لماذا لم يخلق الله تعالى الإنسان منزوعَ الشرّ؟ أليس هذا أَليَقُ برحمة الله تعالى؟!
من أسئلة “لماذا؟” التي تتفجّر في العوالم الداخليّة للنّفس البشريّة مع استعلاء الظّلم واستبداد الأشرار واتساع مساحة الألم وطول أمد الجراح الرّاعفة سؤال يقول: لماذا لم يخلق الله تعالى الإنسان منزوعَ الشرّ؟ أليس عالمٌ من الرجال الطيبين أليق برحمة الله تعالى من وجود كل هؤلاء الأشرار القتلة؟ لماذا لم يخلق الله تعالى البشر ببراءة الأطفال وطيبة قلوب الأمهات؟
وهذا السؤال متفرّع عن “مشكلة الشرّ” التي يتفرع عنها الكثير من الأسئلة التي تثير القلق الإيماني في ظلّ الأزمات، غير أننا سنتوقف عند حدود هذا السؤال دون تجاوزه إلى غيره من أسئلة الشرّ ونجيب عنه بعقل بارد رغم ارتفاع حرارة الدم والتهاب الآلام المحيطة بنا.
و أنّ الله تعالى نزع خصلة الشرّ من نفوس البشر فكانوا جميعًا على درجة واحدة من النّقاء والطّيبة والسّلام والأمان؛ فما معنى الحياة إذن؟ وما قيمة خلق الإنسان في هذه الدنيا إذا كان الكلّ نسخة واحدة في حقائقهم ولا تختلف إلا صورهم وأشكالهم؟
دعني أتخيّل معك أنّك مدير مدرسة تضمّ ألف طالب موزّعين على صفوف المرحلة الثانويّة، فهم مختلفون في مستويات تفكيرهم وقدراتهم، ومختلفون أيضًا في اجتهادهم ودأبهم للدراسة، ثمّ في نهاية السنة أتيت لهم جميعًا باختبار واحد من أسئلة لمستوى الصف الأول الابتدائي!!
هل تتخيّل كيف ستكون ردّة فعلهم؟ وما هي تعليقاتهم على فعلك هذا؟ وما هو شعور العموم منهم فضلًا عن شعور المجتهدين الذين سينالون في نهاية عام كامل من الدراسة الدرجة ذاتها التي سينالها الجميع دون أدنى تعب أو مشقة؟
شعوران سيتملّكان الطّلاب الذين تديرهم وتشرف عليهم وقمت باختبارهم هذا الاختبار بالغ البساطة:
الأول: فقدان المعنى؛فلا معنى للدراسة ولا المدرسة ولا التعليم الذي ناله الطلاب خلال سنة كاملة، ولا معنى للاختبار الذي لا يراعي اختلاف المستويات ويساوي بين المجتهدين وغيرهم من الكسالى والبطالين، وستكون ثمرة فقدان المعنى الإعراض عن الدراسة وفقدان قيمة المدرسة وكل ما يترتب عليها، والدخول في حالة من الإهمال التام لأيّ نوع من الدراسة وإيجاد مدرسة كاملة من الكسالى الذي لا تقوم لهم قائمة في علم أو معرفة.
الثاني: إلصاق صفة العبث بمدير المدرسة والقائمين عليها، فمثل هذا السلوك سيجعل عامة الطلاب يشعرون أن المدير غير جاد في كلّ المدرسة التي أنشأها وهذا الشعور بعبثه سيجعله محط سخرية الجميع بلا استثناء فضلًا عن سقوط مكانته من نفوسهم.
والآن دعني أقول لك يا صديق: لو أنّ الله تعالى نزع خصلة الشرّ من نفوس البشر فكانوا جميعًا على درجة واحدة من النّقاء والطّيبة والسّلام والأمان؛ فما معنى الحياة إذن؟ وما قيمة خلق الإنسان في هذه الدنيا إذا كان الكلّ نسخة واحدة في حقائقهم ولا تختلف إلا صورهم وأشكالهم؟ كيف سيشعر الإنسان بمعنى الخير إذا غاب الشرّ؟ وكيف سيرى جمال النفوس إن لم يعرف صورة قبحها؟ وكيف سيشعر الإنسان بمعنى العدل إن لم يعرف ما هو الظلم أو معناه أو صوره أصلًا؟
إنّ معاني الخير والجمال والرحمة والعدل والفرح والسعادة لا يمكن أن تُعرف إلا بوجود أضدادها من الشرّ والقبح والظلم والحزن والألم، ووجود الأضداد هو الذي يعطي المفاهيم المختلفة قيمتها، ويعبر عن هذا المعنى الشاعر دوقلة المنبجي في قوله:
فالوجهُ مثل الصُّبحِ مُبْيَضُّ
والشَّعرُ مثل اللّيلِ مُسْوَدُّ
ضِدّانِ لمّا استُجمِعَا حَسُنَا
والضّدُّ يُظهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ
وكذلك يعبّرُ عنه المتنبي إذ يقول:
مَن يَظلِمُ اللُؤَماءَ في تَكليفِهِم
أَن يُصبِحوا وَهُمُ لَهُ أَكفاءُ
وَنَذيمُهُم وَبِهِم عَرَفنا فَضلَهُ
وَبِضِدِّها تَتَبَيَّنُ الأَشياءُ
والأمر الثاني الذي سيكون فيما لو خُلق البشر جميعًا منزوعي الشرّ من نفوسهم هو وصف خلقهم بالعبث، وقد تنزه ربنا جل وعلا عن العبث، فإنّ خلق الناس منزوعي الشر من نفوسهم ثم اختبارهم سيكون مظهرًا من مظاهر العبث التي تنزه عنه ربنا تبارك وتعالى إذ ما قيمة الاختبار حينئذ؟! ولئن قلت لي: يخلقهم منزوعي الشرّ ولا يختبرهم؛ فسأقول لك: خلق البشر منزوعي الشرّ وعدم اختبارهم هو تكرار لخلق صنف ملائكيّ فلا قيمة إضافيّة عندئذٍ من خلق البشر وعدم وجود قيمة إضافية من خلقهم تختلف عن خلق الملائكة هو من ضروب العبث الذي يتنزه عنه ربنا تبارك وتعالى فلو أنّه لحق بفعله تعالى العبث لما كان إلهًا.
إنّ خلق نزعة الشرّ في البشر جاءت لتجعل للحياة معنى من خلال وضوح التّضاد بين الخير والشر والحق والباطل، ولتجعل للاختبار معنى من خلال التدافع بين الخير والشر والحق والباطل
ثمّ تعال معي أيها الصديق العزيز لنرى أنّ الله تعالى قد بيّن لنا أنّ وجود المعنى هو غايةٌ من خلق الناس مختلفين في طبائعهم وسلوكياتهم، إذ يقول ربنا تبارك وتعالى في سورة هود: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ”
ففي الآيتين بيان واضح أنّ الله تعالى خلق الناس مختلفين في نوازعهم وطبائعهم وأنّه خلقهم على هذه الحال ليتبين منهم من يستحق رحمة الله تعالى ومن يستحق عذابه بناء على اختبار اختيارهم لما في نفوسهم من نزعات الخير أو الشرّ، وإلا فإنّ رحمته وعذابه دون خلقهم على هذه الصفة سيكون فيه ظلم كبير وقد جلّ ربنا تبارك وتعالى وتنزه عن الظلم.
يقول العلامة محمد أبو زهرة في “زهرة التفاسير” في تعليقاته على الآيات: “أي: أن الله تعالى خلق الناس متنازعين في الخير والشر، ولا يهتدي إلى الخير إلا الخلصاء الأطهار، ولذلك خلق الناس مختلفين لتبين الصفوة، ولتصل إلى الخير في وسط أشواك من الباطل فيكون لهم فضل الجهاد في الوصول إلى الحق”.
وقد جلّى الشهيد سيد قطب في الظلال هذا المعنى بلغته الرشيقة وعباراته التي تلامس العقل والروح معًا فقال في تعلقه على الآيات: “لو شاء الله لخلق الناس كلهم على نسق واحد، وباستعداد واحد؛ نسخًا مكرورة لا تفاوت بينها ولا تنويع فيها، وهذه ليست طبيعة هذه الحياة المقدرة على هذه الأرض، وليست طبيعة هذا المخلوق البشري الذي استخلفه الله في الأرض.
ولقد شاء الله أن تتنوع استعدادات هذا المخلوق واتجاهاته، وأن يوهب القدرة على حرية الاتجاه. وأن يختار هو طريقه، ويحمل تبعة الاختيار، ويجازى على اختياره للهدى أو للضلال.. هكذا اقتضت سنة الله وجرت مشيئته؛ فالذي يختار الهدى كالذي يختار الضلال سواء في أنه تصرف حسب سنة الله في خلقه، ووفق مشيئته في أن يكون لهذا المخلوق أن يختار، وأن يلقى جزاء منهجه الذي اختار”
إنّ خلق نزعة الشرّ في البشر جاءت لتجعل للحياة معنى من خلال وضوح التّضاد بين الخير والشر والحق والباطل، ولتجعل للاختبار معنى من خلال التدافع بين الخير والشر والحق والباطل، ومن خلال اختيارنا الانحياز إلى الخير والحق أو الشرّ والباطل، والبشر يتمايزون في اختياراتهم وفي إجاباتهم على الاختبارات “وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ” “وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ”.