
فقه الأولويات في عشر ذي الحجة: بين العبادات الفردية وواجبات الأمة
أ. سامي الراشد
تُعدّ العشر الأوائل من شهر ذي الحجة من أعظم الأيام عند الله تعالى، وقد وردت نصوص كثيرة في فضلها وفضل العمل فيها. إلا أن بعض الخطاب الديني يركّز تركيزًا مفرطًا على العبادات الفردية مثل الذكر والصيام، دون أن يبيّن أن العمل الصالح في هذه الأيام يشمل أيضًا الأعمال المتعدّية للغير، كإغاثة الملهوف، ونصرة المظلوم، والدفاع عن قضايا الأمة. وهذا طرح قاصر، يخالف مقاصد الشريعة ويُهمل فقه الأولويات، خصوصًا في ظل نوازل عظيمة كما نشهده اليوم في غزة وغيرها من بلاد المسلمين.
فضل العمل الصالح في عشر ذي الحجة
ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «ما العَمَلُ في أيامٍ أفضلَ منها في هذه»
قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟
قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء» (رواه البخاري، حديث رقم 969)
فالحديث يدل بوضوح على أن كل أنواع العمل الصالح في هذه الأيام أعظم أجرًا من غيرها، ولا يقتصر على الصيام والذكر فحسب، بل يشمل:
• الصدقة
• الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
• نصرة المظلوم
• إصلاح ذات البين
• الدعوة إلى الله
• قضاء حوائج المسلمين
إذ إن كلمة “العمل” جاءت مطلقة، فالأصل حملها على عمومها، إلا بدليل يخصص.
القاعدة الأصولية في تقديم الواجب المتعدي
من القواعد الفقهية المعتمدة عند أهل العلم: “الواجب العيني مقدَّم على النفل، وفرض الكفاية إذا تعيّن صار فرضًا عينيًا”
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: “أفضل العمل ما كان أنفع، والنفع يتفاوت بتفاوت الزمان والمكان والأشخاص” (مجموع الفتاوى، 11/ 620)
ففي زمن النوازل والمحن، يُصبح نُصرة المظلومين، والدفاع عنهم، والقيام بحقوقهم، من أعظم الأعمال وأقربها إلى الله تعالى، بل تتقدم على كثير من العبادات التي يُمكن تأجيلها أو لا تتعلق بمصلحة عامة.
الأعمال المتعدية أحب إلى الله من القاصرة
ورد عن رسول الله ﷺ أنه قال:
«أحبُّ الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دَينًا، أو تطرد عنه جوعًا…»
(رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم 176)
وقال ﷺ أيضًا:
«ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة، أحبّ إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا»
(رواه الطبراني، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم 906)
فهذه الأحاديث تدل دلالة قاطعة على عظيم أجر الأعمال المتعدية التي ينفع بها العبد غيره، وأنها في ميزان الشرع قد تفوق بعض العبادات الفردية في أجرها ومكانتها.
نازلة غزة وواجب الوقت
في ظل ما يمر به أهل غزة من:
• قتل وتهجير وتجويع
• قصف ممنهج للمساكن والمستشفيات
• حصار خانق
• انتهاك لأبسط حقوق الإنسان
يكون من أوجب الواجبات اليوم: الدعاء، والدعم المالي، والتوعية، والمقاطعة النافعة، والضغط الإعلامي والسياسي، وكل وسيلة نصرة ممكنة، بحسب القدرة.
وهذا من صريح قوله ﷺ:
«من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (رواه مسلم، حديث رقم 49)
فإنكار المنكر والنهي عن الظلم واجبٌ شرعي لا يسقط بالتعبد المجرد، بل يُعدّ من أسمى القربات.
فقه الأولويات في هذه الأيام
فقه الأولويات يقتضي في هذه الأيام أن يُجْمَع بين:
• تعظيم شعائر الله والقيام بالعبادات الفردية (الصيام، الذكر، الصلاة)
• والانشغال بما هو أوجب وأشد نفعًا من أعمالٍ تُعين الأمة وتخفف عنها
وهذا الجمع هو الهدي النبوي، وهو ما جسّده النبي ﷺ طوال حياته، حيث ما كان يكتفي بالصلاة والصيام، بل كان قائدًا، ومربيًا، ومُغيثًا، ومصلحًا، ومجاهدًا
فالقول بالاكتفاء في عشر ذي الحجة بالذكر والصيام فقط، مع إغفال النصرة للمظلومين، والتفاعل مع قضايا الأمة، قول قاصر يفتقد لفقه الواقع ومقاصد الشريعة.
والصحيح أن كل عمل صالح يُضاعف في هذه الأيام، وأن من أعظم هذه الأعمال: إغاثة الملهوف، ونصرة المظلوم، وكشف الكربات، وبذل الجهد لنصرة الأمة.
قال الله تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرًا وأعظم أجرًا} (سورة المزمل: 20)
نسأل الله أن يوفّقنا لصالح الأعمال، وأن يجعلنا من عباده النافعين، وأن يرفع البلاء عن أهل غزة وسائر المسلمين.