المقالات

الصدق: من القيمة الأخلاقية إلى البنية الوجودية للمجتمع رؤية إسلامية فكرية معاصرة

أ. سامي الراشد

ليس الصدق مجرد خُلق يُمارسه الإنسان في سلوك جزئي من حياته، بل هو تعبير عميق عن تماسك الذات واتساق الوجود وحقيقة الوعي. الصدق هو ما يربط الإنسان بحقيقته، ويؤسس لعلاقته بالكون، وهو قبل أن يكون كلامًا مطابقًا للواقع، هو تماهٍ وجودي بين القول والفعل، بين القلب واللسان، بين الظاهر والباطن.

في زمننا هذا، لم تُفقد قيمة كما فُقدت قيمة الصدق، ولم تتشوه فطرة كما تشوهت الفطرة التي تميز الصادق من الكاذب. نحن نعيش في عصر يُكافأ فيه التزوير، ويُتجاوز فيه الكذب باسم “الواقعية السياسية”، و”الذكاء التسويقي”، و”الفن الدبلوماسي”.

أولًا: الصدق في التصور الإسلامي — أصل لا فرع

في البنية القرآنية، الصدق ليس فضيلة أخلاقية فحسب، بل صفة وجودية لله تعالى أولًا، ثم لأنبيائه، ثم للمؤمنين: {ومن أصدق من الله قيلًا} [النساء: 122] {واذكر في الكتاب إبراهيم، إنه كان صِدِّيقًا نبيًا} [مريم: 41]

فالله هو الحق، وكل صدق في هذا الوجود إنما هو تجلٍّ من تجليات أسمائه وصفاته، ولذلك جاء الأمر الإلهي: {كونوا مع الصادقين} [التوبة: 119]وهو أمر بأن تكون لا فقط صادقًا، بل في معسكر الصادقين، ومنهجهم، وثقافتهم، وانحيازهم الوجودي.

ثانيًا: الصدق كمعيار فلسفي للوجود الإنساني

الصدق في جوهره هو مطابقة بين الظاهر والباطن، وبهذا المعنى، فإن الصدق هو هوية الإنسان المتسقة. الكذب، على النقيض، هو انفصام بين الذات وصورتها، بين الكينونة والقول، وهو نوع من الوجود المزيف أو كما يسميه هايدغر: “السقوط في الزيف”.

من هنا نفهم لماذا كان الكذب أول طريق إلى النار: “وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار…” (رواه البخاري ومسلم)
لأن الكاذب يمزق نسيج الواقع، ويعيش في عالم من الخداع الذاتي، فيتحول إلى كائن متشظٍّ، هشٍّ، قابل للسقوط أمام أي حقيقة.

النبي ﷺ لم يقل فقط: “عليكم بالصدق”، بل جعله سببًا للجنة، ومصيرًا أخرويًا: “إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة…” وهذا يحمل دلالة فلسفية: أن الصدق يبني داخلك طريقًا متدرجًا نحو الطهارة، بينما الكذب يفتح أبواب الانحدار النفسي والسلوكي.

ثالثًا: انهيار الصدق في عالم اليوم — ما بعد الحقيقة

في ظل ما يسمى بـ”عصر ما بعد الحقيقة” (Post-truth)، أصبحت العاطفة أهم من الوقائع، والانطباع أقوى من البرهان. يكذب السياسي على شعبه صباح مساء، ويصفق له الناخبون ما دام يخاطب مخاوفهم أو أوهامهم.

تشير تقارير مثل Edelman Trust Barometer 2023 إلى أن أكثر من 60% من سكان العالم لا يثقون بالأنظمة الرسمية، وأن هناك انحدارًا عالميًا في الثقة بالسياسيين، الإعلام، وحتى المؤسسات التعليمية.

وفي السوق، أصبح الكذب أداة تسويق، وتحوّل الإعلان من نقل الحقيقة إلى صناعة الإقناع المزيف، حتى بلغت خسائر الغش التجاري والاحتيال الرقمي أكثر من 5% من الناتج العالمي سنويًا (تقديرات البنك الدولي).

رابعًا: الصدق كعلاج حضاري

في لحظة الغرق العالمي في الصور، والتزوير، والتلاعب بالعقول، يأتي الإسلام ليطرح الصدق لا فقط كقيمة أخلاقية، بل كـ”بنية حضارية”، أي كشرط لإقامة العدالة، والاستقرار، والعلاقات الإنسانية السليمة.

النبي ﷺ لم يقل فقط: “عليكم بالصدق”، بل جعله سببًا للجنة، ومصيرًا أخرويًا: “إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة…” وهذا يحمل دلالة فلسفية: أن الصدق يبني داخلك طريقًا متدرجًا نحو الطهارة، بينما الكذب يفتح أبواب الانحدار النفسي والسلوكي.

خامسًا: الكذب والخراب الوجودي

لو نظرنا إلى نتائج الكذب على مستوى الحضارة، لوجدنا أنه أدى إلى:
• فقدان الثقة بين الشعوب وحكامها، وهو أساس الاستبداد والفوضى.
• انهيار العلاقات الأسرية بسبب الخيانة والكذب بين الأزواج.
• فساد المعاملات الاقتصادية، حيث يُشترى الكاذب بثمن، ويُهمّش الصادق.
• تشوه الهوية الفردية، فالشاب الذي يكذب على مجتمعه، لا يعرف من هو.

الكذب اليوم لم يعد مجرد “كلمة خاطئة”، بل أصبح نظامًا ثقافيًا عالميًا، تُبنى عليه الحملات الانتخابية، والسياسات الدولية، والحروب الإعلامية.

خاتمة: الصدق ليس شعارًا بل موقف وجودي

أن تكون صادقًا، معناه أن تكون حرًّا، لأن الكاذب عبد لمخاوفه.
أن تكون صادقًا، معناه أن تكون مسؤولًا، لأن الصدق يحتاج شجاعة.
أن تكون صادقًا، معناه أن تكون مؤمنًا بالله حقًا، لأن الصدق مفتاح اليقين.

الصدق اليوم ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية، وربما لا ينهض العالم إلا حين يعود إلى هذه القيمة التي أسسها الأنبياء، وورثها الصادقون. فهل نملك شجاعة الصدق، في عالم يعلّمنا أن الكذب هو الطريق الأقصر للنجاح؟ {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} [المائدة: 119]

غراس للإنتاج الفكري

مركز غراس للإنتاج الفكر ي هو مؤسسة غير ربحية معنية بتحرير وتناول القضايا الفكرية والاجتماعية المعاصرة، تأسست في أكتوبر/تشرين الأول لعام 2023 ، والموافق ربيع الأول 1445 للهجرة.

غراس للإنتاج الفكري

مركز غراس للإنتاج الفكر ي هو مؤسسة غير ربحية معنية بتحرير وتناول القضايا الفكرية والاجتماعية… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى