
شيوع الخرافة وغياب المعايير الشرعية في أزمنة الأزمات
محمد الغباشي
في أزمنة الانحطاط والأزمات، وفي الوقت الذي يشعر فيه الناس بخيبة الأمل والإحباط واليأس من التغيير؛ يتشبث البسطاء أكثر بالخرافة، وتصبح ملاذهم للهروب من توحش الواقع، فالوضع المؤلم الذي يعيشونه يشكّل بيئة خصبة جدًا وضاغطة لنمو مثل هذه الخزعبلات، فالإنسان الكادح، الذي تتكالب عليه النكبات من كل اتجاه -نكبات وكوارث اقتصادية واجتماعية وسياسية- ينهشه من الداخل شعور بالعجز واليأس، ولا يجد له ملجأً يأوي إليه إلا الخرافات؛ ليهرب من ضغط الواقع ويسكّن ألمه النفسي بمخدر الخزعبلات.
في هذا الوقت بالذات يتقهقر المعتقد الشرعي في ضمائر الناس، وبدلاً من أن يكون الحصنَ والمعتصَم الذي يلجؤون إليه لتحديد بوصلتهم، وتوجيهها نحو التغيير الحقيقي الذي يصلح النفس والواقع والآخرين؛ تتخذ العقول قرارها اللاواعي بالاستسهال والتوجه نحو الخرافة، لتصاب في نهاية المطاف بغيبوبة حقيقة عن الواقع تمنعها من فهم ما يدور حولها من أحداث أو التأثير فيه.
والخرافة هي كل فكرة أو اعتقاد مبني على الوهم ولا يستند إلى أي دليل شرعي أو علمي أو منطقي.
مظاهر انتشار الخطاب الخرافي:
إذا تمعنّا في دراسة المجتمعات المسلمة التي يتفشى فيها الخطاب الخرافي سنجده يتخذ عدة صور أو مظاهر، كلها بعيد تمام البعد عن التصور الشرعي أو العقلي السليم، ومن هذه المظاهر والصور:
1- استبدال الخطاب الشرعي المعتدل بخطاب شرعي آخر مشوَّه:
وهذا الخطاب المشوَّه يتلبس كثيرًا برداء الصوفية المغالية، مبالغًا في حكايات لا منطقية وغير خاضعة للضوابط الشرعية عن الكرامات والأولياء وزيارة الأضرحة، بلا تحكيم للشرع أو العقل، ولا يتوقف الأمر عند مجرد سرد الحكايات، وإنما يتم توجيه الناس إلى شعائر وعبادات وطلاسم مخترعة، والادعاء بأن فيها تفريجًا لكربة الإنسان القاعد عن الأخذ بالأسباب!! وهذا يتسبب في خسرانه من جهتين؛ فلا هو اتبع المنهج الشرعي السليم بالاتباع النبوي التعبدي من جانب، ولا أخذ بأسباب النجاح وتوكل على الله تعالى لتفريج كربته من جانب آخر. بل غاية ما يتطلع إليه هو ترديد أذكار وأوراد مخترعة وطلاسم وحروف غير متناسقة آلاف المرات، أو التوجه للأضرحة ودعاء أصحابها تفريجًا للكربة أو انتظارًا للفرج.
2- انتشار الدجل المتمسح بالعلوم الطبيعية والذي يركز على الخرافات الكونية:
خلال السنوات القليلة الماضية استشرى مثل هذا الخطاب كالنار في الهشيم، وانتشرت نظريات وتكهنات بصورة هستيرية عن علوم ما وراء الطبيعية والأكوان الموازية وسكان جوف الأرض والزواحف التي تحكم العالم… وما إلى ذلك من أشكال الخرافات، وصارت تُعرض على نطاق واسع مقاطع مصورة لأطباق طائرة، أو مخلوقات غريبة، أو مسؤولين عالميين يرتدون أقنعة جلدية تخفي تحتها ملامحهم الغريبة، وكلها مقاطع رديئة التصوير والمونتاج، بل وكثير منها مختلق ومركّب داخل معامل المونتاج أو بالذكاء الاصطناعي، وهذه الرداءة في التصوير والمونتاج مقصودة حتى لا يدقق في تفاصيلها المشاهد البسيط فيسارع في اعتناق الفكرة التي تدور حولها، أو على أقل التقديرات يتداولها باعتبارها نظرية جديرة بالاهتمام والمشاركة والتعليق!
ولم تتوقف عملية الترويج عند هذه المرحلة، بل تعدتها لظهور دجالين نصابين على وسائل الإعلام والسوشيال ميديا لشرح وتحليل هذه الآراء المختلقة والنظريات الفارغة، كل منهم يدعي أنه دكتور متخصص في علوم الكون وما وراء الطبيعية وهذا الدجل الخرافي، الأمر الذي يجذب العامة البسطاء -وحتى المثقفين أحيانًا- نظرًا لغرابته وزخمه وتكراره بصورة غير طبيعية في وسائل الإعلام.
في أوقات الأزمة تُستدعى القصص والأساطير التي لها علاقة مباشرة بتخدير البسطاء، والتي تحمل في مقاصدها معاني الاستسلام للأمر الواقع والقصور عن الحركة والفاعلية في المجتمع، والمبالغة في اتباع المنامات والأحلام وانتظار تحقُّقها دون أن يكون لها سند شرعي واضح
3- ظاهرة المتنبئين بالمستقبل:
في بداية كل عام يطفو على السطح كثير من المنجِّمين الذين يزعمون معرفة المستقبل باستخدام أوراق الكوتشينة أو البلورات الزجاجية أو الأصداف البحرية والرمل أو غيرها من الطرق، فيلقون على مسامع الناس عبر الإعلام أنباءً ستقع خلال العام الجديد (زلازل – براكين – سقوط أنظمة سياسية – الحياة الاجتماعية لشخصيات عامة)، والمتابع الجيد لحركة الإعلام والسوشيال ميديا سيلاحظ تصاعد وتيرة هذه الظاهرة، واتخاذ المنجمين المعاصرين صورة حديثة تتناسب مع العصر الرقمي وهيمنة السوشيال ميديا، فالصورة النمطية للمنجم ذي الثياب الرثة المهلهلة و”الطرطور” المخروطي على رأسه استبدلت الآن بصورة أخرى أكثر تماشيًا مع الواقع الجديد؛ رجل وقور ومهندم يرتدي البدلة والنظارات، وامرأة على قدر عالٍ من الأناقة واللباقة!! والبسطاء مع الأسف يصدقون ذلك لعدة أسباب: أهمها السحر البصري الذي يشاهدونه أمامهم، بالإضافة لوجود سوابق صدق فردية لهؤلاء المنجمين أحيانًا، رغم التحذير الشرعي من مثل هذا السلوك، حيث روى الإمام مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة”، وفي رواية عند أحمد والترمذي وابن ماجه: “من أتى كاهنًا أو عرافًا فقد كفر بما أنزل على محمد”.
وانتشار مثل هذه الظاهرة والاهتمام بها ونشرها هو أيضًا نوع من الهروب من الواقع وشدته، وهو أحد مظاهر الإيمان بالخرافة التي تفشت في زماننا، فمن آمن بالنبوءة لن يتحرك قيد أنملة لتغيير واقعه، ولن تكون له عزيمة أو إرادة أو حتى مجرد رغبة في بذل مجهود ولو ضئيل في سبيل النجاح أو التقدم إلى الأمام، فغاية ما هنالك أن يتكئ على أريكته في انتظار تحقق النبوءة الخرافية التي وعدته بالتغيير، وأنّى له ذلك!!
4- استدعاء التراث الشعبي المروّج للخرافة:
وهذا أحد مظاهر تفشي الخرافات والخزعبلات في عصرنا، فالتراث الشعبي لكل بلد زاخر بالقصص والمعتقدات الخرافية، وهي منتشرة بين أبناء كل شعب، وتعد أحد أبرز المظاهر الثقافية التي تميزه عن غيره من الشعوب، شأنها شأن الثياب والعادات الخاصة بكل بلد، إلا أنه في أوقات الأزمة تُستدعى القصص والأساطير التي لها علاقة مباشرة بتخدير البسطاء، والتي تحمل في مقاصدها معاني الاستسلام للأمر الواقع والقصور عن الحركة والفاعلية في المجتمع، والمبالغة في اتباع المنامات والأحلام وانتظار تحقُّقها دون أن يكون لها سند شرعي واضح، ودون أن يفسرها شخص متخصص أو ثقة. ولعل انتشار برامج تفسير الأحلام من قبل غير المتخصصين -بل والمرتزقة أحيانًا- وتعلق البسطاء بها وتتبعها بلا عقل هو أحد أهم مؤشرات استدعاء مثل هذا التراث الشعبي الواقعة الآن.
لماذا انتشرت الخرافات بهذا الصورة المخيفة؟
1- غياب المنطلقات الشرعية:
السبب الأول والأساسي هو أن قطاعًا عريضًا من المسلمين ليس لديهم من المنطلقات الشرعية ما يؤهلهم للتفرقة بين الحقيقة والخرافة، فيعتنقون ويصدقون كل ما يسمعون، دون أن تكون لديهم الأرضية العلمية والشرعية الأولية التي تعصمهم من اعتناق الخرافة، وهذا فاقم الأزمة وضخم المشكلة، فبدلاً من أن يكون الخطاب الشرعي هو العاصم والمنارة التي تهدي الناس إلى الاتجاه الصحيح، يصبح الخطاب المشوَّه البديل هو الوسيلة التي تضل الناس وتغير مسارهم وتوجههم وتدفعهم نحو الخرافات.
2- الشعور القاهر بالإحباط واليأس:
حينما يصاب الإنسان بالإحباط والهزيمة النفسية فإن ذلك يدفعه دفعًا نحو المخدرات الفكرية التي تسكّن هذه الأوجاع النفسية، فإذا كانت هذه المهدئات سهلة التحصيل ومستساغة فهي غنيمته الباردة، لذا كان توفيرها في كافة وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام أحد أساليب الغزو الفكري ونشر التفاهة والسطحية التي تنشط لها مؤسسات إعلامية هدفها الإثارة من جانب وشغل الرأي العام بقضايا هامشية من جانب آخر.
3- الجهل ونقص الثقافة العامة:
كلما تفشى الجهل وتقلصت قيمة المعرفة في مجتمع تفشت إلى جواره الخرافات، وهناك حرب لا هوادة فيها الآن على الثقافة بكافة أشكالها، وتصدير رموز للمشهد لا وزن لهم معرفيًا ولا ثقافيًا، بل على العكس يُنتقون بعناية بحيث يكونون على قدر كبير من الجهل والسطحية والتفاهة، ليصبحوا قدوات بديلة للشباب، ولتستبدل بهم القدوات العلمية الحقيقية.
الإنسان البسيط الذي تم تجهيله وتسطيح عقله على مدار العقود الماضية هدفه الوحيد هو الوصول إلى حل لمشاكله التي لا تتوقف، لذا فإن أي أمل بسيط يلوح له وسط عتمة الحياة كفيل بجعله يتشبث به، فـ”الغريق يتعلق بقشة”
4- غياب العقلية الناقدة:
وهذه مسألة من الأهمية بمكان، فوجود المسلم في هذا الزمان الذي تفشَّت فيه الرداءة يحتم عليه أن يعرض كل ما يسمع أو يقرأ أو يشاهد على عقله الناقد أولاً قبل أن يتلقاه بالقبول، فلم يعد هناك الآن مجال للتصديق المطلق، وإن كان التوجيه النبوي بالترهيب من إرخاء السمع لكافة المسموعات وتصديقها كما جاء في الحديث: “كفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع”، فإنه من باب أولى أن يطبق هذا التحذير الآن بعد سيطرة أدوات الذكاء الاصطناعي على الحياة بأكملها كما هو مشاهد الآن، فلم تعد لا الصورة ولا الصوت ولا مقاطع الفيديو المرئية ولا حتى المحتوى الكتابي محلاً لثقة المطالِع إلا بعد أن يمحصه ويفكر في مدى منطقيته كثيرًا، ويقلّبه على أكثر من وجه بالرجوع لمصادره والاستيثاق منها، وإلا فإنه سيقع في براثن الخرافات التي صارت تلاحقه في كل مكان.
5- الإعلام غير المسؤول:
للإعلام الإثاري دور كبير في نشر مثل هذه الهرطقات الخالية من أي منطق، فالمكسب المادي الذي يسيطر على عقول صانعي الإعلام في العالم، وعدم تعاملهم بضمير ومسؤولية تجاه المحتوى المنشور، يجعلهم يفتشون عن أي محتوى يثير فضول الناس ليركزوا على نشره مهما كانت عملية نشره ضارة على عقول المشاهدين أو دينهم أو حياتهم، هذا حال أغلبهم إلا من رحم الله، لذا فإن هذا المبدأ البراجماتي كان له أثر كبير في هذا الانتشار المكثف والغزير، فبمجرد ظهور مثل هؤلاء الدجالين في قناة إلا وتتكالب عليهم بقية القنوات الإعلامية لاستضافتهم ونشر خزعبلاتهم.
6- البحث عن حلول سريعة وسهلة للمشكلات وغير مكلفة:
الإنسان البسيط الذي تم تجهيله وتسطيح عقله على مدار العقود الماضية هدفه الوحيد هو الوصول إلى حل لمشاكله التي لا تتوقف، لذا فإن أي أمل بسيط يلوح له وسط عتمة الحياة كفيل بجعله يتشبث به، فـ”الغريق يتعلق بقشة” كما يقال، لذلك فإنه حينما يرى من يغرر به ويخدعه ويزعم أنه حينما يردد طلسمًا مكونًا من حروف وكلمات وأرقام غير مفهومة ستُحل مشكلته؛ فإنه يسارع إلى مثل هذا أملاً في انتهاء أزمته.
7- فساد المناخ العام:
وهذا أحد أهم أسباب انتشار الخزعبلات في المجتمع، فهو المسبب الأساس لحالة اليأس والإحباط التي ينتج عنها اعتناق الخرافة، فالفساد السياسي والضغط الاقتصادي والتفكك الاجتماعي الموجود في بعض المجتمعات، ووأد الإرادة الإنسانية والفاعلية في المجتمع؛ كفيل بقتل الرغبة في الحركة والتغيير، وهذا يهيئ المناخ بصورة متسارعة لتقبل الخرافة واعتناقها وتناقلها بسلاسة وسهولة باعتبارها بديلاً للفعل المجتمعي الفاعل.
ما العلاج إذاً؟
العلاج يكمن في نشر التدابير التي ترشِّح وتفلتر تلك الأفكار فتمرر ما يتماشى منها مع تصوراتنا الشرعية وثوابتنا الاجتماعية والثقافية، وتمنع ما يضادها أو يتعارض معها، وذلك عبر ما يلي:
1- ترسيخ المنطلقات الشرعية والمعرفية والثقافية وتعزيز الوعي بين أفراد المجتمع منذ الصغر، والتربية على تقدير قيمة العلم والثقافة، والتنفير من الجهل والسفاهة والتفاهة والخرافة ومعتنقيها والمروجين لها.
2- عدم الاستسلام لمشاعر الإحباط واليأس، والإيمان بأن التغيير والفاعلية في المجتمع بيد الإنسان نفسه بعد تقدير الله تعالى لهما لا بسبب اعتناق الخرافات؛ قال عز وجل: (إِنَّ اللَّـهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم) [الرعد:11]، فهذا يتطلب منا المجاهدة والحركة، لا الإيمان بالخزعبلات.
3- تنمية العقلية الناقدة في شبابنا وأطفالنا، وضرورة تمرير الأفكار على ميزان الشرع والعقل قبل الإيمان بها واعتناقها، والتمييز بين المصادر الموثوقة للمعلومات وغير الموثوقة، فهذا مما يعصمهم من كثير من الزلل والوقوع في فخ الخرافة.
4- إدراك المؤسسات التعليمية لدورها في نشر الوعي والثقافة، مع تطوير المناهج لتركز على التفكير المنطقي والعلمي منذ الصغر، لتحول بين الشباب والأطفال وبين هذه الأفكار التي تتسبب في تعفن التصورات وتشطح بها نحو الخرافات.
5- إصلاح الإعلام والشجيع على إنتاج محتوى إعلامي متوافق مع الشرع والعقل، ويتعاطى مع القضايا بعقلانية ومنطقية وجدية بعيدًا عن المخدرات الفكرية التي تسمم الأفكار، وتلجئ الناس إلى الهروب من واقعهم.
ختامًا..
إن إدراكنا لخطورة تفشي اعتناق الخرافة في المجتمع هو الخطوة الأولى نحو مواجهتها والقضاء عليها، لذا فإن على الجميع أن يتعاضدوا في كشف هذه المساعي المحمومة لنشر الخزعبلات، وعلى كل من قلّده الله منصبًا أو مسؤولية في المجتمع أن يبذل وسعه في مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة..