المقالات

خصائص الحضارة الإسلامية (7)

أولًا: ربانية المنهج والتوجه – الجزء الخامس

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..

بيّنا في إحدى المقالات السابقة أن الهدف من خلق آدم عليه السلام إعمار الأرض، واهتمام الإسلام بإعمار الأرض متلازم مع تحقيق العبودية لله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (سورة الذاريات: 56)، والعبودية لله تعالى بمفهومها الإسلامي أن نخلص كل أعمالنا لله تعالى وفق ما جاءت به الشريعة الإسلامية: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (سورة الأنعام: 162).

فنحن مأمورون شرعا بإعمار الأرض؛ يقول الله تعالى: {۞ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود: 61). وفي تفسير قوله تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) ذكر القرطبي تفسيره عن زيد بن أسلم: “أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن، وغرس أشجار”، وقيل: “المعنى ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها”، قال ابن العربي قال بعض علماء الشافعية: الاستعمار طلب العمارة، والطلب المطلق من الله تعالى على الوجوب، قال القاضي أبو بكر: “تأتي كلمة استفعل في لسان العرب على معان، منها: استفعل بمعنى طلب الفعل”. وبهذا تكون استفعل بمعنى: افعل.

ومتى يحدث الفساد؟! عندما تغيب القيم والأخلاق وتغلب الماديات وهي نتيجة طبيعية وحتمية ولا تحتاج إلى حسبة رياضية، ولذا حارب الإسلام الفساد بأنواعه وحذر من عاقبة الفساد والمفسدين

ولقد اهتم الإسلام بالإعمار سواء البناء والعمران أو الغرس والزراعة كما أعطى أولوية لبناء الإنسان وغرس القيم؛ لأنه بدون ذلك لا يكتمل عمران الأرض، يقول الشاعر أحمد شوقي في قصائد مختلفة:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت * فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

صلاح أمرك للأخلاق مرجعه * فقوّم النفس بالأخلاق تستقم

إذا أصيب القوم في أخلاقهم * فأقم عليهم مأتما وعويلا

ويقول الشاعر معروف الرصافي:

هي الأخلاقُ تنبتُ كالنبات * إذا سقيت بماء المكرماتِ

وليس النبت ينبت في جنانٍ **** كمثل النبت ينبت في الفَلاة

وليس ربيبُ عالية المزايا **** كمثل ربيب سافلة الصفات

وعكس العمران الفساد والذي يؤدي إلى الدمار والهلاك، ومتى يحدث الفساد؟! عندما تغيب القيم والأخلاق وتغلب الماديات وهي نتيجة طبيعية وحتمية ولا تحتاج إلى حسبة رياضية، ولذا حارب الإسلام الفساد بأنواعه وحذر من عاقبة الفساد والمفسدين، يقول الله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (سورة الأعراف: 56)، وقال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (البقرة: 205).

الواضح من الآيات السابقة أن الإسلام أعطى أولية كبرى لمحاربة الفساد حتى لا ينهار المجتمع من داخله، فما جدوى من مجتمع فيه العمران شامخ يتطاول عنان السماء ويتقلب الناس فيه بشتى أنواع الطيبات لكنه يحمل في جنباته عوامل الهدم والانهيار، تسلطت عليه فئة عاثت في الأرض فسادًا وتسللت إليه الأمراض الاجتماعية من كل حدب وصوب، فهذا نبي الله صالح ذكر لقومه ما هم عليه من إتقان في العمران وتميزهم فى ذلك: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} ولكنه حذرهم من عاقبة الإفساد في الأرض: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (الأعراف: 74).

إن مثل هذه المجتمعات التي لا توجد بها عدالة اجتماعية ويحكمها الاستبداد مجتمعات مآلها الهلاك والدمار وإن ملكت القوة المادية وتطاولت في العمران

وهذا نبي الله شعيب: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (هود: 85)، يدعو قومه إلى بعض القيم الاجتماعية والاقتصادية ويحذرهم من عاقبة الإفساد فكان جوابهم: {… أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ …} (هود: من الآية 87). أما عاد، قوم هود؛ فامتلكوا مقومات المدنية وبالغوا في العمران وذكرهم القرآن بأنهم ذات البنايات المرتفعة الضخمة التي لم يخلق مثلها في الأمم السابقة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} (الفجر: 6-7-8)، وهذا نبيهم هود يقول لهم كما جاء في القرآن الكريم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ 128وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ 130} (من سورة الشعراء).

إسراف في البناء وتبذير وتعالٍ على الآخرين فكانوا يبنون في الأماكن المرتفعة ذات الإطلالات من باب التفاخر والتعالي على الآخرين كما أنهم أسرفوا في بناء القصور المتقنة البناء والتي فوق الحاجة كأنهم مخلدون في الأرض، والواضح أن هناك طبقية في المجتمع؛ فعلية القوم يملكون المال والسيادة وبقية المجتمع لا يمتلك مقومات الحياة بل يعيش مضطهدا ذليلا: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}.

إن مثل هذه المجتمعات التي لا توجد بها عدالة اجتماعية ويحكمها الاستبداد مجتمعات مآلها الهلاك والدمار وإن ملكت القوة المادية وتطاولت في العمران، ونختم بقول الشاعر بشار بن برد:

متى يبلغ البنيان يوما تمامه؟!

*** إذا كنت تَبنيهِ وَغَيرك يهدم

أ. سعيد بن ناصر الطنيجي

مهتم بالتاريخ الإسلامي وحاصل على درجة الماجستير فيه، خريج كلية الآداب والتربية من جامعة الإمارات العربية المتحدة مشرف على عدة مراكز تحفيظ القرآن الكريم، وعضو مؤسس في جمعية الإصلاح الإماراتية ومديراً لها.

أ. سعيد بن ناصر الطنيجي

مهتم بالتاريخ الإسلامي وحاصل على درجة الماجستير فيه، خريج كلية الآداب والتربية من جامعة الإمارات… المزيد »

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى