المقالات

القيامة الصغرى

منذ أن دخلت تقنية ال video assistant referee)  var) عالم كرة القدم في عام 2018 اكتسبت اللعبة جانباً درامياً وتشويقياً، وهي ببساطةٍ عبارةٌ عن لجنة تحكيم تشاهد المباراة عبر الشاشات في غرفةٍ خاصة، وعندما تمر حالةٌ تحكيميةٌ مشكوكٌ في أمرها، ينبهون حكم الساحة حتى يذهب ويشاهد الإعادة ويعيد النظر في ملابسات الحادثة، شيءٌ ما يشبه الطعن في الحكم في محاكم الاستئناف..

في ذات يوم حدا بي الملل، وأرخى الكسلُ لنفسي حبل هواها، فوجدتني صدفةً أتابع إحدى المباريات التي انتصر فيها فريق مانشستر يونايتد هذا الموسم:)  

 وأثناء المتابعة استوقفني أحد المشاهد التي حصلت في منطقة جزاء الفريق الخصم، حيث سقط مهاجم اليونايتد هناك، فنفخ الحكم في صفارته، ليقف كل من في الملعب عن الركض، ويغضُّ كل من في المدرجات من أصواتهم، حيث أخذوا يراقبون جميعهم الحكم وهو يركض غاضباً مزمجراً بشرطه القصير الذي أضاع هيبته المفترضةَ كقاضٍ في هذا الميدان الكبير أمام الآلاف المتحمسة.. 

ذهب بكل ثقةٕ إلى مهاجم اليونايتد، فوبَّخه ثم أشهَر في وجههِ كرتاً أصفراً إنذاراً له بسبب التمثيل ومحاولة الخداع وهنا بدأت الدراما، حيث تلقى مكالمةً من غرفة ال var بأن هناك ريبةً تشوب مسرح الجريمة وأن في هذا الأمر إنَّ، فامتطى صهوة همته وركض نحو الشاشة، أعاد المشهدَ ببطءٍ، دقق فيه، أعاده من زاويةٕ أخرى، دقق فيه أكثر، فحُبستْ أنفاسُ الجمهور وهم يرون ما يراه الحكمُ مباشرةً على شاشةٍ كبيرةٍ في الملعب، وكان المخرجُ -بحركةٍ لا تخلو من مكرٍ ودهاء- يُثبِّتُ إحدى الكاميرات على وجه المدافع المتهم من الفريق الثاني، لقد كان هناك خوفٌ واضحٌ في عينيه رغم محاولته إخفاءَه، وكلما دقق الحكم في المشهد ازداد القلق في وجهه.

لقد كان المدافع مبتدئاً يخاف جداً من أن يتسبب لقومه بهذه الفضيحة المسماة بركلة الجزاء، وكيف لا تكون فضيحة؟! وفيها يُمنع الفريق بأكمله – ما عدا الحارس- من الدفاع عن مرماه والذود عن عرينه، بل ويترك أرضه عنوةً، بينما يبقى مهاجم الفريق الآخر وجهاً لوجهٍ أمام المرمى ليركل الكرة أنى شاء،  هي شيءٌ يشبه قصاص أهل المقتول من قاتلهم إلا أنه لا مكان للعفو هنا… وبعد انتهاء التمحيص عاد الحكم إلى موقع الجريمة، فاعتذر عن كرته الأصفر الأول، ثم أشار إلى نقطة ركلة الجزاء مع توجيه كرتٍ أصفرٍ آخرَ للمدافع الذي عرقل المهاجم المظلوم. 

لم أرَ من قبل لاعباً حزن لهذه الدرجة، لقد كان يهزُّ رأسه وأماراتُ الندم والبؤس على محيَّاهُ محاولاً إقناع أي أحدٍ أنه ليس مذنباً… يودُّ لو أنه ما تجرأ على ذلك الفعل، وربما تمنى لو أنه لم يحضر الملعب اليوم أساساً.

استعد المهاجم لتنفيذ الركلة، تقدم، سدد، وسجلها، ولكن المخرج استمر في خباثته وبدل أن يعرض احتفال اللاعبين، ركز الكاميرا على وجه المدافع، لقد كان متحسراً أكثر مما ينبغي، ركض إلى الحكم، حاول استعطافه، ولكن الأخير أومأ برأسه أن لا تحاول فقد فضحتك الكاميرات يا فتى، وإن الحق هنا  لأبلج وسيف الثبوت فيه أقطع من دروع الشبهات، ثم مضوا جميعاً مُكملين لعبتهم بعد ما تركوا فريقاً من الأفكار يسرح ويمرح في رأسي.

 شاهدت الكثير من مشاهد ال var المشابهة من قبل، ولكن هذا المدافع كانت مشاعره وردات فعله بِدائيةً غير مُروَّضة، فتأثرت بالموقف وعلق في ذهني، وشعرت بشيء من الحزن لما أصاب المدافع، ولكن كان هناك نوع من الفرح الطبيعي يسري في داخلي، ربما فرحُ تحققِ العدالة، وانتصار المظلوم بعد أن تفرَّج قرابة ٦٠ ألفا عليه وهو يُتهم عدواناً، ثم بعد ذلك انقلاب المشهد بأكمله بعد أقل من دقيقة، وهتاف الجمهور بحماسةٍ عظيمةٍ تقديراً لهذه العدالة التي ألهمتني ثلاث وقفات: 

الأولى، هي جبروت الإنسان، فهذه والله قيامة صغرى، يُقتص فيها من الظالم للمظلوم، هذا الإنسان  ناقص العلم والقوة، محدود العقل والسطوة، استطاع بأن يقيم قيامة اللاعب على رؤوس الأشهاد، وينصف المظلوم بطريقةٍ دراميةٍ مصورةٍ وبشكلٍ مباشر، أيُّ قوةٍ بات يمتلكها الإنسان ليعيد اللحظة بهذه الدقة ويعاقب المخطئ!!

 لقد أنعشت هذه الجبروت البشرية المراقبة الذاتية في نفوس اللاعبين فصاروا أكثر انضباطاً وأشد حذراً، فقد بات هناك رقيبٌ يدقق في كل حركةٍ من حركاتهم، فلن يجرؤ أحدٌ على الخطأ كما كان يفعل من قبل، فالحَكَم قد اكتسب عدالةً فوق عدالته الأولى، عدالةً تكاد تكون مطلقة، ولم يعد عقلاً واحداً بل صاروا خمسة عقولٍ تفكر وتتناقش فيما بينها، وبهذه الأدوات البسيطة والتدقيق ارتفعت سوية استشعار المراقبة والمحاسبة لدى اللاعبين، فكيف بنا مع رقيبٍ أدق إحصاءً وأشد عقاباً وأعظم جنداً!!

الثانية: هي ضعف الإنسان، فإنه بعد كل هذه التدبيرات والإمكانيات، ورغم كل هذه الدقة والعقول المجتمعة، لم يستطع الوصول إلى العدالة المطلقة، وما زالت فضائح التحكيم تملأ صفحات الأخبار في الدوري الإنجليزي وفي غيره، فإنهم ما زالوا يخطئون وبغباءٍ مزعجٍ في بعض الأحيان.

 لم يستطيعوا بلوغ الكمال في العدالة، وذلك لأنهم لن يعرفوا خفايا النفوس، وأنى لهم أن يعرفوا هل نوى اللاعب حقاً ما أظهرته الكاميرات أما لا؟! 

 فهم ما زالوا مشتغلين بالظاهر وبما تتيحه لهم الكاميرات، ثم إن الحَكَمَ مهما بلغت عدالته وحنكته ما زال من جنس البشر -وكفى به عيبا- فهو لا يملك ضبط مشاعره دائماً، فربما مال للاعب دون آخر أو فريقٍ دون خصمه، وربما تدفعه إنسانيته الناقصة – وخاصةً إذا ما مُزِجَت مع غرورِ خبرتِه الطويلة- لتوهم الكمال بحكمه الأول واستثقال عبء الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه.

فهو عدل رباني قديم وليس بعدلٍ بشريٍّ تمتد أمواج بحره وتجزر بألوان النواقص، ثم إن لك أن تتخيل كيف ستصبح عدالة الميزان الذري عندما يكون القائم عليه ربٌّ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

وأما الثالثة فأقول فيها : 

ربما يساعد المعنيان السابقان في فهمٍ أعمقٍ للآيات التي تذكر ميزان يوم القيامة الذي يستطيع وزن الذرة وتقديرها، ولطالما كنت أقول نعم، هو ميزان دقيقٌ ولكن لم التكرارُ والتأكيدُ على  أنه سوف يكون بالذرة، ولمَ يطمئننا الله تكراراً أنْ لا ظلمَ أبداً هناك، قلت ربما لنتيقن أنه عدلٌ مطلقٌ لا يشبه هذا العدل البشري المتصور في أذهاننا…

 فهو عدل رباني قديم وليس بعدلٍ بشريٍّ تمتد أمواج بحره وتجزر بألوان النواقص، ثم إن لك أن تتخيل كيف ستصبح عدالة الميزان الذري عندما يكون القائم عليه ربٌّ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

فوالله إنهم لمحاسبون، وهذا الظلم الذي يعصر قلوبنا مؤقتٌ زائلٌ ستتبعه قيامةٌ كبرى ممحصة، وهذه المجازرُ مسبوقة الدفع، ولكن علينا -حسبُ- أن نستشعر كل لحظةٍ أن هناك ميزان ذريٌ ينتظر الظالمين كما اسشتعر اللاعبون وجوده في لعبتهم، وأن نطمئنَّ على الأقل كما اطمأنوا، فهذه الحياة كتلك المباراة… لعبة… إلا أنها أطول أمداً وأكثر واقعيةً، وأحسن من كل هذا قول ربي: (وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ ٱلْءَاخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)

أ. أيمن عوض

كاتب مهتم بالفكر والأدب العربي

أ. أيمن عوض

كاتب مهتم بالفكر والأدب العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى