
الضّيم اللغويّ.. عن أبنائنا والعربيّة والهويّة المهدّدة بالانصهار في الغربة
تعرّضت بلادنا العربية في العقدين الأخيرين لكثير من العواصف السياسية والعسكرية، ونوبات من المدِّ والجزر الفكري والثقافي، فتقاذفتنا الأمواج ورمت بنا في بلاد مختلفة وأراض غريبة عنا، فتشبّه بعضنا بنبات البامبو وأنبت لنفسه جذوراً امتدت في التربة الجديدة، وبقي بعضنا عالقاً بين دفاتر الماضية غير مستبشر بصفحات المستقبل، وأياً ما تكن حالنا فإن واقع الهجرة فُرض علينا وتحمّل الأبناء تبعاته في تشكيل أنفسهم وصياغة أفكارهم وتثبيت جذورهم وتعليق انتمائهم، وهذا ما يجعلنا اليوم في تحدٍّ كبيرٍ، فطرف منا يريد الحفاظ على أصوله وانتمائه وهويته، وطرف يريد الانسجام مع البيئة الجديدة لتخفيف عبء الشعور بالغربة وعدم الانتماء، ورغبة بانتزاع القبول من الآخر المضيف.
نعيش في بلاد النزوح والمهجر صراعاً حقيقياً، إذ نريد أن نحافظ على هوية أبنائنا وانتمائهم ولغتهم الأم، ونريد أن نُشعِرهم بالمسؤولية تجاهها كونها البوابة الأولى لبناء كيانهم الخاص والوسيلة الأهم لإنشاء الرابطة العقدية عقلاً وقلباً وروحاً بوصفنا مسلمين، لا سيّما أنهم نشؤوا في بيئة مختلفة عن بيئة آبائهم وأمهاتهم، وفي ظل واقع مختلف وظروف جديدة تفرض عليهم لغة المكان الذي يقيمون فيه لأنها اللغة المعتمدة في المدارس والجامعات ومعظم المؤسسات بطبيعة الحال.
تعدّ اللغة العربية شأنًا دينيًا أكثر من كونها شأناً قومياً، فهي اللغة المقدسة لدى جميع المسلمين على اختلاف ألسنتهم وأعراقهم وانتماءاتهم القومية، وهم جميعاً في سعي دائم لتعلّمها وإتقانها لأنّها مفتاح الولوج إلى فهم القرآن الكريم وعلوم الإسلام وتشريعاته، كما أنها ركن أساسي في أداء العبادات والشعائر الإسلامية كالصلاة والدعاء وغير ذلك.
إنّ ضيمًا لغويًا وظلمًا لسانيًا يلحق بإحدى اللغتين المشتبكتين في اللسان الواحد، وقد عبّر الجاحظ عن هذه الفكرة في البيان والتبيين بقوله: “واللُّغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أدخلتْ كلُّ واحدة منهما الضيمَ على صاحبتِها”. وناقشت الكاتبة الأمريكيّة (ويندي ليسر) هذه القضيّة بصدق ومكاشفة واستفاضة في كتاب (عبقريّة اللغة)، وعبّرت وهي تتحدث عن جوانب مسألة ازدواجية اللغة في اللسان الواحد عما يعترينا جميعاً عند الحديث عن مفهوم (اللغة الأم) مقابل (اللغة الثانية) من مشاعر مختلطة.
وهنا نجد أنفسنا أمام سؤال صارخ: ماذا عن أبنائنا في بلاد المهجر والنزوح؟ هل يتعلمون اللغة العربية بوصفها اللغة الأم أو يتعلمونها بوصفها اللغة الثانية التي يرغب آباؤهم وأمهاتهم بتعليمهم إياها؟ وهل ترتبط في أذهانهم بالعقيدة والانتماء بوصفها لغة الدين أو بكونها لغة تحفظ لهم انتماءهم القومي والوطني فحسب؟
عن واقع اللغة العربية في بلاد المهجر والنزوح غير العربية
من الطبيعي أن نواجه في ظل الهجرة القسرية أو الإرادية، التي عاينها كثير من أبناء دول الربيع العربي، ظروفاً مختلفة عما ألفناه من أمن واستقرار، وتحديداً ما يتعلق بقضايا الانتماء والهوية، فأبناؤنا في دول المهجر يواجهون عقبات وصعوبات كبيرة ومعقدة إذا ما أرادوا أن يتشبثوا بأصولهم وانتمائهم، وخاصة في مجال تعلم اللغة العربية، على أن المعوّل عليه في ذلك هو حرص الأبوين على تعلم أبنائهم اللغة العربية، وإشعارهم بأهميتها وارتباطها العميق بوجودهم وانتمائهم وعقيدتهم. فأخطر ما يعيشه الأبناء اليوم في دول النزوح أو المهجر شعورهم بالشتات النفسي والتخبط الفكري تجاه مفهوم الانتماء، وأخص بذلك أولئك الذين باتوا يحملون جنسيتين مختلفتين، فاختلطت لديهم مشاعر الانتماء واختلفت توجهاتهم الفكرية. على أن اعتزاز الأبوين بلغتهما ينتقل طواعية وبسلاسة وعذوبة إلى أبنائهم، فخير معلّم هو النموذج الحيّ والأسوة الماثلة أمام العين، والأبناء كما يقال مرايا آبائهم وأمهاتهم، لذلك إذا ما تزعزع شعور الأهل بأهمية اللغة بوصفها عنصراً أساسياً من عناصر الهوية فلا عجب أن تتزعزع أركان الانتماء لدى الأبناء، ناهيك من أننا نواجه اليوم جيلاً مختلفاً عنا؛ يبحث عن الطرق السهلة التي لا تضطره إلى بذل جهد كبير لتحقيق أهدافه سواء في التعليم أو العمل!
كثيراً ما يحدث لغط كبير بين مفهومي الاندماج والانصهار، إذ تتسارع خطوات الاندماج تَتْرَى للتخلص من ثقل الشعور بالغربة والانزواء والاختلاف عن الآخر الذي يمثل ابن البيئة الجديدة والمجتمع المستضيف، لكن هذا التسارع يجب أن يكون مدروسًا ومُحكَم الخطوات، وإلا فإنه يوصل إلى الانصهار والذوبان في الآخر وضياع الذات وشتاتها وغيابها
يُعدّ الحفاظ على اللغة الأم في المهجر مظهراً من مظاهر الانتماء، وهي السبيل الأول ويكاد يكون الأهم للحفاظ على روابط الأبناء بأركان هويتهم الأصلية فكراً وعقيدة، وهي المعوّل عليه لحماية الأجيال الناشئة في بلاد المهجر من الانصهار والذوبان في الهويات المختلفة، لكن المؤسف في واقعنا الحالي أن كثيراً من العائلات حصروا مفهوم اللغة وأطّروا أهميتها في نطاق التواصل مع الأهل وأفراد العائلة القابعين في بقاع أخرى من هذا العالم. لذلك لا بد من استحضار أقوال أئمة الإسلام لتعزيز الشعور بالانتماء لدى الآباء والأمهات قبل الأولاد، إذ لا يمكننا التعويل على جيل نشأ في أرض غريبة وبين أقران مختلفين عنه فكراً وعقيدة في مسألة الحفاظ على الهوية والانتماء، فالأبوان هما الأساس والمصدر الرئيس لتغذية الانتماء وتقويته وتعزيزه وتأكيد أهمية حضور اللغة العربية في نفوس الأجيال، وخير مثال على ذلك ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه “اقتضاء الصراط المستقيم” معبراً عن فرادة اللغة العربية وأهميتها المنبثقة من ارتباطها بفكر المرء وعقيدته: “اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميّزون”. وكذلك ابن كثير الدمشقي الذي قال في تفسيره لقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف/2): “وذلك لأنّ لغة العرب أفصح اللّغات، وأبينها وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنّفوس، فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللّغات على أشرف الرّسل بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتُدِئ إنزاله في أشرف شهور السّنة وهو رمضان، فكَمُل من كلّ الوجوه”.
ما الحد الفارق بين الاندماج والانصهار اللغوي؟
كثير من الناس لا يميز بين الاندماج والانصهار لغة وفكراً وثقافة، على أن الفرق كبير وخطير، فحين وجد أبناؤنا أنفسَهم في بلاد غريبة عنهم رأوا أن الاندماج بالمجتمعات الجديدة ضرورة مُلِحّة وحاجة في الوقت نفسه، ولا ضير من الاندماج إذا ما استطاع الإنسان أن يحافظ على كيانه وعقيدته ومبادئه، فقد قال تعالى في سورة الحجرات: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾، فالتعارف والتقارب بين الناس والشعوب المختلفة أمر إنساني بحت، ومن الطبيعي حين يجد المرء نفسه مضطراً للعيش بين أناس لا يتقن لغتهم أن يفكر بتعلمها وإتقانها، فالاندماج اللغوي هو الاختلاط بأهل اللغة الثانية ومعاملتهم ومعاشرتهم للتمكن من لغة المكان الجديد، ويتحقق الاندماج بذهنية الانفتاح على اللغات الأخرى وما تحمله من منهجيات وأساليب تفكيرية، بدون التخلي عن اللغة الأم وما فيها من بناء عقلي وفكري، فالمقصود بالاندماج اللغوي ليس امتزاج المتعلم بالبيئة اللغوية حتى مرحلة التخلي عن ثقافته، أو هيمنة الثقافة الأخرى واستحكامها لديه حتى تغيب ملامح ثقافته وبيئته ولغته الأم، وإنما الهدف من الاندماج اللغوي هو الإفادة من المجتمع الجديد وتبادل التأثر والتأثير الإيجابي، فمهما بلغ الامتزاج مداه فإنه ليس من الصائب أن يصبح المرء محكومًا بالمطلق بمعطيات البيئة الجديدة ولا ينبغي له أن يتخلى عن هويته وانتمائه وثقافته لصالحها.
أمّا الانصهار اللغوي فهو تحول اللغة في عقول أبنائها من الحالة الصلبة إلى السائلة، مما يؤدي إلى تبخرها بسهولة وانسحابها وتراجعها عن ألسنتهم لصالح لغة البيئة الجديدة التي يعيشون فيها، حتى تصبح لغتهم الأم ومكونات ثقافتهم أثرًا بعد عين. وهنا تكمن خطورة الانصهار في الآخر، فالانصهار محكوم بتلاشي معالم الهوية وضياعها بالمطلق، مما يعني شتاتاً نفسياً وتبعثراً حقيقياً في الانتماء، وضعفاً عميقاً في القدرة على التمييز بين ما هو أصيل متجذر في مكونات الهوية وعناصرها، وبين ما هو غريب دخيل.
كثيراً ما يحدث لغط كبير بين مفهومي الاندماج والانصهار، إذ تتسارع خطوات الاندماج تَتْرَى للتخلص من ثقل الشعور بالغربة والانزواء والاختلاف عن الآخر الذي يمثل ابن البيئة الجديدة والمجتمع المستضيف، لكن هذا التسارع يجب أن يكون مدروسًا ومُحكَم الخطوات، وإلا فإنه يوصل إلى الانصهار والذوبان في الآخر وضياع الذات وشتاتها وغيابها عن الواقع.
إنّ ضياع اللغة العربية وتزعزع مكانتها لدى الأجيال الناشئة في بلاد النزوح والمهجر يخلق مسافة بعيدة وأخاديد عميقة بينهم وبين ثقافة آبائهم وأمهاتهم وأوطانهم، ويترك شرخاً كبيراً في انتمائهم الوطني والقومي والديني؛ فليت شعري هل يسارع العاقلون إلى ردم الأخاديد والعمل على لَأْمِ الشروخ قبل أن نذوب حيث يجب أن يكون وجودنا صلباً متيناً وحضورنا راسخ الجذور؟!