
التأصيل الفكري للعلاقات الدولية في الفقه الإسلامي
في ظل الأزمة العميقة التي تمرّ بها العلاقات الدولية المعاصرة، سواء على الصعيد التنظيري أو القيمي، تتزايد الحاجة إلى إعادة النظر في الأسس التي تقوم عليها النظريات السائدة، وفي مقدمتها النظرية الليبرالية.
رغم أن الليبرالية حاولت أن تحشد أدواتها الفكرية وقيمها وكل طاقات مفكريها في العلاقات الدولية، من أجل أن تظهر بمظهر من يمتلك القدرة على تنظيم شكل العالم، وبناء العلاقات الدولية، التي تحكم الدول والمجتمعات، إلا أنها لا تزال تعاني من التناقضات والانحيازات الحادة، وتُظهر محدودية واضحة في التعامل مع الأزمات المتراكمة والمعقّدة التي يعيشها العالم.
وبدلًا من تحقيق العدالة والسلم العالمي، بات النظام الدولي رهينة لمعادلات القوة والمصالح، ما أفرز مظاهر هيمنة واستعلاء ثقافي غربي أمريكي ملبرل، مقابل فقدان للبعد الأخلاقي في كثير من الأحيان- كما أشرنا سابقا-
ورغم هذه المآزق الواضحة والحاجة الكبيرة إلى البدائل، فإن الحضور الإسلامي، سواء على المستوى التنظيري أو الفكري، لا يزال ضعيفًا وهامشيًا في حقل العلاقات الدولية، وكأن المسلمين تخلّوا عن طموحهم في أن يكون لهم مشروع بديل، أو حتى أن يكونوا شريك في بناء نظريات جديدة أكثر عدالة وشمولية.
هذا الغياب ليس مردّه إلى فقر في التراث أو ضعف في التأصيل، بل إلى غياب الإرادة الفكرية والمؤسسية لإعادة إحياء ما أنجزه علماء المسلمين في هذا الباب، وإدماجه ضمن السياقات المعرفية المعاصرة.
ذلك أن الفقه الإسلامي، ومنذ القرون الأولى، أسّس بالفعل لرؤية عميقة ومنظّمة للعلاقات الدولية، وإن لم تُسمَّ بهذا الاسم في ذلك الوقت. ويُعدّ الإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله من أوائل الفقهاء الذين اهتموا بهذا المجال اهتمامًا تأسيسيًا، حيث كأن يُلقي دروسًا على طلابه حول قضايا السلم والحرب، ويضع القواعد النظرية للأمن في الحرب والسلم، والقتال ومحدداته، والرباط، والجزية، والخراج، وأحكام أهل الذمة والمستأمنين. وهذه المسائل لم تكن أحكامًا فقهية متفرقة، بل كانت تؤسس لفقه منظم للعلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول والكيانات السياسية.
المطلوب ليس مجرد العودة إلى كتب الفقهاء، بل إعادة صياغة تلك الرؤى وفق مناهج علمية حديثة، تُخاطب العالم بلغة القانون والواقع، وتثبت أن للإسلام إسهامه الفكري العميق في بناء عالم أكثر عدلًا وتوازنًا.
وقد واصل تلامذته من بعده هذا الجهد، ومن أبرزهم الإمام محمد بن الحسن الشيباني، الذي يُعدّ كتابه “السير الكبير” من أبرز ما كُتب في هذا المجال، حتى بات مرجعًا لا غنى عنه في تأصيل قواعد العلاقات الدولية في الإسلام. ويُعتبر هذا الكتاب بمنزلة دستور فقهي شامل للعلاقات الخارجية للدولة الإسلامية، حيث ناقش فيه مسائل الحروب والمعاهدات، وحقوق غير المسلمين، والتعامل مع الرسل والسفراء، وقواعد الأمن والأمان بين الدول وغيرها.
وتقديرًا لهذا العمل الرائد، أنشأ عدد من علماء القانون الدولي في ألمانيا جمعية باسم “جمعية الشيباني للحقوق الدولية” في مدينة “غوتينغن”، بهدف التعريف بفكر الإمام الشيباني، وإبراز إسهاماته في القانون الدولي.
كما قامت منظمة اليونسكو بترجمة كتاب “السير الكبير” إلى اللغة الفرنسية، وهذا يعد اعترافاً صريحاً بسبق الفقه الإسلامي إلى تأصيل وتأسيس الأحكام القانونية للعلاقات الدولية تحت مصطلح الجهاد والسير[1]، هذا المنتج الفكري جاء ضمن منظومة فقهية وقانونية أصيلة، أبرزت هذه المصطلحات “السير” و”الجهاد” وغيرها من المصطلحات الإسلامية، وهي في مضمونها تحمل نفس ما بات يُعرف اليوم بمبادئ القانون الدولي العام.
كل هذه المؤشرات تدفعنا إلى طرح سؤال جاد:
هل يمكن أن يكون لدى المسلمين اليوم عمل تنظيري معاصر يعيد بعث النظرية الإسلامية في العلاقات الدولية، ويجعلها بديلًا حقيقيًا للنظرية الليبرالية؟
إن الإجابة على هذا السؤال لا تتوقف على مجرد النية، بل تحتاج إلى جهود علمية شجاعة، ومؤسسات بحثية رصينة، ووعي حضاري يثق بتراثه، دون أن ينغلق على ذاته أو يغفل عن معطيات العصر. المطلوب ليس مجرد العودة إلى كتب الفقهاء، بل إعادة صياغة تلك الرؤى وفق مناهج علمية حديثة، تُخاطب العالم بلغة القانون والواقع، وتثبت أن للإسلام إسهامه الفكري العميق في بناء عالم أكثر عدلًا وتوازنًا.
[1] عبد الرحمن زيدان الحواجري، 2002: المعاملة بالمثل في العلاقات الدولية في الفقه الإسلامي، غزة، الجامعة الإسلامية، قسم الفقه المقارن، ص41.