أفكار الكبارالمقالات

الإسلام والاستبداد السياسي

ليس من العسير أن نقبح الاستبداد ونكتب عنه ما نشاء ونحن في مأمن منه، لا تطالنا أدواته ولا نتوقع شره. لكنّ العسير هو الوقوف في وجهه والصدع بالحق مع إدراك مغبّة الأمر. وهكذا فعل الغزالي، فقد بدأ بإصدار كتابه (الإسلام والاستبداد السياسي) بعد خروجه من معتقل الطور عام 1949 وكان بطش الطاغية على أشده، يكم الأفواه ويعدم الأقلام الحرة. فلم تثبطه مدة بقائه في السجن ولم تنل من جرأته في مناهضة الاستبداد الطاغي الجائر. وليس كتابه هذا لفئة دون فئة أو نظام دون آخر، إنه لكل العصور وكل الأنظمة، كما ينبهنا هو نفسه لذلك.

يقودنا الغزالي عبر صفحات كتابه لندرك طبائع الاستبداد التي وضحها الكواكبي من قبله، وندرك طبيعة الحكم في الإسلام وعلاجه قضية الاستبداد، وما يقع على الفرد والأمة من مسؤوليات. لنقف على السؤال الأهم الذي تجدّد في عصرنا إبان الثورات العديدة التي خرجت في وجه الاستبداد والظلم، السؤال الذي ما زال يؤرق طائفةً واسعةً من المجتمع: ألم يكن السكوت هو الأجدى؟

والآن وقد استمر الاستبداد فهل نسكت كي لا نهلك؟ وهل أخطأ من رفع عقيرته في وجه المستبد، إذ عمّ الخراب أصقاع البلاد؟

والأجوبة من كتاب الغزالي تنهمر علينا كالغيث بعد أن يمهد بعرض الكثير من الشواهد التاريخية ومآلاتها، ليبين لنا نظرة الإسلام في هذه القضية.

الإسلام والاستبداد، هل يلتقيان؟

لقد صان الإسلامُ الحريةَ العقلية وعدّها ركنًا في الدعوة إلى الله وصحة العمل الإنساني، وتجد ذلك في عموم سور القرآن الكريم وهو يدعو إلى معرفة الله عن طريق العقل والتدبر، كما يدعو الناس إلى عبادة ربهم وحده ونبذ مراسيم الاستبداد التي تدعوهم إلى وثنيةٍ عمياء. كما حارب الإسلامُ الذي جاء به الأنبياء والمرسلون الاستبدادَ السياسي الذي أضلّ الجماهير المستضعفة عبر العصور، وأبقى طابع الفساد والغطرسة على القرى التي امتلكها. وبين لنا القرآن الكريم مصير المستبدين الطغاة في الآية الكريمة ﴿فكلا أخذنا بذنبه ۖ فمنهم من أرسلنا عليه حاصبًا ومنهم من أخذته الصيحةُ ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا ۚ وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾[1]

فاستوى في العذاب السادة والأذناب المتخاذلون، وتلك شرعة الله العادلة في العقاب.

وما انفكت الرسالة الخاتمة تجتث شأفة الاستبداد المتجذر في النفوس لتحرر الناس لعبادة خالقهم، بل ودعوتهم إلى مناهضة الاستبداد في كل حين.

 «لا أعرف دينًا صبّ على المستبدين سوط عذاب، وأسقط اعتبارهم، وأغرى الجماهير بمناوأتهم، والانتفاض عليهم كالإسلام. ولا أعرف مصلحًا أدب رؤساء الدول، وكبح جماحهم وقمع وساوس الكبرياء والاشتهاء في نفوسهم، كما فعل ذلك نبي الإسلام. لقد كسر القيود وحرر العبيد، ووضع التعاليم التي تجعل الحاكم يتحرى العدل، والمحكوم يكره الضيم»

ويرى الغزالي أن الاستبداد السياسي الذي وقعت فيه الشعوب المسلمة لاحقًا ليس مرده أن الإسلام تنقصه عناصر معينة، بل لأن الناس خالفوا الإسلام، ويرى أن الدواء الناجع للخلاص من الاستبداد ليس بعيدًا، بل هو في متناول أيدينا. يكفي أن ننظف العالم الإسلامي من الغرور والغش والادعاء والسرقة والنهب والاستعلاء حتى نجتث شأفة الاستبداد من جذورها لتعود الأمة إلى سابق عهدها وتنهج النمط الإسلامي في الحكم.

صفات الحكم والحاكم في الإسلام

يلقي الغزالي الضوء على فترة الرسالة وفترة الخلافة الراشدة ليستنبط الصفات العامة التي يجب أن يتحلى بها الحاكم ويصطبغ بها الحكم في دولة الإسلام كما يلي:

  1. يُختار الحاكم من صميم الأمة، ترشحه كفايته وثقة جمهوره فحسب.
  2. يعرف جمهور المسلمين أنه مصدر السلطة وأنّ الحاكم أجيرٌ عنده لعمل معين.
  3. يتميز الحاكم بعلمه وفقهه وورعه.
  4. المال العام ملك للأمة.
  5. الحاكم (الدولة) مسؤول عن تلبية حاجات الناس الأساسية.
  6. لا فوارق بين الأجناس.
  7. المساواة في الحقوق والواجبات والمغارم والمغانم.

كما يوضح المبادئ التي تضمن الحقوق الخاصة والعامة في الدولة، والتي من شأنها سدّ المنافذ على نمو أي نوع من أنواع الاستبداد:

  1. كفّ يد الظالم.
  2. استنهاض المظلوم ليدفع عن نفسه.
  3. مطالبة الغير بالتدخل لصد العدوان ورفع الغبن.

ويستند نظام الحكم في الإسلام على مبدأ ذي أهمية بالغة لا يمكن تجاوزه أو تعطيله بحالٍ من الأحوال. وهو مبدأ الشورى الذي يقطع على الاستبداد أي سبيل يسلكه، ويحمي الدولة من تسلط الفرد مهما كانت مؤهلاته، فما هي طبيعة الشورى؟ وكيف ركّز الإسلام أوتادها في الحكم؟

فوجب التفريق بين الرأي وبين الوحي في سياق مفهوم الشورى، فلا شورى مع النص.

بين الشورى والاستبداد

إذا كان الاستبداد هو احتكار الرأي في شخص المستبد فلا قداسة لرأي في الإسلام، ولم تكن هناك قداسة لرأي الرسول ﷺ نفسه، والشاهد على ذلك مواقف عديدة يذكرها الغزالي مثل (إغراء الرسول بعض القبائل بفك الحصار عن المدينة لقاء جُعل من ثمارها في حين يرى سعد بن معاذ رأيًا آخر بعد أن علم من الرسول أنه رأي وليس بوحي، فتراه يقول: لا نعطيهم إلا السيف).

وفي بدر في اختيار موضع اللقاء، وفي الخندق، وفي أحد، وفي مواقف كثيرة جلية في السيرة النبوية تجد أن لا قداسة لرأي. وإنما هي الشورى والأخذ برأي الأخبر في شؤون لم يتدخل فيها الوحي.

وهل فرضَ الرسولُ رأيه في صلح الحديبية؟

يرى الغزالي أنه من الخلط أن يُستشهد بأحداث الحديبية شاهدًا على أنّ الرسول قد أخذ برأيه مخالفًا رأي الصحابة، فالأمر هنا قد خرج عن دائرة الشورى إلى أمر الوحي (إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري)

فوجب التفريق بين الرأي وبين الوحي في سياق مفهوم الشورى، فلا شورى مع النص.

فما هي طبيعة الشورى؟

كان النبي ﷺ يستشير أصحابه في أمور دنيوية غير دينية تتفاوت فيها العقول والمدارك، أما ما جاء به الوحي فلا مجال لرأي ولا ساحة لشورى. وكذلك لا مكان للشورى في:

  • حقائق العلوم، فهي في الغالب فرضيات متقلبة مع الزمن.
  • قواعد الدين، فما قال فيه الوحي كلمته وجب قبوله.

وتكون الشورى في الشؤون التي يصح للجماعة أن تختار ما تميل إليه، أي مجال الاجتهاد العام.

وأخطأ من وهم أنّ الشورى غير ملزمة، مستشهدًا بموقف أبي بكر في حروب الردّة واعتراض بعض الصحابة على قتل من نطق بالشهادتين، لكن اعتراض الصحابة كان من باب الاستفهام، وقد سبقهم أبو بكر في العلم، مثل اعتراض عمر على نبأ وفاة الرسول، فها هو أبو بكر يقنعه أنّ الرسول بشر وأنه مات. كذلك اقتنع الصحابة بموقفه في حروب الردة وأيدوه ومضوا معه.

وتتجلى مواقف مشرقة ومشرفة في فترة الخلافة الراشدة كأروع نموذج حضاري ظهر على وجه الأرض تأخذ فيه الشورى موضعًا رفيعًا فتعطي لكل ذي رأي حقه في الإدلاء به، ولا يعبّر عن ذلك إلا ما قاله أبو بكر رضي الله عنه: (يا أيُّها الناس، قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حقٍّ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدِّدوني. أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإذا عصيتُه فلا طاعة لي عليكم). وما قاله عمر رضي الله عنه:(إنْ أحسنت فأعينوني، وإنْ أسأت فقوموني).

فما إن تعطلت الشورى حتى تسلّق المستبد على أكتاف الشعوب وأعناقها ليضع عرشه فوق رؤوسهم ويحكمهم بجبروته وسلطانه، فتعمق الفجوة بين الحاكم والمحكوم في البلاد التي ما برحت تئن من ضراوة الأعداء! لتئن تحت وطأة الحكام المستبدين. فيرضخ المظلوم ويقنع بالظلم وينفض الآخرون أيديهم عن النصرة والنصيحة، مفسحين المجال للاستبداد أن يسود.

الاستبداد حين يسود

عندما يسود الاستبداد فإنه لا يحرم الشعوبَ حريتها فحسب؛ بل يحرص على إبقائها جاهلةً متأخرة عن قافلة الحضارة، يسدّ عليها أبواب المعرفة ويمنعها حتى من التفكير، ويصفُ الغزالي -وهو يعايش فترة عصيبة طغى فيها الاستبداد- الحال قائلًا:

«ومظاهر الحكم القائمة في الشرق الإسلامي تتجلى في ضعفه إذْ لا هو يحكم بما أنزل الله، ولا هو يحكم بما أراد لنفسه، وإنما تستبد بشؤونه عصابات من المرتزقة اخترقت أكل الناس». ولا يطلب الغزالي ولا يأمل أن يسير الحكام اليوم سيرة الأنبياء والصحابة في التقشف والزهد، بل يطلب منهم أن يسدّدوا ويقاربوا، وينهاهم أن يسيروا سيرة الأنذال. وحين يقارن بين من أعطوا أنفسهم حقّ التسلّط وفرضوا آراءهم في أوروبا من أمثال (موسوليني، هيتلر، ستالين …) وكيف كانت عاقبتهم وخيمةً، وبين الزعماء الصور الذين لا تجد لهم رأيًا حتى، يتسلطون في أمم واهنة متهالكة، فلا يسعه إلا أن يشببهم بالأطفال العابثين إذا ما قيسوا بهؤلاء الزعماء المهزومين.

والشكوى ليست من الاستبداد فحسب، بل تتعداه إلى من يمهّد له الطريق باسم الدين، فيسوغ ويفتي حتى يجعل للاستبداد قداسةً ويلبسها لبوسًا من جبروت الله.

«ونحن في أيامنا هذه لا نشكو فحسب من الشياطين الخرس التي تعرف الحق وتكتمه، بل نشكو من أنّ الولاة الفجرة في بلاد الإسلام يجدون من يعين على الشعوب معهم ومن يضعون الفتاوى المكذوبة لتسويغ مآثمهم، والدين وحده ضحية هذا الفجور»

ويتألم الغزالي من هذا النوع من الاستبداد الذي يمارس باسم الدين ويعتبره أشدَّ خطرًا، إذ من شأنه صرف الناس عن دين الله، وتحويل الطائفة المخولة بمناوأة المستبد إلى أزر له وسند.

ويذكر في كتابه عدة خصائص تميز الاستبداد في كل حالاته وهي:

  1. التكبر والتجبر والتسلط، يكتسبها المستبد شيئًا فشيئًا حين تمهد أمامه السبل.
  2. الرياء بين السادة والأتباع، وتبدأ هنا مظاهر مراءاة الحكام والتزلف لهم، حتى تتم صناعة رجال دين لا يلقون بحكمهم وفتاواهم إلا عند رغبات السلطان.

«عندما تفسد الدولة بالاستبداد، وعندما تفسد الأمة بالاستعباد يعتبر الرياء هو العملة السائدة، وقاعدة تقرير الأمجاد لطلاب المجد الكاذب وتقريب المنفعة لطلاب المنفعة الزائفة الزائلة وهو حينئذ خلق السادة والعبيد»

  • التبذير من أقوات الشعب على شخص الفرد الحاكم والدوائر المحيطة به، فالاستبداد السياسي يعتبر المال العام خاصًا به، ملكًا له ولحاشيته، فرَيع المصانع له، وثروات الأرض من نفط ومعادن وسواها له.
  • كره حرية النقد والتوجيه، فالحاكم المستبد يخشى من الحرية على كيانه فيقوم بحظرها، ويكم الأفواه حتى لا تنطق إلا بمديحه والثناء عليه.

والاستبداد درجات، يقوى حين تلين أمامه شوكة الشعب، وتمهد أمامه السبل وتخفض في حضرته الأصوات وتسكت عن رده، حتى نكاد نميز بين ثلاثة أصناف تتفاوت في جبروتها وطغيانها:

  1. صنف اكتفى بالسلطة والجبروت، وتركَ الناس وشأنهم – دينيًا واجتماعيًا- طالما لا يهددون سلطانه.
  2. صنف تعاون مع أعداء الأمة حفاظًا على سلطانه، فكان عين العدو على شعبه، وآلته في إضعاف شوكة المسلمين.
  3. صنف أخذ مكان العدو في النيل من شعبه وإبعاده عن دين الله بشكل مباشر أو غير مباشر. يقول الغزالي في هذا الصنف: «وإذا لم يقدر الحاكم أن يسير سيرة الأمجاد قرر أن يسير سيرة الأنذال؟»

(ألا إنّ رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الإسلام حيث دار)  

(ألا إن القرآن والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب)

كيف يُواجَه المستبد في الإسلام؟

لما كان الفسادُ داءً خبيثًا لا يقتصر شرّه على صاحبه، بل يتعدّاه إلى كيان الأمة كلها وجب على المسلم أن ينتصر للحق وينشره، ويقف في وجه الظلم ويردعه، فالمسلم مكلفٌ بترك الشر والمعاصي، ومحوها كذلك في مجتمعه، لأن رسالته تتجاوز حدوده الشخصية لتشمل الأمة كلها، وهذا من أصول خلافته على الأرض بهدف العمران بقيم الإصلاح، حتى لا يمرح الفاسدون ولا يهنؤوا بالخراب الذي يبنون عليه أمجادهم. «المسلم رقيبٌ على دينه في مجتمعه كما هو رقيب عليه في نفسه» لقد عالج الإسلام موضوع الاستبداد بأنواعه، وحرر الإنسان من قيوده وعرّفه بنفسه وواجباته. فأوجب على كلّ فرد أن ينتقد الخطأ وأن يوجّه إلى الخير، وهذه هي خصائص الأمة المسلمة التي أُخرجت للناس، وبتلك الصفات حازت مرتبة الخيرية ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وتؤمنون بالله﴾[2]

«فهذه الأمةُ لا تنال نصرًا ولا تستحق في الأرض تمكينًا إلا إذا احتفظت بهذه الخصائص الجليلة داخليًا وخارجيًا»

﴿ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ﴾[3]

فإن فرطت الأمة بهذه الشعائر فلا جرم أنها تُحرم من رعاية الله، وتنتزع منها الخيرية، وينتزع منها التمكين.

والآيةُ الكريمة كما يراها الغزالي توجب المجاهرة بالإصلاح، وعدم الرضوخ والسكوت، بدءًا من المناصحة وانتهاءً بالردع والرفض والمقاطعة. أما السير في ركاب الفاسدين المستبدين وموالاتهم على خبثهم فقد عدّته الآية الكريمة فسقًا. فكيف بمن يتملقون المجرمين ويسترون مخازيهم؟

ويأتي الغزالي ليستنبط سلوك المؤمن حيال الظلم الذي يحيق به، والعلة الوحيدة من وراء هذا الظلم هو إيمانه بالله تعالى

﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾[4]

فهل يواجه هذا الظلم بالقبول والرضوخ والسكوت؟

يقول الغزالي: إن نهاية السكوت وخيمة، فالسكوت يدمر المؤمنين ويدمر رسالتهم معهم. والآية الكريمة التالية ترسم أمامهم منافذ الخلاص التي يتوجب عليهم سلوكها دفعًا للظلم:

﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[5]

لقد بين الله تعالى أنّ هذه المواجهة حتمية لحفظ كل دين سبق ونصره أنبياؤه جميعًا.

 والغزالي متيقن أنّ صرخات الحرية ليس بالضرورة أن تأتي بنتيجة عاجلة، بل إنه ينبه إلى مآلات أخرى قاسية لهذه الصرخات «إنّ أعراس الحرية كثيرًا ما تحولت إلى مآتم يحفها السواد الكئيب، وتلهث فيه الجماهير الشقية، وتستباح فيها الدماء والأعراض»

نعم إن مواجهة الطغاة المستبدين مكلفة، وهو نوعٌ من الجهاد، الذي يعلم المؤمن حصيلته، فإنه في الدنيا يقوم بدوره في إحقاق الحق وردع الظلم، واضعًا في حسبانه أنه قد يقتل دون ذلك، ويعلم وعد الله تعالى لمن يقتل في سبيله.

«إنّ دين الله إن حاف عليه الولاة الطاغون فيجب أن ينتصب له في كل زمان ومكان من يذودون عنه ويصونون شريعته، ولو تحملوا في ذلك الويل والثبور، وقد بين الرسول الكريم أنّ الحكم من بعده ستعتريه أطوار شتى وسيدخل من أهواء الحكام في مثل ما يدخل البدر عندما تغطى صفحته الغيوم والسحب فقال:

(ألا إنّ رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الإسلام حيث دار)  

(ألا إن القرآن والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب)

(ألا إنه سيكون عليكم أمراء مضلون، يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، إن أطعتموهم أضلوكم، وإن عصيتموهم قتلوكم، قالوا: وما نصنع يا رسول الله؟ قال: كما صنع أصحاب عيسى، نشروا المناشير وحملوا على الخشب، والذي نفسي بيده لموتٌ في طاعة الله، خيرٌ من حياة في معصية الله).

  • قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

يرى الغزالي أنّ مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أقرّه الإسلام هو ركيزة التمرد على المظالم والثورة على الفسوق، ويفسح المجال أمام الناس كافة لأن يصدعوا بالحق، وأن يصدعوا به رأس كل جبار عنيد.

إنه المبدأ الذي تتمثل فيه الحرية بأوسع مداها وأنبل غاياتها. هذا المبدأ هو صيانة للجماعة من تطرق العبث والفوضى إلى نواحيها ودفع للنهوض، وإثبات لمشاعر التراحم والتآخي والتواصي بالحق بين الإخوة.

﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[6]

فالمؤمنون لا يكتفون بإصلاح أنفسهم وإنما يدعون إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ويتواصون بالحق فيما بينهم، فتلك هي رسالتهم، وذلك هو واجبهم.

وفي المقابل، حين تكون المواجهة مع المستبد الظالم الذي يُنتظر منه السوء بأفظع أشكاله، كيف يكون أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وقد أيس الناس منه؟ أليس السكوت أجدى؟

والجواب في هذه الآيات البينات:

﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ۝ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ۝ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ۝ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾[7]

إنّ السكوتَ على المنكر أمرٌ بالغُ الخطورة يقود المجتمع إلى الهاوية، حيث إن استنكار الفظائع والمظالم والمفاسد في الإسلام قتلٌ للإثم في مهده قبل أن يستفحل، أما التفريط في هذا المبدأ فلا شك أنه يودي للأسوأ.

  • قاعدة التناصر في وجه الظالم

التناصر يحمي المظلوم من بطش الظالم، ويحمي الظالم من مغبة ظلمة وعاقبة أمره، ووفقًا لهذا المبدأ لا يجوز أن يبقى المظلوم وحيدًا في وجه الظالم، يلتفت إلى الأعوان فلا يجد صريخًا (فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله)

فكلُّ مسلم ملزمٌ بمظاهرة أخيه وشد أزره، فإن كان مظلومًا قاتل معه جنبًا إلى جنب، وإن كان ظالمًا ردّه حتى لا يقع في القصاص (أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا..). وملزمٌ بالنهي عن المنكر وتغييره بيده أو بلسانه أو بقلبه (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)

إنّ الحديث يغلق على المؤمن منافذَ العجز، ويفتح أمامه سبل التغيير والإصلاح، حتى إذا لم يقوَ على إنكار المنكر وتغييره بيده أو لسانه غيّره بقلبه. ويتجلى ذلك في مقاطعة المجرمين وكره أمثالهم، وعدم الاصطفاف في صفهم، أضعف الإيمان ألا يكون عونًا لهم.

إذا تأملنا اليوم في واقعنا لوجدنا مساحة كبيرة نستطيع التحرك فيها من أجل التغيير، حتى لو كان بقلبنا، فمقاطعة المجرمين – بكل سبل المقاطعة- تؤتي أكلها أولًا في نفوسنا إذ نستشعر بمبادئنا الثابتة وندرك عمليًا اصطفافنا إلى جهة الحق، كما توجع المجرمين وتدك ضمائرهم إن كانت لهم ضمائر.

 إنّ قول الحق وغرسه في المجتمع إحدى أهم مهام الدعاة والمصلحين، حتى لو كان الحاكم مستبدًا، فمبدأ التناصر ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعطَّل هنا، وهما من أهم المبادئ التي تقف في وجه المستبد، والسكوت عن استبداده هو مجلبة الهوان والهزيمة، وقد أدرك المستبدُّ أنّ كم الأفواه وإعدام الأقلام الحرة هو السبيل لدوام طغيانه، بل لقد تخطى ذلك إلى استغلال الدين ورجالاته ليمهدوا له السبيل ويسوغوا له التسلط والرياسة واستعباد الناس الذين خلقهم الله أحرارًا ليعمروا الأرض وينشروا فيها الصلاح. وقد بعث الله الأنبياء والمرسلين ليحرروا الإنسان من قيود المستبد ويوجهوه إلى عبادة الخالق الأحد، وبينت الرسالات سبل مواجهة المستبد، كما ضرب الإسلام أروع الأمثلة في نموذج الحكم بما أنزل الله تعالى، النموذج الذي يتضاد تمامًا مع الاستبداد، ويبنى الحكم على مبدأ الشورى، ويكون الحاكم فيه أجيرًا عند الأمة. إنه النموذج الذي لا يدَعُ مجالًا حتى لأن نسأل: هل نسكت؟


[1]  العنكبوت (40)

[2]  آل عمران (110)

[3]  الحج (41)

[4]  الحج (39)

[5]  الحج (40)

[6]  سورة العصر

[7]  المائدة (78-81)

أ. عماد كوسا

كاتب روائي وقصصي وناشط في مجال العمل الشبابي والمجتمعي.

أ. عماد كوسا

كاتب روائي وقصصي وناشط في مجال العمل الشبابي والمجتمعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى