داء التردد
كثيراً ما تتردد هذه العبارة على لسان المعلقين العرب في بداية كل مباراة لريال مدريد، ” الريال بمن حضر” وهي عبارةٌ مخادعةٌ يتوددون بها لجمهور الفريق، ويقصدون بها أنه أياً تكن الغيابات في فريق الريال، فإن الفريق سيلعب بنفس الأداء، وذلك لعظمة القميص الذي يرتدونه فهم لا يتوقفون على أحد ولا تقهرهم الظروف، عبارة مخادعة لأن دكة الريال الاحتياطية هي أغلى من قيمة بعض الفرق، وعلى الرغم من ذلك فهم يخسرون عند غياب المؤثرين، ففعلياً وبلا عواطف الريال بالمليارات التي يدفعونها لتجديد ترسانتهم كل سنة وليس بمن حضر، ولكن أعجبني المعنى فأحببت أن أستعيره لهذه الخاطرة.
عندما شاهدت مسلسل شارلوك هولمز كنت أحيل بعض المشاهد والتفاصيل التي فيه إلى مبالغات المؤلف ليضيف للشخصية سحراً آخر، فمثلاً يفاجئك بوجود عين حقيقة في براده أخفاها ليجري عليها أبحاثه، وكذلك المجهر والأدوات المخبرية والمواد الكيميائية المتواجدة في كل مكان من غرفته وأشياء أخر مشابهة.
ولكنني بدأت بتغيير وجهة نظري عن الأمر عندما قرأت في كتاب هبة الألم للدكتور بول براند أنه في فترة من الفترات اضطر لاستخدام برّاد بيته الخاص ليحافظ على يد مريض ميت كان يجري عليها التجارب الخاصة بمرضى الجذام، وكان يحذر خادمه مراراً من أن يستعملها في الطهي ويخلط بينها وبين لحم الخنزير!.
وقرأت في مذكرات مصطفى محمود أنه احتفظ بجثة تحت سريره ستة أشهر خلال دراسته للطب وذلك لكي يتأمل بها كل ما أراد، وحتى لا يكون مضطراً للذهاب كل ساعة وأخرى إلى مختبر التشريح والتوسل إلى المسؤول حتى يتيح له دراسة الجثث.
القرن الماضي مدهش حقاً بكل ما فيه، لقد كان حقيقة بمن حضر، الأبحاث العلمية التي كانت خلال الحربين العالميتين، التطور المذهل والنقلة التكنولوجية النوعية، كلها كانت إنجازات لأشخاص لم يكونوا بأفضل حالاتهم، لم ينتظروا المخبر المجهز، ولا المشفى المهيء، لقد قهروا الظروف بشكل يدهشني في كل مرة أسمع فيها قصة جديدة.
ثم بدأت فيما بعد أقتنع أن ليس هناك وقتا مناسب، حياتنا كلها مدموغة بعبارة “الريال بمن حضر”، لا يوجد وقت مناسب للزواج، وآخر مناسب للتأليف، وثالث للقراءة، وهذه الخدعة النفسية – أعني خدعة الوقت المناسب- وأدت الآلاف من المشاريع التي كانت تنتظر، والكثير من الشعراء والكتاب والمبدعين الذين استمروا في انتظار الوقت المناسب، لا وقت مناسب، أي وقت تستطيع فيه إنجاز شيء ما، هو الوقت المناسب لهذا الشيء، أقول هذا لأنني لقد قطعت وعداً أن أقرأ بعض الكتب في يوم ما، وها قد مرت خمس سنوات على هذا الوعد ولم يأتِ حضرة الوقت المناسب، وأنا متأكد أن كثيرين مثلي، ينتظرون أوقاتهم المناسبة، رجل هنا ينتظر حتى ينشر كتابه الأول منذ عشر سنين، وشاب هنا ينتظر حتى يعقد قرانه منذ أربع سنين، وثالث يؤجل مشروعه الشخصي، وتمضي السنون ولا هم ينجزون.
ولم يكن ذلك لقلة في الكفاءة، أو قصور في الفكر، وإنما كان تمهلا ًغير مفهوم، أو أملاً تُذكي فتيلَ ناره نفسٌ كسولة، وانظر من حولك، كم صديقاً يؤجل مشروعه التجاري الأول مرة بعد مرة، وكم شخصاً نوى السفر منذ سنين ولما يحزم أغراضه، وكم من شاب عزم على حفظ شي من القرآن، أو على دراسة علم ما وما تحرك قيد أنملة، وحتى هذا المقال الذي بين يديك انتظر كثيراً.
إنما أريد أن أقول أنه كما في العجلة الندامة، فإن في التأني المفرط ندامات، فلا مناص من المضي قدماً في المشاريع وإنجازها بما حضر، حتى وإن لم تكن على الوجه الأكمل
وهذه ليست دعوة للتهور، ولا إغراء للتصدّر، وإنما أريد أن أقول أنه كما في العجلة الندامة، فإن في التأني المفرط ندامات، فلا مناص من المضي قدماً في المشاريع وإنجازها بما حضر، حتى وإن لم تكن على الوجه الأكمل، وفي النهاية الريال بمن حضر وقد قال من قبل الأقدمون:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تترددا.