعماله، لن يستوعب الوقت هدفاً جديداً مع نفس عدد الأفلام والمسلسلات والأنشطة التي تتم متابعتها،أو مع نفس الالتزمات أياً كانت تكن، لأن الوقت محدودٌ وضيقٌ حقاً، فلا بد قبل كل خطةٍ أو هدفٍ من تخليةٍ صادقةٍ سواءً من الناحية المادية والتي تتمثل بالوقت هنا أو المعنوية واللتي تتجسد بالنفس ورغباتها. 

وأما النقطة الثانية -وهي بيت القصيد- فهي تتعلق بقضية الأيام المثالية التي لا يعكر صفوها مُعكِّر…

وهي عدم وضع أهدافٍ يومية ، وإنما أسبوعيةٍ أو شهرية، وبالرغم أنها لا تصلح في كل شيء ولكن من شأنها أن تخفف الضغط عن اليوم، فأنا على قناعةٍ أن هدفاً مثل: كتابين في الشهر،أو إنهاء تلك الدورة التدريبية خلال هذين الأسبوعين، أكثر عمليةً وواقعيةً من هدفٍ مثل: كل يوم خمسين صفحة، وذلك ببساطة لأننا تعودنا بشكل أو بآخر على مبدأ deadline أو ما يسمى “بزنقة الكلب” أعزك الله، فهي طريقةٌ فعالةٌ ومنجزة، وكلنا نعيش عليها سواءً في الجامعات أو في الشركات، فلا بأس من التعامل بهذه الطريقة مع الخطط السنوية وخاصةً فيما يتعلق بالقراءة والكتابة وحضور بعض الدورات والسلاسل على الانترنت…

 فلا شك أن قراءة عشرين كتاباً في السنة أو ممارسة رياضة ما ست أو سبع مراتٍ في الشهر بشكلٍ غير منظمٍ تماماً، أفضل من برنامجٍ مُبهرٍ من حيث التنظيم والدقة، صعب التنفيذ والتحقيق على أرض الواقع.

أ. أيمن عوض

كاتب مهتم بالفكر والأدب العربي

أ. أيمن عوض

كاتب مهتم بالفكر والأدب العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى