علم النفس السياسي عندما يكون أداة لنهوض الأمة (2)
في المقال السابق تم التقديم لمفهوم علم النفس السياسي وكيف يمكن أن يكون أداة لدى المفكرين والمهتمين بقضايا النهوض الحضاري في الأمة، وفي هذا المقال عطف على بدأ:
خصائص علم النفس السياسي النهضوي
يشار إلى أن علم النفس السياسي يقسم إلى محورين أساسيين المحور الأول هو الجانب النظري منه وهو على أهميته لكن المحور الثاني وهو المحور التطبيقي هو المحور الذي يشكل التحدي الحقيقي أمام علم النفس السياسي باعتبار أن هذا العلم لايزال حديثاً جداً حتى قياساً بالعلوم النفسية الأخرى.
عندما نتحدث عن كونه أداة وأداة مهمة في مشروع النهضة فهذا يعني أنك تريد تطبيقاته الواقعية التي يمكن أن تساعد العاملين في مجال نهضة الأمة على تطوير أدواتهم وتحسين جودة أدائهم السياسي بشكل خاص ضمن مسارات النهضة، بل وتطوير الرؤية المعرفية والسلوكية والأخلاقية لكل أبعاد النهضة.
ومما لا يجب أن يفوّت على أحد أن هذه الخاصية أي أنه علم تطبيقي فهو بالضرورة يعني أنه وعاء للأفكار والرؤى الإسلامية في مجال النهضة، وبالتالي لا داعي لأحد أن يثير حوار غير متوازن إن كان هذا النوع من التوجهات هو في حالة تصادم أو توافق مع الفكر الإسلامي لأنه لا يحل محل الفكر، بل هو وعاء للفكر، وأن الفكر الإسلامي والمفاهيم الإسلامية والنصوص الإسلامية هي المرجعية وما هذا العلم إلا وعاء يساعد على تحسين جودة عرض وتقديم هذه المفاهيم والأفكار الإسلامية.
بالمقابل يمكن لفت الانتباه أنه باعتبار أن هذا العلم لايزال حديثاً فإنه يعاني مما تعاني منه العلوم النفسية من غلبة المنهج الغربي عليه غير أن موجة تنقية وتأصيل العلوم النفسية بما يتوافق مع المرجعية الشرعية تجتاح هذا العلم كما تجتاح العلوم النفسية الأخرى وهذا ما جعلنا نعجّل إلى الاستفادة والاستثمار فيه.
من المعلوم أن العملية السياسية والجوانب النفسية من الظواهر المعقدة أصلاً، تمثل تحدياً للعلوم الإنسانية، وهذا ما يجعل العلوم السياسية والنفسية من العلوم التي تواجه تحدياً كبيراً في التوقع والتنبؤ بالأحداث والظواهر السياسية والمسارات التي سيأخذها كل حدث و مآلاته، ولذلك لا يزال يبدو التحليل السياسي والاستراتيجي للأحداث السياسية مثل الضرب بالمندل في بعض الأحيان، وفي أفضل الحالات فهو إعادة قراءة للأخبار والمعلومات المتاحة أكثر منه قدرة على التنبؤ والتوقع، وما ذلك إلا لأن الظاهرة السياسية والاجتماعية والنفسية هي ظواهر لا حصر للعوامل المتدخلة بها في مساراتها وتحولاته، فمن الصعب أن تتنبأ أو تتوقع كيف سيكون سلوك أو مشاعر شخص أو مجموعة أشخاص، تجاه موقف ما أو حدث ما، إلا أنه بالمقابل يساعد على وضع توقعات وتصورات وعلى فهم مسارات محتملة للأحداث والمواقف.
إننا نؤمن أنه من خلال تكامل الأدوات العلمية مع النصوص الشرعية الثابتة، فإن ذلك يحقق تكاملا يدفع إلى قيادة مسارات نهضة للأمة إذا ما توافر لها الفهم العميق والهمّة العالية والتدقيق المنهجي المنضبط.
اسهامات علم النفس السياسي في نهوض الأمة
مما سبق نفهم أهمية وفعالية استثمار هذا العلم في أي محاولة لأي أمة تريد النهوض عبر قدرات الإنسان فيها، من خلال أساليب وتقنيات هذا العلم في الاتجاهات العامة الآتية.
- المساعدة في تحسين مستوى الإقناع والتحشيد الجماهيري.
- القدرة على تحسين الممارسات السياسية والنهضوية والتخطيط والصمود والتنبؤ أمام التحديات والأحداث والأزمات.
- تحديد الأدوار للمؤثرين والفاعلين والأفراد العاديين خلال مسارات النهضة ومواجهة التحديات.
ولذا فإن المجالات التي يركز عليها علم النفس السياسي متنوعة لدرجة أن حصرها في مجالات محددة يعتبر تقييداً وتضييقاً على هذا العلم الواعد، ومن الملاحظ أن المجالات والموضوعات التي تشملها الدراسات والأبحاث في علم النفس السياسي في حالة تزايد وتصاعد، ولكن المجالات التي تنتشر الأبحاث الحالية حولها هي ما يلي:
بناء الهوية والقيم الفاعلة في عملية النهوض: إن التحدي الكبير الذي لا يزال عقبة أمام الكثير من جهود علماء النفس هي صياغة رؤية واقعية وعملية للإنسان القادر على حمل مسؤوليات اجتماعية وتحمل قيم إنسانية حقيقية وصادقة، بمعنى صياغة إنسان متميز وفاعل وقادر على تحمل أعباء النهضة بالمجتمع، لكن لاتزال الدراسات والأبحاث في هذا المجال تتقدم، والمستقبل واعد جداً إن شاء الله.
بعض القيم التي نحتاج إلى دراستها بأدوات علم النفس السياسي:
الدافعية والتحفيز نحو نهضة الأمة
الصلابة النفسية للعاملين
الصبر الاستراتيجي للبناء على التراكمات
ومن المهم الإشارة إلى بعض القيم التي نحتاج إلى دراستها بأدوات علم النفس السياسي هي الدافعية والتحفز نحو نهضة الأمة، الصلابة النفسية للعاملين في مسارات النهضة، والصمود النفسي أمام الأزمات الكبرى والوعي بالهوية الإسلامية، والتحلي بالإيمان العميق، والصبر الاستراتيجي على الوصول إلى أهداف النهضة والمسؤولية المجتمعية الراسخة وغيرها من القيم الأساسية.
أساليب رص الصفوف: وهي ما تعرف في علم النفس السياسي بأساليب تكوين الرأي العام أو التحشيد الجماهيري، وهو عادة من أهم ما يركز عليه السياسيون خاصة من أجل الانتخابات، حيث يطلبون من المتخصصين في علم النفس السياسي دراسات لفهم اتجاهات الرأي العام، وتأثير العوامل النفسية على الرأي العام، وكيفية فهم تفاعل الرأي العام مع السياسات التي تتخذها الحكومات أو الأحزاب تجاه القضايا المصيرية، ولكن في إطار مشاريع النهضة تصبح دراسة الخطوات والأدوات التي تعزز تنظيم الجهود وتوحيد الصفوف وإعادة صياغة سلوك الأفراد والمجموعات في الأمة بطريقة متناغمة لتصل إلى هدف النهضة.
فهم الديناميات الاجتماعية والثقافية: تسود في السنوات الأخيرة أبحاث متنوعة حول تأثير العوامل النفسية على مفاهيم الأفكار والمشاعر والثقافة والدين في تكوين التفاعلات الاجتماعية وعلاقتها بالمشاركة السياسية في المجتمعات، وتأثير ذلك على النمط الديمقراطي أو الاستبدادي لأنظمة الحكم في كل دولة، ومدى فعالية المجتمع في حماية نفسه من تغول السلطات الحاكمة واستبدادها، وكذلك تأثير هذه المفاهيم على قدرة المجتمعات على حماية نفسها من الأخطار والأزمات السياسية والعسكرية في ظل مرحلة تاريخية تتزايد فيها حدة الحروب، وضمن هذا السياق أيضاً يتم دراسة وتحليل عوامل العنصرية والمواقف من اللاجئين والأبعاد الثقافية الصانعة للعنصرية، وتأثير عوامل الصراع السياسي بين التيارات المعارضة والحكومات، على خلق توجهات سلبية أو إيجابية تجاه اللاجئين.
اتخاذ القرارات السياسية: هو واحد من أهم المجالات التي يحاول علم النفس السياسي مدعوماً بتقنيات الذكاء الاصطناعي تطويرها بحيث تصبح عملية اتخاذ القرار السياسي الرسمي والشعبي أكثر جودة، وعلم النفس السياسي يقوم بدراسة متواصلة حول كيفية اتخاذ الأفراد والجماعات للقرارات السياسية وكيفية التعامل اثناء الأحداث الجسام في المجتمع، وكيف يمكن تفسير هذه القرارات وتفسير العوامل النفسية التي أدت إليها.
القيادة السياسية: لاتزال المجتمعات تتأثر بنوعية وصورة القائد السياسي، لذا فإن علم النفس السياسي يهتم بدراسة خصائص القادة السياسيين وكيف يؤثرون على سلوك الناس واتخاذ القرارات، وهو موضوع مهم بالطبع لأي أمة تعمل على إعداد مشروعها نحو نهضة منتظرة.
مهارات التواصل والتفاوض: يعتبر التدرب على مهارات التواصل الفعّال بالنسبة للمشاريع الفكرية والاجتماعية والقدرة على بناء اجماع حول هذه الأفكار والقضايا من أهم ما يؤدي إلى نجاح هذه المشاريع الفكرية، كما أن مهارات التفاوض أثناء ظهور الأزمات السياسية، هو واحد من العوامل المؤثرة في تجاوز الازمات السياسية وحلها، بالتالي فإن تحسين مهارات التفاوض لدى العاملين في قضايا النهضة، والقدرة على الوصول إلى الحلول الأكثر فعالية وأقل تكلفة شديدة الأهمية لنجاح مشروع النهضة لهذه الأمة ، وعلم النفس السياسي يساعد على تحديد أفضل المهارات وأهم الدوافع في نجاح عمليات التواصل والتفاوض.
لا شك أن الإشارة إلى هذه الأمثلة من المجالات هو فقط للفت النتباه المكثف ضمن ما تتسع له هذه المقالة، لكن توسيع وتعميق كل مجال هو هدف نستشعر أهميته وأهمية تطوير الأبحاث والدراسات ضمنه.
الأسئلة التطبيقية لعلم النفس السياسي في مسارات النهضة
هذه المعطيات تجعل الأسئلة التطبيقية التي يمكن أن يساعد علم النفس السياسي في الإجابة عليها لرسم مسار نهضوي للأمة، وحلحلة معضلات المجتمعات العربية أكثر من ملحة، وقد قمنا بتحديد عينة مختزلة من الأسئلة الرئيسية التي تمثل الوجه التطبيقي لعلم النفس السياسي في مسار النهضة، والتي يمكن أن تمثل نواة التفكير والحوار الذي يرسم خطوات ومسارات تساعد على تطوير الممارسة والحياة السياسية في مجتمع ناهض.
هل يمكن لعلم النفس السياسي أن يساعد في تحليل العقبات والتحديات النفسية والمعرفية التي تعيق نهوض مجتمعاتنا؟
هل يمكن أن يساعد علم النفس السياسي في بلورة رؤية للحل وتطوير الاتجاهات الفكرية والنفسية لدى الفاعلين السياسيين والمواطنين تجاه قضايا النهضة؟
هل يمكن أن يساعد علم النفس السياسي مجتمعاتنا على تنظيم عملهم السياسي وتطوير آليات العمل السياسي المشترك والسلمي والقبول المتبادل لبعضنا البعض من أجل الحد من الكوارث والأزمات السياسية التي تحيط بمجتمعاتنا حالياً؟
هل يمكن أن يقدم علم النفس السياسي لنا جرعة أمل أو على الأقل يقدم عملية توعية حول أهمية الأمل والحوار الفعال والمشاركة السياسية المنظمة وتعميق الانتماء الحقيقي للنهضة؟
هذه الأسئلة ليست أسئلة تبحث عن الإجابة المباشرة بقدر ما هي أسئلة تفتح الباب على عشرات الأسئلة الفرعية وعلى مسار من النقاش العلمي والثقافي المنظم الذي يحتاج إلى العديد من مراكز الأبحاث ويحتاج إلى العديد من الباحثين.
في هذا المقال نسعى لطرق الباب للدعوة إلى الاهتمام بهذا العلم الذي نعتقد أنه سوف يصبح على قائمة علوم المستقبل التي ستصنع فرقاً في حياة الناس والمجتمعات.
في هذا المقال نسعى لطرق الباب للدعوة إلى الاهتمام بهذا العلم الذي نعتقد أنه سوف يصبح على قائمة علوم المستقبل التي ستصنع فرقاً في حياة الناس والمجتمعات.
التحديات لهذا العلم
رغم كل هذه الأهمية لهذا العلم لكن لاتزال التحديات كبيرة وكبيرة جداً أمام هذا العلم وقيامه بالمهام المرجوة منه، وإن كانت هذه التحديات لا تقلل من الإيمان بأهميته وفعاليته في المساعدة على التغيير والتطوير الاجتماعي ومن أهم هذه التحديات:
- قلة الوعي بأهميته: بل حتى أن قطاعات واسعة من المثقفين لا يعرفون عنه إلا النزر القليل، وكما هو معلوم فإن المجتمعات التي ينتشر فيها الضعف العلمي والتقني، عادة ما تكون متأخرة في الاستجابة للعلوم الإنسانية بشكل خاص رغم أن حاجتها إليها أكبر من أجل مساعدتها على التخلص من أزماتها، وعلم النفس السياسي هو أحد هذه العلوم التي وقعت بنفس المشكلة والتي لم يستطع تجاوز هذه العقبة، رغم أن الحاجة إليه في بلاد المسلمين أصبحت حاجة حياة أو موت.
- حداثته وجدته وبالتالي قلة وندرة الأبحاث فيه في العالم العربي، ويبدو كل ما كتب عن هذا العلم محصوراً بعدد قليل جداً من الكتب أو المقالات المترجمة أو المؤلفة، ويغلب على هذه الكتب والمقالات الجانب النظري، رغم الحاجة الملحة إلى استخدام البعد التطبيقي لهذا العلم في تحليل وتفكيك المشكلات الحادة والمزمنة لمجتمعاتنا.
- قلة التمويل للأبحاث ومراكز الدراسات التي تدعم هذا العلم.
- الاستخدام في قضايا محدودة جداً ومجالات ضيقة من قبل بعض الجهات الرسمية العربية التي تحاول أن تكرّس سلطتها الفاسدة في حين لا نكاد نلحظ جهود مجتمعية مبادرة وفاعلة من أجل الاستفادة من هذا العلم في قضايا نهضوية وتغيُّريّة.
لكنّ إيماننا أنه ليس وحده الوعي والتوعية التي نقوم بها باتجاه هذا العلم ستجعل الجهود المستقبلية تتوجه نحوه، بل الاحتياج الكبير القادم هو الذي سيجعل هذا العلم حاجة ملحة يتسابق إليها الناس بهدف إيجاد حلول لهذا العالم الذي يتدحرج الآن نحو الأزمات والحروب والصراعات بسرعة هائلة.