
خصائص العلاقات الدولية المعاصرة
كما أشرنا مسبقًا، فإن العلاقات الدولية ذات طبيعة متشابكة ومعقّدة، فهي لا تخضع لقواعد ثابتة أو مسارات مستقرة يمكن أن تتبعها جميع الدول، بل تتأرجح بين المصالح المتغيرة والتوازنات الهشة التي ترسم ملامح النظام العالمي. ولهذا السبب، فإن العالم يعيش اليوم حالة من عدم الاستقرار، تتفاقم مع تطوّر الأسلحة والتقنيات السياسية والعسكرية والاستخباراتية، ما يجعل العلاقات الدولية أشبه بحقل ألغام سياسي قابل للانفجار والانهيار في أية لحظة.
فالمشهد الدولي لا يقوم على ثوابت راسخة، بل على تحالفات مرنة وتوازنات مصطنعة، لا تصمد طويلًا أمام تغير المصالح أو تبدّل السياسات. وإن نظرة متأنية إلى نمط العلاقات الدولية المعاصرة تكشف عن سمة خطيرة تطبعها، وهي سمة الاستقطاب الحاد، حيث تنقسم الدول بين قوى كبرى تمتلك أدوات التأثير والضغط، ودول صغرى تسعى لتأمين مكان لها ضمن هذا النظام القلق والمضطرب.
على هذا الأساس، نشأ ما يسمى بـ”النظام الدولي الجديد”، وهو في حقيقته ليس سوى إعادة إنتاج لهيمنة بعض القوى الكبرى، وتكريس شديد الوطأة لممارسات خاطئة سادت في العلاقات الدولية، والتي من نتائجها تعميق الفجوة بين الدول، وزيادة التبعية، وتآكل فكرة السيادة الوطنية في كثير من الأحيان. لذلك، لم يكن غريبًا أن يوجّه المفكرون ومنظّرو العلاقات الدولية سهام النقد إلى هذا النظام، إذ يرونه غير عادل في جوهره، ولا يستند إلى أسس قانونية أو أخلاقية متماسكة.
في هذا الإطار، يشير هؤلاء المفكرون إلى خاصيتين أساسيتين تطبعان منهج العلاقات الدولية في النظام الدولي الجديد:
يشير الباحثون بالعلاقات الدولية إلى أن هدف الدول الكبرى في الغرب من التلاعب بالقيم الفكرية والأخلاقية للعلاقات الدولية أنها من اجل ترك دول العالم في حالة قلق دائم وهذا بدوره سوف يُؤدّي إلى الإخلال بتوازن القوة العالمي مما يتيح لها السيطرة على العالم ونهب خيراته.
أولاهما: هشاشة القوة الإلزامية لقواعد القانون الدولي.
فالقانون الدولي، في مبدئه النظري، يُفترض أن يكون الحَكَم والفيصل في تنظيم العلاقات بين الدول، وهو الذي يحدّد الحقوق والواجبات، ويضبط سلوك الفاعلين الدوليين. غير أن الواقع يبيّن بجلاء أن هذا القانون يعاني من ضعف شديد في إلزاميته، خاصة حين يتعلق الأمر بالقوى الكبرى أو الدول التي تمتلك حق النقض في مجلس الأمن الدولي.
مثال واضح على ذلك هو الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، حيث شُنَّت الحرب دون تفويض مباشر من مجلس الأمن، ودون احترام لمبادئ القانون الدولي المتعلقة بالسيادة وعدم التدخل. وقد ثبت لاحقًا أن الذرائع التي استُخدمت لتبرير الغزو، مثل امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، لم تكن دقيقة، ما يكشف ضعف الإلزام القانوني أمام القوة العسكرية والسياسية للدول العظمى. وكذلك الأمر في الحرب الروسية على أوكرانيا عام 2022، حيث رأت روسيا أنها تتحرك دفاعًا عن أمنها القومي، بينما رأت أغلب الدول الأخرى أن ذلك يمثل خرقًا صارخًا للقانون الدولي. ومع ذلك، ظل الرد الدولي غير حاسم، بسبب توازنات القوى داخل مجلس الأمن وحق الفيتو الذي تملكه روسيا.
ثانيهما: هشاشة الأساس الأخلاقي الذي يرتكز عليه المنهج. [1]
المقصود هنا منهج العلاقات الدولية، فالعلاقات الدولية في جوهرها، يجب أن تستند إلى منهج يحترم قيم التعاون، والعدالة، والاحترام المتبادل، لكنها في الواقع تغيب عنها هذه المبادئ، لتحلّ محلها المصالح الذاتية الضيقة، ومنطق الربح والخسارة، والقوة والهيمنة. وبذلك، تصبح الأخلاق في العلاقات الدولية مجرد شعارات تُرفَع في المؤتمرات والبيانات الصحفية، بينما تسود في الممارسة اليومية سياسات لا إنسانية، تتجاهل حقوق الشعوب، وتغضّ الطرف عن المآسي، ما دام ذلك يخدم أجندات معينة.
لعل أوضح مثال على هذا التناقض الأخلاقي هو القضية الفلسطينية، حيث تستمر الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان ولقرارات الأمم المتحدة منذ عقود، دون وجود موقف دولي حاسم أو فاعل، بالرغم من وضوح القانون الدولي في هذه المسألة. فبينما تُرفع شعارات الحرية وحقوق الإنسان، تُغضّ الأبصار عن الحصار، والاستيطان، والاعتداءات، لأسباب سياسية واقتصادية تتعلق بدعم بعض القوى الكبرى لإسرائيل. مثال آخر يمكن طرحه هو الموقف الدولي من الأزمات الإنسانية في اليمن أو السودان، حيث تتعامل الدول الكبرى بازدواجية في المعايير، فتدعم أطرافًا على حساب أخرى وفقًا لمصالحها الاستراتيجية، وليس بناءً على مبدأ العدالة أو حماية المدنيين.
إن غياب هذا الأساس الأخلاقي يجعل من النظام الدولي الجديد حالة من العبث السياسي، الذي يُضفي شرعية على الظلم، ويُلبس القمع لباس “الحفاظ على الأمن والسلام”، ويدّعي الديمقراطية بينما يدعم أنظمة استبدادية. وهكذا، يُختزل الإنسان إلى رقم في معادلة جيوسياسية، لا قيمة له ما لم يتقاطع مع مصالح القوى المتحكمة في النظام.
كما يشير الباحثون بالعلاقات الدولية إلى أن هدف الدول الكبرى في الغرب من التلاعب بالقيم الفكرية والأخلاقية للعلاقات الدولية أنها من اجل ترك دول العالم في حالة قلق دائم وهذا بدوره سوف يُؤدّي إلى الإخلال بتوازن القوة العالمي مما يتيح لها السيطرة على العالم ونهب خيراته.
لابد من الإشارة إلى أن العقل البراغماتي الغربي الذي رسخ العلاقات الدولية على أسس المصلحة الوطنية والقوة، يهدف من ذلك توليد عقلية عالمية بلا قيم إنسانية، يسهل عليه السيطرة عليها بهذه المفاهيم التي يمتلكها، فهو يحتكر مفهوم المصلحة الوطنية ويحترك القوة، ولذلك نقول بالطبع من حق الدول أن تقيم علاقاتها على المصلحة الوطنية لكن بشرط أن تكون مصلحة متوازنة، ولكن الغرب يعمل على الحصول على جميع المكاسب لمصلحته الوطنية على حساب مصالح الأخرين لذلك تحول العالم إلى غابة، وهذه الغابة لا تكتمل صورتها دون اللجوء إلى القوة، وجعلها المعيار الضابط للعلاقات الدولية وليس القيم والأخلاق الإنسانية.
[1] صالح الحصين، 2008: العلاقات الدولية بين منهج الإسلام ومنهج الحضارة المعاصرة، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، ص 14.