
الدولة الحديثة ومرجعية الوحي.. سؤال التّلاؤم واستشكال التّوفيق في الجذور؛ قراءة في ميادين الاشتباك
لا يستقيم النقاش حول علاقة الدولة الحديثة بالوحي في إطار نقاشات السياسة اليومية أو في حدود الجدل المؤسسي حول تمثيل الدين؛ فالسؤال يتجاوز الشكل التنظيمي ليطال البنية العميقة التي تنتج التصورات عن الإنسان، والمجتمع، والسيادة، والمعنى ذاته.
النموذج السياسي الحديث تأسّس على تعاقدٍ بين ذواتٍ متجاورة، تتبادل الضمانات وتنتج السلطة من داخل الجماعة، دون أن يُستدعى مرجع أعلى يهب الشرعية، ومنذ لحظة التأسيس اختُزلت فكرة “الحق” في إجماع الأغلبية، وأُحيلت فكرة “الغاية” إلى رفّ الخصوصيات الفردية، وأُقصي الوحي عن موقع التعريف والإلزام.
أولًا: مرجعية الوحي وعمارة الإنسان خارج هندسة الإنسانوية
الوحي لا يتعامل مع الإنسان بوصفه ذاتًا متعاقدة تُنتج القانون من خلال آليات التشاور الأرضي ولكنّه يُوجّه إليه التكليف بوصفه خليفةً، يُقيم العمران، ويطلق العقل في فضاء الوحي، ويخضع السلطة للحق، والحكم للهدى.
في هندسة الوحي لا تكتمل السيادة بدون العبودية، ولا يُحصَّن الحكم بدون الوحي، ولا تُحقَّق الحرية بدون تخلٍّ عن مرجعية الذات المكتفية.
الدولة الحديثة ــ من جهتها ــ تُعرّف الحرية على أنّها تحرر من التقاليد، والسيادة باعتبارها إرادة جمعيّة، والقانون بوصفه نتاجًا بشريًّا متحوِّلًا؛ أمّا الوحي فيؤكّد أن المعيار لا يُنتَج من داخل الجماعة وإنّما يتنزّل عليها بوصفه أمانةً تُختبَر بها، ومن هنا تتبدّى الصدمة التكوينية بين مرجعية تُنزل القانون من فوق ومنظومة تُصعّده من أسفل.
إنّ كلّ محاولة لتوفيق الدولة الحديثة مع الوحي تتطلّب إعادة تعريف أحد الطرفين؛ إما تفريغ الوحي من صيغته الإلهية، أو تحوير الدولة لتُصبح غير الدولة الحديثة؛ وهكذا لا يكون الحديث عن التلاؤم إلا بإعادة تفكيك المفاهيم التأسيسية:
السيادة: هل يمكن أن تكون الأمانة الإلهية فوق الإرادة الجمعية؟
القانون: هل يخضع للسقف الشرعي أم للموازنة البشرية؟
المرجعية: هل تنبثق من الإنسان، أم تُسند إلى الوحي؟
ففي النموذج الحديث، تُحتكَر السيادة داخل أجهزة الدولة، وتُسحب من الجماعة بوصفها حاملة للشرع، ومن النص بوصفه مُنتِجًا للمعنى. وهكذا، لا يكون حضور الدين إلا بقدر ما تسمح به الهندسة الأرضية للنظام، لا بقدر ما يُمليه المعيار الغيبي.
ثانيًا: الدولة الحديثة ومرجعية الوحي.. تفكيك المفاهيم وميادين الاشتباك
في قلب هذا السؤال تتجلّى معركة المفاهيم، وتنبعث جذور التنازع بين سرديتين لا تتقاطعان إلّا ليكشف كلٌ منهما عورة الآخر؛ فالدولة الحديثة ليست مجرّد هيكلٍ إداريّ يُضاف إلى جسم الاجتماع البشري، ولا تنظيمًا سياسيًّا محايدًا يدير الناس بلا انحياز، إنّها بناءٌ فلسفيّ ذو روحٍ مخصوصة، يتأسّس على تصوّر معيّن للكون، والإنسان، والسلطة، والمعنى.
أمّا الوحي فهو ليس مجرّد منظومة أخلاقية تُعنى بالآخرة، ولا مجموعة طقوس تُؤدّى في الخفاء، بل هو رؤيةٌ كونية، تنطلق من مصدرٍ متعالٍ، وتتجاوز الإنسان لا لتحقّره وإنّما لترفعه من عتمة الشهوة إلى نور التكليف، ومن ضجيج المصلحة إلى سكينة المعنى، ومن ضيق الفرد إلى سعة الجماعة المؤمنة.
فإذا وُضع هذا الوحي في مواجهة الدولة الحديثة، لم يعد السؤال عن إمكانية التعايش بينهما، وإنّما عن مدى قابليتهما للتأسيس على منطقٍ واحد، وعن طبيعة الجسر الذي يمكن أن يُشيّد بينهما دون أن يُخرّب أحد الضفتين؛ ذلك أنّ الدولة الحديثة لا تكتفي بتنظيم العلاقات، وإنما تُعيد تعريف الإنسان نفسه: حقوقه، وواجباته، وموقعه من الجماعة، وحدود انتمائه، ومصادر تشريعه، وحين تُعرّف نفسها باعتبارها “مصدر السيادة”، فإنها تنتزع من الوحي دوره التأسيسي، وتحوّله إلى رأي خاص، أو تقليد تراثي، أو منظومة خَلْقية تُنظَّم ضمن آليات التدبير الإداري.
المسألة إذن لا تُختزل في مفردة “العَلمانية” كما تُطرح عادة، بل تتجاوزها إلى السؤال الجوهري: كيف يُمكن للمرجعية المتجاوزة أن تُقيم داخل نظامٍ تأسّس على نفيها؟ وهل يُمكن لوحيٍ يُقنّن من فوق التاريخ أن يُستضاف داخل دولةٍ تُشرعن كل شيء من داخل التاريخ؟ فحين تُشرّع الدولة الحديثة القيم، وتُنظّم الضمير، وتُهندس السلوك، فإنها لا تُفسح للوحي مجالاً إلا بوصفه خطابًا رمزيًا قابلًا للترويض، لا مرجعية عُليا مُلزِمة تُشرف على البنيان من فوقه.
هنا تتصدّر الإشكالية بأقسى تجلياتها: هل التلاؤم ممكنٌ دون أن ينقلب الوحي تأويلًا، أو تنكمش الدولة إلى محض جهازٍ إداري بلا روح فلسفية؟ وهل الدولة ــ بما هي عليه ــ تُبقي للوحي قدرةً على الهيمنة المعيارية، أم أنّها تمتصّه داخل مؤسساتها وتُعيد إنتاجه وفق هندستها المعرفية؟ فالوحي لا يطلب فقط حرية التعبير، بل يطلب السيادة المرجعية، ويعلن تكليفه للإنسان كعبدٍ قبل أن يكون مواطنًا، وكخليفةٍ لا يُصاغ وفق المصلحة، بل وفق الأمر.
ولذلك، فإنّ الحديث عن توافق بين الدولة الحديثة والوحي لا يمكن أن يتمّ من دون محاكمة الأساسات، ومن دون تفكيك المفاهيم الكبرى التي بنت عليها الدولة الحديثة مشروعها: السيادة، القانون، الإنسان، الجماعة، المرجعية، الحياد، العقد، الإصلاح، التقدّم؛ فكلّها مفاهيم تحمل في ذاتها نَفَسًا معرفيًّا، ومنهجًا مخصوصًا، ومنطقًا داخليًّا لا يتّسق دائمًا مع ما يطرحه الوحي من تصوّر للكون والوجود والعمران.
وبناء على هذا فإنّه لا يسع التأصيل إلا أن يُفارق طريق التلفيق، ولا يسع الفكر إلا أن يُقاوم غواية التوفيق السهل، لأنّ المسألة في عمقها ليست دعوة للتسامح بين قوتين متساويتين ولكنّها صراع على من يملك سلطة التعريف، وحق التشريع، وبوصلة المعنى. فالدولة التي تُقيم بنيانها على عقدٍ اجتماعي بين ذواتٍ منفصلة، لا تتّسق في منطقها الداخلي مع وحيٍ يؤسّس الجماعة على العهد، ويجعل الشريعة قيدًا على الإرادة، والنصّ ميزانًا للتاريخ.
هكذا لا يعود سؤال التلاؤم مجرّد تمرين أكاديمي ولكنّه امتحانٌ حضاريّ تتكشّف فيه حدود الهويات، وتتكشّف معه ضرورات التجاوز أو معوقات التوفيق.
ولذا، فإنّ الفصول القادمة ستبحث في مواضع الاشتباك بين الوحي والدولة الحديثة، لا بدافع الاستفزاز، ولا بنية التبرير، بل بمنهجٍ يُحاكم التصوّرات إلى مقاصدها، ويُنزل البنى السياسية في ضوء مرجعياتها، ويعيد ترتيب الأسئلة من جديد:
هل يكفي للوحي أن يُستوعب في دستور؟ وهل تُغني “الهوية” عن “السيادة”؟ وهل يمكن لإنسانٍ لا يعرف العبودية أن يُقيم الخلافة؟
الاشتباك الأول: المرجعية والسيادة.. الصراع الخفي على عرش المعنى
السيادة ليست مجرّد مصطلح قانونيّ يُقاس بحدود الجغرافيا أو أدوات الحكم وإنّما هي في جوهرها تعبيرٌ عن “المصدر الأعلى للشرعية”، أي الجهة التي تُعرّف الخير، وتُقنّن الفعل، وتُحدّد الممكن من المستحيل، والمشروع من المحرّم، والمُباح من الممنوع.
وحين ظهرت الدولة الحديثة بوصفها الكيان الوحيد المخوّل بإنتاج القوانين، وتنظيم العلاقات، وتأويل القيم، فإنها لم تُمارس السيادة باعتبارها آلية إدارية فحسب وانما باعتبارها مصدرًا مؤسِّسًا للمعنى، وبهذا التحديد تصبح السيادة هي البنية العميقة التي تتأسّس عليها كلّ شرعيةٍ لاحقة، وكلّ قانونٍ نافذ، وكلّ خطابٍ علني.
والوحي ــ من جهته ــ لا يدخل الاجتماع البشري بصفته وعظًا أخلاقيًّا ولا رؤية جزئية، ولكنّه يحمل في طيّاته دعوى السيادة؛ سيادة النصّ على التاريخ، وسيادة التكليف على الإرادة، وسيادة الغيب على الحاضر، وسيادة الله تعالى على الإنسان.
وفي هذا التقابل تتجلى المفارقة الكبرى: الدولة الحديثة ــ بوصفها منظومةً عقلانيةً بشريةً مكتفيةً بذاتها ــ ترى نفسها حارسةً للسيادة داخل الحدود، ومرجعيةً لا تُحاكم إلا إلى ذاتها.
أما الوحي فيُعلن أن السيادة ليست وظيفةً سياسية وإنما أمانةٌ إلهية، لا تجوز إلّا لمَن يستمدّ أمره من الله تعالى، ويقيس سلطته على ميزان الحق، ويُخضع القانون لما فوقه من النصّ الربّاني.
فحين تدخل مرجعية الوحي إلى ساحةٍ تُديرها الدولة الحديثة، فإنها لا تدخل بوصفها نصًّا محفوظًا فحسب وإنّما بوصفها تحديًا مباشرًا لفكرة “الإنسان السيّد” و”الدولة السيّدة”. فالوحي يرفض أن يكون مرجعًا فرعيًّا يُستأنس به، ويطلب أن يُعاد بناء البنية كلها على أساسه، ومن هنا ينشأ النزاع، والنزاع ليس على السياسات التفصيلية وإنّما هو على الموقع الأعلى في هندسة المعنى: من الذي يُحدّد؟ من الذي يشرّع؟ من الذي يُمهّد للمستقبل؟ ومن الذي يَسنّ المعيار ويحاكم الواقع إليه؟
السيادة في الدولة الحديثة ــ وإن ظهرت في صورة القوانين ــ فإنها تحتفظ بجوهر فلسفيّ خفيّ؛ إذ تُنتج “الحقّ” من داخل الاجتماع، وتُقنّن الأخلاق من داخل التفاوض، وتُعيد تشكيل الإنسان باعتباره ذاتًا حرّة لا تعترف بما يعلوها، ولا تخضع لما يتجاوزها.
أمّا مرجعية الوحي فترفض أن تُقنّن من الخارج؛ لأنّها تُنزل معيارها من السماء، وتبني تصورها للسيادة على التوحيد وليس على العقد؛ فهي تُقصي كلَّ مدّعٍ للسيادة من دون الله تعالى، وتعدّ كلَّ حكم لا يُحاكم إلى الوحي نوعًا من التغوّل المعرفي الذي يُنتج الظلم ولو في ثوب القانون.
وحين نحلّل الصراع بين المرجعيتين يتّضح لنا أن التوتر لا ينشأ من مجرّد اختلاف في الرؤية الاجتماعية وإنّما من استحالة الجمع بين سيادتين: إحداهما تُنتج نفسها من داخل الإنسان، والثانية تُفجّر المعنى من خارج الإنسان؛ إحداهما تُنظّم العالم على قاعدة الحرية الفردية، والثانية تُعيد ترتيب العالم على قاعدة العبودية للحقّ الأعلى؛ إحداهما تُعرّف القانون باعتباره تعاقدًا مؤقتًا، والثانية تُثبّت القانون في جذوره الربانية.
في ظلّ هذا التنازع يظهر لنا استحالة الوصول إلى صيغة تلفيقية تُرضي الطرفين دون أن تُمزّق أحدهما من داخله؛ فالوحي لا يقبل أن يُستوعب داخل جهازٍ أيديولوجيّ لا يعترف به مرجعًا، والدولة الحديثة لا تُفسح للوحي مكانًا إلّا إذا خضع لتأويلها وتحوّل إلى عنصرٍ رمزيّ يُنظّم في الهامش.
وهنا يتكرّر السؤال الذي لا ينطفئ: هل يمكن تخيّل دولةٍ تحتكم إلى الوحي دون أن تُلغى ذاتها، أو تتنازل عن جوهرها المؤسِّس؟ وهل يمكن أن تبقى مرجعية الله تعالى في قلب السياسة دون أن تنهار الفكرة الحديثة برمّتها؟
الاشتباك الثّاني: القانون والشرعية.. من العقل التشريعي إلى الوحي الحاكم
في الدولة الحديثة لا يُعدّ القانون مجرد أداة لضبط السلوك إنّما هو التجلّي الأعلى لإرادة السيادة، والعلامة المؤسسة لمنطق الدولة ذاته، فالقانون هو النص المقدّس الجديد، يعلو على الأهواء كما يعلو على المرجعيات المتجاوزة، ويُكتب داخل جدران البرلمان بعيدًا عن أروقة الوحي، ويكتسب شرعيته من الإرادة الجمعية للأفراد منفكًا عن أيّ خطابٍ متعالٍ فوق الزمن.
وقد تمكّن هذا القانون الوضعي من إعادة تشكيل معنى “الشرعية” ليُصبح مرادفًا للقبول الشعبي أو الإجماع الإجرائي، فالمعيار لم يعد يُقاس باتساق القانون مع غايات الخلق أو مقاصد الوجود وإنّما بقدرته على تمثيل الإرادة العامة، وتنظيم السلوك ضمن حدود المتاح والمُتفاوض عليه.
أمام هذا التصوّر يدخل الوحي بوصفه مشروعًا قانونيًّا وشرعيًّا بديلًا لا يتأسّس على الإرادة الجماعية ولكن على الخطاب الإلهي؛ فالنصّ المنزل يحمل في جوهره سلطة التشريع بوصفه كشفًا ربّانيًّا لمعاني الخير والشر، وحدود الحلال والحرام، ومقاصد الاستخلاف والكرامة والعدالة، وليس بوصفه تعبيرًا عن هوى جماعة أو إرادة نخبة.
لا ينظّم الوحي الاجتماع على قاعدة التعاقد فقط وإنّما يربط الاجتماع بالغايات الأخروية، ويُعيد تعريف السياسة على أساس العبودية وليس على منطق المصالح المجردة؛ فإذا كانت الدولة الحديثة تحتكم إلى القانون الوضعي بصفته المرجعية القصوى، فإنّ منظومة الوحي تحتكم إلى قانون لا يُنتَج في الأرض وإنّما يتنزّل من السماء، ولا يُكتب تحت سلطة البرلمان ولكنّه يُتلى بوصفه كتابًا مُنزّلًا من ربّ العالمين، وهذا القانون لا يستمدّ مشروعيته من الأغلبية، ولذلك فإنّه لا يقبل أن يُقاس بما بعده، ولا أن يُختزل في صورة قانونية محايدة.
في هذا الاشتباك، ينشأ الصراع الخفيّ بين مصدرَي الشرعية: البرلمان بوصفه مشرّعًا باسم الشعب، والوحي بوصفه هاديًا باسم الله تعالى؛ بين قانونٍ يُبنى على التوافق الأرضي وقانونٍ يُبنى على التوحيد السماوي، وكل محاولة لتوفيق المرجعيتين دون تفكيك البنية العميقة للمفاهيم تؤدّي إلى تلفيق لا يصمد أمام أسئلة السيادة ولا أمام امتحان التطبيق.
فالشرعية في الدولة الحديثة تدور حول مشروعية “الإجراء” وموافقة “الإرادة”، أما الشرعية في خطاب الوحي فتدور حول موافقة “الحق” ومطابقة “المقصد”، وهذا ما يجعل الخلاف بين المرجعيتين ليس مجرّد اختلاف في قواعد التقنين وإنّما في معنى الإنسان، ومصدر القيم، وغاية الاجتماع السياسي.
وحين تسعى بعض المحاولات التجديدية إلى إدخال الشريعة ضمن إطار القانون الحديث، فإنّها تنزع عنها لبّها التوحيديّ، وتحوّلها إلى طقوس قانونية لها لحية تفقد قدرتها على التأسيس الكامل للحياة؛ فالوحي حين يدخل الاجتماع لا يطلب مجرّد “موقع” داخل النظام ولكنّه يطلب أن يكون “مصدَرًا” للنظام، و”ميزانًا” للشرعية، و”مقصدًا” للسيادة، و”غايةً” للقانون.
إنّ الدولة الحديثة ــ حين قطعت صلتها بالزمن المنبثق من الوحي ــ فقدت الاتصال بمصيرها الأعلى، فلم تعد ترجو آخرة، ولا تنتظر وعدًا إلهيًا، ولا تُعيد صياغة حاضرها على ضوء نبوةٍ أو بشارة؛ لقد تحوّلت إلى آلة ضخمة تُدير الحياة دون أن تُبصر معناها، وتُنظّم الزمن دون أن تحسّ نبضه.
الاشتباك الثّالث: الإنسان والمواطنة.. من الخليفة إلى الفرد المحايد
في هندسة الدولة الحديثة لم يعد الإنسان هو الكائن الذي يحمل تكليفًا ويُنتظر منه عمرانٌ بمرجعية عليا ولكنّه تحوّل إلى “مواطن” بوصفه وحدةً قانونية داخل الحدود، تُعرَّف حقوقه عبر النصوص الوضعية، وتُضبط واجباته ضمن منطق الطاعة المؤسسية، دون حاجة إلى مرجعية متعالية تُثقل كاهله بالوحي أو ترفعه بمقاصده.
المواطنة هنا ليست انتماءً قيميًا يُعرّف الإنسان برسالته ولكنّها انتماء إداري يُعرّفه بوثيقة، وهي ليست انخراطًا في مشروع أخلاقي مشترك وإنّما تكيّف مع منظومة قانونية صُمّمت لتسير بلا نبوة، وتُدار بلا انتظار للخلاص.
ينتقل الإنسان من كونه خليفةً في الأرض إلى كونه متلقيًا للحقوق، مستهلكًا للواجبات، مقطوعًا عن السماء، ومندمجًا في بيروقراطية الأرض.
الفرد الحديث لا يُطالب بإقامة العدل بمفهومه المطلق وإنّما يُطلب منه الامتثال لقانون نُحت بعيدًا عن الوحي وتجرّد من معنى الغاية، ومفهوم “الحرية” الذي يُبشَّر به المواطن ليس تحررًا روحيًا من عبودية الخلق إلى عبودية الخالق بل انفكاكًا عن الجماعة، وتحررًا من المقدس، واندماجًا في نظامٍ يُعرّف الخير من خلال النافع، ويُؤسس الأخلاق على التوافق دون حضورٍ للحقّ
يصبح سؤال الإنسان في الدولة الحديثة مُختزلًا في أبعاد قانونية واقتصادية ونفسية، ويُفرغ من بعده الغائيّ الذي جعله في التصور القرآني كائنًا مُكرّمًا، حاملًا للأمانة، مُطالَبًا بالشهادة على الناس؛ فالمواطنة لا تَعرف إلا ذاتًا محايدة، والدولة لا تعترف إلا بالإنسان المجرّد من عبء الوحي، ولا تطيق صوتًا يأتي من وراء الغيب ليراجع شرعية القانون، أو يسائل جوهر العدل.
الاشتباك الرابع: الدولة والزمان.. بين تقويم السلطة وتقويم الوحي
في كل دولةٍ تتشكّل عبر التاريخ لا تكون السيادة مجرّد سلطةٍ على الأرض بل سلطةً على الزمن أيضًا؛ إذ لا يمكن لسلطة أن تكتمل من دون أن تُعيد تعريف لحظة البداية، وتُحدّد مسار الامتداد، وتصوغ صورة الغاية. ومن هنا فإنّ الاشتباك بين الدولة الحديثة والوحي لم يكن مقصورًا على المرجعية والسيادة، ولا محدودًا بحدود القانون والشرعية، ولكنّه امتدّ ليخترق نسيج الزمن نفسه: من يملك حقّ تحديد الزمن؟ ومن يُقدّس لحظاته؟ ومن يُعيد هندسة إيقاعه بين الفجر والمغرب، بين الميلاد والبعث، بين السنة والشهر واليوم؟
في الرؤية القرآنية يُقدَّم الزمن بوصفه حيًّا ناطقًا بالمعنى، لا يتحرك بعقارب الساعات وإنّما بنفحات التكليف. “العصر” يُقسم به لأنه شاهدٌ على خسارة الإنسان إن لم يملأه بالإيمان والعمل. و”الدهر” يُنهى عن لعنه لأنه مظهرٌ من مظاهر تدبير الله تعالى، و”الجمعة” ليست يومًا في جدول الأسبوع ولكنّها نقطة إشعاعٍ روحي تُعيد وصل الإنسان بالوعد الأول؛ فالزمن في الوحي ليس مساحةً للاستهلاك إنّه مسارٌ للعبور، وسُلّمٌ للمقامات، وميدانٌ يُختبر فيه الصدق، ويُفرز فيه الغافلون من المتفكّرين.
لكنّ الدولة الحديثة ــ في لحظة تشكّلها ــ أعادت تعريف الزمن من جذوره؛ فلم تعد تراه تجليًا إلهيًا ولكنّه أداة للضبط والتقويم والإدارة؛ فأسقطت عنه قدسيته، وفصلته عن الوحي، وأدخلته في جهازها البيروقراطي؛ صار الزمن مرقّمًا بالروزنامة الميلادية، ومُوزّعًا على أيام العمل والعطل الرسمية، ومجدولًا بين دورات الموازنة ومواسم الانتخابات؛ وهكذا، استحالت حياة الإنسان إلى رُزمٍ من الساعات، تُقيَّم بالإنتاج، وتُخطَّط بالحساب، ويُقاس نجاحها بنسب النموّ وليس بنفحات الطمأنينة.
في هذا السياق الزمني الجديد لم يعد لرمضان مكانٌ خارج جدول العطل، ولم تعد الجمعة محطةً للتذكير بالآخرة بل يومًا يُراقب فيه الأمن خطب المساجد، ولم يعد الزمن الهجري تقويم أمةٍ تشهد لله تعالى بالوحي ولكنّه غدا رقمًا يثير الجدل في لجان الفتوى حول الرؤية البصرية؛ فالزمن المقدّس تحوّل إلى فولكلور واختفى من تقويم الدولة إلا ما يخدمها سياحيًا أو رمزيًا.
ومع تراكم العقود مارست الدولة الحديثة سلطتها الزمنية بأقصى درجات الهيمنة؛ فلم تكتفِ بتنظيم الوقت ولكنّها احتكرته، ولم تُلغِ التقويم الآخر ولكنّها أحالته إلى ذكرى، لم تُجرّم الزمن الديني ولكنّها فرّغته من المعنى ثم أعادت استخدامه مروّضًا: تُعلن العيد على شاشاتها، وتحدّد صلاة الاستسقاء في بيانات وزاراتها، وتُشرف على الحجّ عبر منصاتها الإلكترونية؛ لقد صارت الدولة إلهًا زمنيًا؛ تُحيي ما تشاء من الأزمنة وتُميت، وتُسجّل دخولك إلى الزمن وتُؤرّخ خروجك منه.
وهكذا وُضع الإنسان في سجن من الساعات؛ لا يسأل عن يوم الحساب ولكنّه يُحاسَب على تأخره عن اجتماع الصباح، ولا ينتظر الفجر ليقوم ولكنّه ينتظر جرس المصنع أو صفارة الدوامـ ولا يتفكّر في أعوام الهجرة وإنّما في فصول السنة المالية؛ إنه يعيش زمنًا بلا غاية، ويركض فيه نحو موعدٍ لا يأتي، ويستهلك لحظاته كمن يطارد سرابًا من الأرقام.
إنّ الدولة الحديثة ــ حين قطعت صلتها بالزمن المنبثق من الوحي ــ فقدت الاتصال بمصيرها الأعلى، فلم تعد ترجو آخرة، ولا تنتظر وعدًا إلهيًا، ولا تُعيد صياغة حاضرها على ضوء نبوةٍ أو بشارة؛ لقد تحوّلت إلى آلة ضخمة تُدير الحياة دون أن تُبصر معناها، وتُنظّم الزمن دون أن تحسّ نبضه.
وفي قلب هذا الاشتباك بين “تقويم الوحي” و”تقويم السلطة” تنكشف الأزمة الأعمق؛ إن لم يُحرّر الزمن من سطوة السلطة، فلن يُحرَّر الإنسان من سطوة المادة، وإن لم يُعد الزمن إلى حضن الرسالة فستبقى الحياة مدوّنةً في دفاتر الحساب ولا وجود لها في صفحات النجاة.
فهل آن أوان أن نستردّ زمننا لنستردّ أنفسنا؟ وهل يمكن للدولة أن تسمح للإنسان أن يُدير وقته بميزان النبوّات لا بمعدّل الإنتاج؟ سؤالٌ سيُحيلنا إلى اشتباكٍ جديد: مَن يُربّي القيم في ظل سلطة تُدير الحياة بالأرقام؟ وهل يمكن للمعنى أن ينتصر في زمنٍ يُصاغ بلغة الجداول؟
الاشتباك الخامس: السلطة والقيمة.. من التربية إلى الترويض
ثمّة لحظة فارقة في التاريخ الفكري للبشرية، لم تقع بالضجيج الذي يرافق الثورات، ولا صيغت في بيانٍ سياسيّ يُدوّنه المؤرخون، لكنها كانت أعمق وأخطر من كل ذلك؛ حين تسرّبت السلطة إلى وجدان الإنسان، بوصفها مُرشِدًا داخليًّا يُحدّد له معنى الفضيلة، ويُهندِس له مسار الارتقاء الأخلاقي؛ لحظةٌ لم تعد فيها السلطة تسنّ القوانين فقط وإنّما بدأت تكتب نصوص الضمير، وتُهذّب الغرائز، وتُعيد تعريف “الخير” بما يتوافق مع هندستها للمجتمع.
هذا التحوّل من السلطة المقونِنة إلى السلطة المربّية لم يكن مجرّد توسّع إداري في وظائف الدولة ولكنّه كان انقلابًا ناعمًا في طبيعة القيم: كيف تنشأ؟ ومن يُشرف على تنميتها؟ وما هي الجهة التي تحتكر تعريفها وقياسها وترويجها؟ فالمسألة لم تعد تدور حول التربية باعتبارها مهمة، بل حول “من يُربّي”، وبأيّ مرجعية تُبنى القيم، ومن يملك سلطة تحويلها إلى سياسة عامة.
في النظم ما قبل الحديثة، كانت التربية مسؤولية العائلة، والقبيلة، والمسجد، والمدرسة التقليدية، تنبع من منظومة مرجعية تتجاوز الدولة، وتشير دائمًا إلى مقصد أعلى: الوحي، التراث، الحكمة، الفضيلة.
أما في الدولة الحديثة فقد تحوّلت هذه العملية التربوية إلى أداة ضبط اجتماعي، تُصاغ في وزارات التعليم، وتُراقب بالكاميرات، وتُقاس في اختبارات المهارات القيمية، وتُعاقب انحرافاتها بالقانون؛ فلم تعد التربية تربية ولكنّها صارت ترويضًا مُمأسسًا يُعيد تشكيل الإنسان ليكون صالحًا لخدمة آلة الدولة وليس لبناء مشروع الإنسان الكامل.
في هذا السياق لا تنشأ السلطة الحديثة بوصفها مَن يُدير الاقتصاد والسياسة فقط وإنّما من يُشكّل المعنى ذاته، ومع تراكم أدوات الدولة من التعليم إلى الإعلام، ومن القانون إلى الطب النفسي، تنشأ شبكة معقّدة من المؤسسات التي تملك ــ تحت مسمّى “المصلحة العامة” ــ حقّ تقنين الضمير، وضبط السلوك، وإنتاج المعايير الأخلاقية التي يجب على الإنسان الحديث أن يمتثل لها.
لم تعد الدولة بحاجة إلى العنف لتضبط القيم ولكنّها صارت تصوغها بمنطق الرعاية، والدولة التي كانت تُخيف المواطن إن خالف؛ باتت تُربّيه كي لا يخطر في ذهنه أن يُخالف؛ فالدولة الحديثة لا تقمع الإنسان من الخارج بل تُعيد بناءه من الداخل، وتغرس فيه جهاز رقابة ذاتي، هو الضمير المبرمج على الطاعة.
لقد استطاعت الدولة أن تسرق التربية من الوحي، وأن تُعيد تشكيل الإنسان بوصفه مواطنًا صالحًا لا بوصفه عبدًا محقّقًا للخلافة، وأصبحت القيم نفسها خاضعة لمقاييس الدولة: ما يُصنَّف “إيجابيًّا” يُعزَّز، وما يُعدّ “مُزعجًا” يُهمَّش، وما لا يُقاس لا يُعدّ موجودًا أصلًا.
لم يعد ضبط السلوك مقتصرًا على الشرطة والقانون بل صار مُدمجًا في المناهج التعليمية، وفي برامج الإعلام، وفي خطط التنمية البشرية. ومع كل مرحلة جديدة من التوسّع السلطوي، يتقلّص الهامش الذي يمكن للقيم أن تنمو فيه خارج سلطة الدولة، ويُعاد تعريف الخير وفقًا لما يخدم “التنمية”، و”الاستقرار”، و”رؤية المستقبل”.
الدولة الحديثة لا تنكر القيم لكنها تُعيد تعريفها لتتلاءم مع وظائفها؛ فالتسامح مطلوب ما دام لا يُهدّد “الأمن القومي”، والصدق محمود ما دام لا يُربك “الخطاب الرسمي”، والأمانة مطلوبة ما دامت لا تُفشي فسادًا مهيكلًا.
تُؤسّس الدولة هنا منظومةً أخلاقية هجينة تُحيّدُ الوحي وتستبقي بعض عناوينه، ولكنها تفرّغها من معناها الأصلي، وتُفرغها في قوالب مؤسساتية تُناسب بيروقراطيتها.
وبهذا، يتحوّل الوحي من مرجعيةٍ عليا إلى “مرجعٍ تراثي”، يُستدعى في احتفالات الأخلاق، ويُدرّس في حصة التربية الإسلامية، ويُقتبس منه في افتتاحيات المؤتمرات، دون أن يُخترق إلى جوهر السيادة أو يكون الحَكم في النزاع القيمي.
وحين يتخلى المجتمع عن مساره التزكوي وتُستبدَل به برامج “التنمية الذاتية” المصمَّمة وفق احتياجات السوق، فإنّ الإنسان يفقد الاتصال بعلوّه الأخلاقي ويُعاد إنتاجه على أنّه كائن وظيفي.
تزكية النفس في منطق الوحي عملٌ روحيٌّ متصل بالآخرة ينتظر الجزاء من الله تعالى، ويتطلب مجاهدة طويلة، أما في منطق الدولة الحديثة، فالسلوك الجيد هو ما يرفع معدلات الثقة في المؤشر الوطني للسعادة.
الرغبة في الخير ــ في هذا السياق ــ لا تعود انحيازًا فطريًا ولا تكليفًا شرعيًا بل ميزة تنافسية؛ تُدرّس في برامج “الذكاء العاطفي”، وتُختبر في مقابلات العمل، ويُقاس أثرها في خطط “تحسين بيئة العمل”.
إنّ المشروع التربوي في الإسلام كان دائمًا متجاوزًا للوظيفة؛ إذ يُراد للإنسان أن يكون خَليفة لا موظفًا مثاليًا؛ وأن يسعى للكمال وليس للكفاءة فقط؛ وأن يبني العالم لينال رضوان الله تعالى وليس ليُدرج في تصنيف دوليّ.
أما الدولة الحديثة فإنّ مشروعها التربوي يقف عند حدود “الصلاح الاجتماعي”، وهو صلاحٌ مشروط بطاعة النظام، ومقيد بإطار القانون، وموجّه لتحقيق التنمية، ولا شأن له بتحقيق الإيمان.
المواطن الصالح ــ في هذا السياق ــ هو من يبتسم في وجه الكاميرا، ويُسلّم ضرائبه في الوقت المحدد، ويُدين العنف في كل سياق، ويتضامن ضمن حدود المسموح؛ أما ما وراء ذلك، فخارج عن مقاييس التقييم، وربما خارج عن دائرة “الصلاح” أصلًا.
حين تحتكر الدولة الحديثة تعريف الفضيلة، وتُعيد هندسة القيم، وتُبرمج التربية لتخدم رؤيتها للإنسان؛ فإنّنا لا نواجه مجرّد تحوّل إداري ولكنّنا نواجه انقلابًا وجوديًا في معنى الإنسان ذاته.
من هنا، كان لا بد من محاكمة هذا التحوّل: من أين تستمدّ الدولة حقها في إعادة تعريف الخير؟ ومن يمنحها السلطة على الضمير؟ وهل يمكن استعادة القيمة من قبضة الإدارة، وإعادتها إلى سياقها التكويني الذي يُضيئه الوحي ويهديه؟
هذه الأسئلة هي المدخل لفهمٍ أعمق للعلاقة بين الإنسان والدولة، وبين التربية والتكليف، بين سلطة تُهذِّب لتُدجِّن وتربيةٍ تُصاغ بالوحي لتُزكّي؛ وفي قلب هذا الاشتباك تنكشف لنا مسارات المعنى، وتنهض الحاجة إلى إعادة تعريف الإنسان من جديد:ليس بوصفه مشروعًا إداريًّا وإنّما تكليفًا روحيًّا، ورسالة أخلاقية تتجاوز بيروقراطية الانضباط إلى أفق الخلافة.
وعلى هذا الأساس؛ لا يمكن الاكتفاء بنقد العلمانية على أنها ترتيبٌ ثنائيّ بين العام والخاص، أو آلية فصلٍ بين السلطتين، بل ينبغي الغوص في عمق التأسيس المعرفيّ الذي جعل من الدولة سلطةً عُليا مكتفية، تُعيد إنتاج المعنى من داخل الإنسان، وتُدير المجال العام من خارج الوحي.
ثالثًا: نحو وعي ما بعد حداثي بالدولة والوحي
تجاوز هذا المأزق لا يكمن في استبدال شكل بآخر، أو العودة إلى صيغ تاريخية تُستعاد لطمأنينتها العاطفية، وإنما في بناء وعي فلسفيّ يتجاوز القوالب الموروثة والتصورات المفروضة، ويعيد ترتيب الأسئلة بحيث يُفكّك الأساس الذي يُقيم الدولة فوق المقدّس، ويُفرغ الوحي من قدرته التنظيمية، ويُعيد تركيب العلاقة على نحوٍ لا يُبقي الدين ترفًا في الهامش، ولا يسمح للدولة أن تُعرّف الوحي من خارج منطقه.
إنّ كلّ وعي حقيقيّ يتجاوز النماذج المغلقة لا يبدأ من حنينٍ إلى الخلافة المتصوّرة بقالب ذهنيّ مسبق ولا من اجترارٍ للماضي الإمبراطوري، وإنما من محاكمة الجذور العميقة للسلطة، ومن إعادة تعريف الإنسان على ضوء التكليف لا التعاقد، ومن تفكيك الزمن بوصفه تاريخًا للبعث وليس مجرد تنظيم للموازنات.
في هذا الإطار؛ لا تكون الغاية محصورة في تفكيك الدولة الحديثة بوصفها جهازًا بيروقراطيًّا وإنّما تتّسع الرؤية إلى محاكمتها باعتبارها منتجًا معرفيًّا مقيّدًا بسياقٍ غربيّ مخصوص، انبثق من بنية صراعٍ دينيّ داخليّ، وتجربة لاهوتية فريدة لا تصلح معيارًا كونيًّا عامًا.
إنّ مرجعية الوحي لا تُطلب من باب التديّن الرمزيّ، ولا باعتبارها حمولة روحية تُضاف إلى جسد الدولة، وإنما تُستعاد باعتبارها نظامًا معرفيًّا كاملاً، يقدّم تصوّرًا عن الإنسان، والزمن، والغيب، والمجتمع، والسلطة، والعمران.
وعلى هذا الأساس؛ لا يمكن الاكتفاء بنقد العلمانية على أنها ترتيبٌ ثنائيّ بين العام والخاص، أو آلية فصلٍ بين السلطتين، بل ينبغي الغوص في عمق التأسيس المعرفيّ الذي جعل من الدولة سلطةً عُليا مكتفية، تُعيد إنتاج المعنى من داخل الإنسان، وتُدير المجال العام من خارج الوحي.
إنّ الطريق إلى رؤيةٍ بديلة لا يُفتح بتعديلات فوقية ولكنّه يُنتَج بتحوّلٍ في البنية المفاهيمية؛ حيث يُستبدَل مقصد الإنسان المكلّف بمركز الإنسان الفردانيّ، ويُفكّك مفهوم السيادة الذاتية لصالح سيادة الوحي، ويُعاد تنظيم العمران السياسيّ على مقاصد تتجاوز تقنيات الإدارة نحو غايات الهداية.
في هذا النمط؛ لا يعود الوحي موضوعًا يُنظَّم ولكنّه يغدو مرجعيةً تنظِّم؛ ولا تُقاس الدولة بقدرتها على الاحتواء وإنّما بمدى خضوعها للميزان.
وبناء عليه فإنّه لا يُطلب من الوعي الجديد أن يبني نسخة مطابقة من الدولة كما عرفها الغرب، ولا أن يُعيد تجارب ماضوية كما عاشها الأجداد ولكنّ المطلوب منه أن يُفكّر من نقطة انطلاق جديدة؛ من عمق الرسالة، ومن حكمة الوحي، ومن قابلية الإنسان للتكليف، ومن حاجة المجتمعات إلى نظامٍ سياسيٍّ يتجاوز السوق والسلطة معًا، دون أن يقع في وهم التحرر أو عبودية التقنية.
خاتمة: من استعادة السؤال إلى إعادة التأسيس
في هذا المسار النظري المتوتر بين الدولة الحديثة والوحي؛ فإنّ السؤال لا يبرز بوصفه جدلًا بين أنظمة ولا خصومة بين عصور، وإنما باعتباره كاشفًا عن التحيّزات العميقة التي تسكن بنية المعنى ذاته؛ فحين يُفهم الإنسان في ضوء التعاقد، تُعاد صياغة وظيفته في المجتمع، ويُعاد ترتيب علاقته بالزمان، ويُختزل المقدّس إلى مجرّد رمز مؤطّر داخل شعائر مفرّغة من سلطانها.
وإذ تتبدّى الدولة الحديثة على أنّها أفق سلطوي يعيد تعريف القانون والسيادة والزمن والإنسان ضمن منظومة مكتفية بذاتها؛ فإنّ الحاجة تتكشّف إلى وعي فلسفي يتجاوز استنساخ التجارب، ويتحرّر من إسقاطات السياقات الغربية، ويعيد محاكمة المفاهيم قبل الحكم على التطبيقات؛ فالمسألة لا تقف عند حدود ملاءمة “الدين” لآلة الدولة، ولا عند مواءمة “الشريعة” لنص الدستور، وإنما تمسّ عمق النظر في الغاية من الاجتماع البشري، ومنظومة القيم التي تحكمه، والمرجعية التي تهديه في سعيه نحو المصير.
وحين تُستأنف هذه الأسئلة في ضوء الوحي؛ لا تعود الدولة مجرّد جهاز إداري ولا محض منظومة تشريعية وإنما تُفهم بوصفها جزءًا من مشروع إنساني يتجاوز إدارة الحياة إلى هدايتها، ويخرج من ضيق التفاوض السياسي إلى فسحة التكليف الأخلاقي.
عندها تكتسب إعادة التفكير في الدولة طابعًا معرفيًّا وروحيًّا في آنٍ، ويتحوّل النقد من مجرد رفض إلى تفكيك، ومن التفكيك إلى إعادة بناء، ومن إعادة البناء إلى ابتكار نماذج لا تُعيد إنتاج السلطة كما وُلدت في الحداثة، ولا تنغلق في استعادة التراث بقوالبه القديمة في التاريخ، ولكنّها تتجه صوب مشروعٍ إنسانيٍّ جديد، يُبصر الدولة على ضوء الرسالة، ويُبصر الرسالة على ضوء حاجات الإنسان في عصور الاستضعاف والشتات الهويّاتي والفكريّ والقيمي.



