مرارة التعلُّم
القيام بالأفعال النافعة وإنجاز المهام صعبٌ ثقيلٌ على النفس…التسلية وتضويع الوقت أمرٌ ممتعٌ لولا شعور الندم الذي يعقبه.. ولكنَّ سماع بودكاستٍ حواري يضمن لك التسلية مع راحة الضمير..
متسلحاً بهذه الرؤية، هارباَ من تراكم المهام، خائفاً من تأنيب الضمير، لجأت إلى سماع بودكاستٍ عن حياة أحد الشعراء، لقد كانت فقرة تقديم الضيف هي الأجمل، وبعدها بدأ الهبد مرفوعاً للأس ثلاثة، حيث أظهر الضيف من ضعف الأسلوب وقلة الاطلاع وركاكة اللغة وسوء الانتقاء ما جعلني أكره الشاعر الذي كنت متلهفاً قبل نصف ساعةٍ لمعرفة حياته وأحواله، ثم نظرت إلى مقدم البرنامج وقلت له: تباً لك، ألهذا جمعتنا.
وكمقدمةٍ ثانية، يقول علماء الأعصاب إن عملية التعلم تتم عبر إنشاء روابطَ وتشابكاتٍ جديدةٍ بين الخلايا العصبية، وكل تكرارٍ جديدٍ للمعلومة يزيد من قوة الترابط ويرسِّخه حتى تدخل إلى مرحلة الذاكرة الطويلة.
إذن هناك تغير ما يحصل في خلايا دماغنا، تغيرٌ فيزيائيٌ ربما يمكن قياسه، أو على الأقل يمكن مراقبة التغير في مستوى النواقل العصبية الموجودة في الدماغ، إن الأمر أشبه بعمليةٍ جراحية، تشقُّ الخلية، تُحفر فيها المعلومة ثم تتركها بضعة أيامٍ لتشفى، ثم تنتقل إلى خلية ٍأخرى وهكذا دواليك … ولو أذنت لجواد فكرك أن يسرح في مضمار الخيال لرأيت أدمغة العلماء تتمثل لك في كُتَلٍ لحميةٍ تملؤها الندوب وتغطيها الجراحات.
وهذا يذكرني بتلك الأبيات التي يصف بها الإمام الشافعي التعلم فيقول :
وَمَنْ لَمْ يَذُقْ مُرَّ التَّعَلُّمِ سَاعَةً
تَجَرَّعَ ذُلَّ الْجَهْلِ طُولَ حَيَاتِهِ
وبالربط بين المعنيين المجازي والحقيقي لمرارة التعلم أقول: والله إنَّ للتعلم ألم، وله مرارة، مرارةٌ تشعر بها وتكاد تمسكها بيديك، تعبٌ وجهدٌ لا يشبه ذلك التعب العضلي الذي نعرف التعامل معه، إنهاكٌ وألمٌ لا تجدي معه حبوب الباراسيتامول، تظهر أعراضه بطرقٍ تتباين من إنسانٍ لآخر، فمنها ذلك الملل الذي يباغتنا أثناء التكرار والدراسة، وأحيانا بصورةٍ اكتئابٍ مريرٍ مؤقتٍ مجهول السبب، أو وربما ترى أثره على تلك العيون المتعبة من التحديق في الصفحات وتقليب الأسطر، ولأن الإنسانَ في فترة الطلب والتحصيل عادةً ما يكون فقيرَ ذات اليد، معدومَ مصادر الكسب، ربما جاءته الأعراض في صورةِ رغبةٍ جامحةٍ في ترك التعلم والتفرغ للعمل وجمع المال والتوسع بالعيش، وهذه التجليات والأعراض في أغلب أحوالها ما هي إلا بعض حِيلِ النفس للهروب من عسكر الكلمات وجند المعرفة…
ومع أن هذه الأعراض مشتهرةٌ عند طالب العلم الشرعي – وما أكثر الأدبيات الإسلامية التي تربط العلم بالفقر والتعب- إلا أنها عامةٌ في كل عملية تعلم، لأن العملية مؤلمةٌ بحق، راقبها كلما أردت أن تتعلم علماً جديداً لم تعتد عليه، أو تبدأ بدراسة مسائلَ معقدةٍ تحتاج تركيزاً مضاعفاً، تحسس ذلك الثقل والكسل، واستشعر ذلك الحزن والملل الذي يصاحب تلك العملية.
ولذلك لا ينقضي وطر دهشتي في كل مرةٍ أسمع فيها عن تسهيل العلوم المبالغ فيه، والمحاولات المستميتة في جعله ممتعاً بسيطاً عبر مقطع بودكاستٍ حواري، أو من خلال دورةِ في الفقه تُسمع بسرعةٍ مضاعفةٍ في طريق المواصلات، أو الكتب المسموعة المسجلة، أو من خلال منشوراتٍ مقتضبةٍ هنا وهناك -وإن كان فيها خيرٌ كثيرٌ ومنفعةٌ لعموم المسلمين- إلا إنها تؤمِّنُ الاطِّلاع لا التعلم، وتُخرِّج منتفخين مغترين لا متعلمين متقنين، ومع تضخم موضة البودكاست وما يشابهها من برامج هادفةٍ ونافعة، صار هذا الزخم المعرفي الوفير مشتتاً جديداً لطالب العلم – وخاصةً في مرحلة البناء والتأسيس- من أكثر من ناحية:
أما الأولى: فهي سهولة إنتاج ونشر هذه البرامج إلى درجةٍ كبيرةٍ والذي يؤدي بدوره إلى انخفاض الجودة، وتصدر من هو ليس أهلاَ كفايةً للحديث بالأمر الفلاني الذي جمعنا لسماعه، فمن قبل كانت القنوات التلفزيونية المحترمة بالكاد تستطيع ان تخصص ساعةً أسبوعيةً لمثل هذه اللقاءات، وذلك لضيق الوقت وارتفاع التكلفة، ولذلك فإنها كانت تحرص أن تقدم أفضل من يتكلم بهذا المجال، أما اليوم فهناك الغث والسمين، وما أسهل من أن تضع مايكرفوناً كبيراًً أمام وجهك، وسماعاتٍ ضخمةً فوق رأسك، وتبدأ الحديث عن أي أمرٍ تحبه مع من تريد، وما البودكاست الذي ذكرت حكايته آنفاً إلا مثالاً على سهولة هذا الأمر وسيولته، ولن تستطيع أن تعرف السيء من الجيد وتحكم عليه دون أن تستمع للضيف، وحتى تتمكن من التقييم بإنصاف فلا بدَّ من أن يكون لديك الاطلاع الكافي الذي يؤهلك لذلك وهذا ما لا يملكه الإنسان في البدايات، ولذلك يكون احتمال الغبنِ أكبر عنده.
فالكثير من البرامج التي تكون مناسبة جدًا لرجلٍ جاوز الأربعين مثلاً، ربما تكون مشاهدتها من شابٍّ عشرينيٍّ ما زال في مرحلة تأسيسه العلمي تسلية ومضيعةَ وقتٍ لا أكثر
وأما الناحية الثانية: فهي أن الزخم الإنتاجي المغري بالمعرفة المريحة بات يزاحم أوقاتاً مهمةً في حياة الإنسان، ويجعل واجب الوقت مشوشاً لديه، فكما هو معلومٌ أن عقولَ اليافعين والشباب أكثر قدرة على العلوم الحفظية والتأسيسية، وهي فترةٌ ذهبيةٌ لبناء قاعدةٍ معرفيةٍ رصينةٍ تخدم صاحبها بقية حياته، وصرف هذا الوقت الثمين لذلك النوع من المنتجات المسموعة والمرئية فيه شيءٌ من الغبن الذي ربما سيتبعه ندمٌ متأخرٌ وخاصةً عند أصحاب الهمم الذين يسعون لأهدافٍ غاليةٍ وغاياتٍ نبيلة، فالكثير من البرامج التي تكون مناسبة جدًا لرجلٍ جاوز الأربعين مثلاً، ربما تكون مشاهدتها من شابٍّ عشرينيٍّ ما زال في مرحلة تأسيسه العلمي تسلية ومضيعةَ وقتٍ لا أكثر.
وأما الثالثة وهي برأيي السلبية الأكبر، هو الشعور بسعادة الإنجاز عبر طرقٍ ووسائلَ سهلة، وهذه المتعة المريحة ربما تنزع رجل صاحبها عن سلم المعالي، وتهوي به من مراقي أهل الهمم، فبعد أن كان يعزم قراءة الكتب كاملةً تصبح الملخصات المسموعة كافية، وبعد أن كان لا ينام حتى يحفظ شيئاً من الشعر، أصبح سماع النوادر والمتفرقات يجعله ينام قرير العين.
وحبل الكسل كبال السياسيين… طويل .. ولذلك سوف تغري هذه المعرفة المريحة النفسَ لتنتقلَ بالتدريج من حضور مجالس العلم والمحاضرات إلى الاكتفاء بالاستماع عبر أحد المنصات، ومن التفاعل الإيجابي والتركيز وتدوين الملاحظات إلى الحضور السلبي بطريقة مُسَرّعة مع تصفح موقعٍ آخر في الوقت نفسه، ومن الجلوس على الركب إلى الاستلقاء على الظهر… وكفى بذلك -والله- انحطاطاً من سفح العزيمة والهمة، أقول هذا، وما أبرئ نفسي، فدمي عالقٌ على مخالب المعرفة المريحة تلك…ولكي أنجو من فخ التعميم لا بد من الاعتراف أن هناك الكثير من الكتب والمعلومات البسيطة التي تصلح أن تسمع بهذه الطريقة، كالتراجم وكتب التاريخ، أو المقالات التي تبسط بعض الأفكار، وربما الروايات وقصائد الشعر، إضافة إلى محاضرات التنمية الذاتية والتزكية، ولكن هذه الأمور تصرف لها فضول الأوقات لا أصولها، وتكون ضمن ساعات الترويح عن النفس لا ضمن ساعات الجد والاجتهاد ولذلك فلا بد من ضبط مسالك النفس ومعرفة حيلها، فمن أدرك الأعراض هان عليه التشخيص، ومن فهم نفسه هان عليه سياستها..