أفكار الكبارالمقالات

الجماعة الوظيفية ومعاداة اليهود

ورد مصطلح الجماعة الوظيفية في موسوعة المسيري عام 1975قبل أن يفرد له كتابًا كاملًا بعنوان (الجماعات الوظيفية اليهودية: نموذج تفسيري جديد)([1])
وكان المسيري أول من أطلق هذا المصطلح على جماعة مهاجرة ضعيفة لجأت إلى دولة أخرى، أو جماعة تربطها وظيفة تجعلها تتقوقع على نفسها وتتحول  إلى كتلة تستفيد منها النخب الحاكمة كأدوات تستخدمها في أغراض شتى، فهي عبارة عن مجموعة بشرية غير منسجمة مع المجتمع، غريبة عنه، تجندها النخب الحاكمة لأداء وظائف لا يمكن لأفراد المجتمع القيام بها من قبيل الربا والبغاء، أو حراسة الحكام والمسؤولين. ثم يعرّف أعضاء هذه الجماعة في ضوء وظيفتهم المحددة لا في ضوء إنسانيتهم المركبة. ويمتد مفهوم المصطلح ليتناول أيضًا مفهوم الدولة الوظيفية التي تخدم مشاريع دول عظمى، ومثال ذلك إنشاء الكيان الصهيوني الوظيفي من قبل الاستعمار الغربي وغرسه في فلسطين ليقوم بأدوار عديدة تخدم الراعي مقابل الدعم وضمان الاستمرار، فعلاقة الكيان بالإمبريالية الراعية لا تختلف في جوهرها عن علاقة الجماعات الوظيفية بالنخب الحاكمة التي جندتها.

وقد بيّن المسيري أنه استخدم في موسوعته ذائعة الصيت ثلاثة نماذج تحليلية هي الحلولية والعلمانية الشاملة والجماعات الوظيفية. ويبدو أن الاسم الذي اختاره المسيري في البداية هو (المتعاقدون الغرباء) ثم بدا له أن مصطلح الجماعة الوظيفية هو الأنسب.

وقد وظّف المسيري هذا المصطلح لتفسير ظواهر عديدة تتعلق باليهود والصهيونية من بينها:

  1. ظاهرة الجيتو([2]) والاستيطان.
  2. ظاهرة الدولة الصهيونية ونشأتها.
  3. تصاعد معدل الحلولية بين أعضاء الجماعة اليهودية.
  4. ظاهرة العداء لليهود أو العداء للسامية.

فالجماعات الوظيفية اليهودية في بلدان أوربا تألفت من أقليات مهاجرة وظفتها أحزاب أو تيارات شتى للقيام بأعمال تتوهم أنها من أجل صهيون (حلم العودة للوطن، حلم بناء وطن) فانغمست في أعمال مشينة تعتبرها وسيلة لأجل غاية سامية فتتحول الجماعة بمجمليها إلى وسيلة (حوسلة الجماعة)

ولكيلا يحصر المسيري هذا المصطلح باليهود فقد أورد في الموسوعة نماذج أخرى مختلفة من الجماعات الوظيفية

نماذج الجماعات الوظيفية 

 النموذج الأول في إندونيسيا حيث كانت النخبة الحاكمة هولندية مسيحية وكانت الجماهير إما مسلمة أو وثنية والجماعات الوظيفية التي كانت تلعب دور الوساطة التجارية كانت صينية كونفوشيوسية

النموذج الثاني في جنوب إفريقيا حيث كانت النخبة الحاكمة إنجليزية مسيحية، والجماهير سوداء وثنية، والجماعة الوسطية هندية.

النموذج الثالث في أوكرانيا التي كانت تتبع بولندا حيث كانت النخبة الحاكمة بولندية كاثوليكية، والجماهير أوكرانية أرثوذكسية، والجماعة الوسطية يهودية اليديشية وكان يهود بولندا هم أغلب يهود العالم في أواخر القرن الثامن عشر.

كانت هذه الجماعات تجمع ثروات طائلة، كما كانت النخب الحاكمة تستخدمها في حربها مع الشعب أثناء الصراعات، أي أنهم كانوا بمثابة عصا الحاكم، فإذا زادت الهجمات الشعبية ورجحت كفتها تحولت العصا إلى كبش الفداء، لأن النخب الحاكمة أو الدولة تلجأ إلى أدوات أخرى

دور الجماعة الوظيفية في معاداة اليهود

معاداة اليهود أو السامية هو شكلٌ من أشكال عداء الأقليات والأجانب، عداء الآخر المختلف، وهو أمرٌ نجده غالبًا في كل المجتمعات باعتباره صفة كامنة في النفس البشرية التي تتوحش أحيانًا حينما لا يقنع البشر بأرزاقهم ويطمعون في أملاك الآخرين، فيجدون الأجانبَ أو الأقليات الضعيفة هدفًا سهلًا كونهم غير محصنين مثل أفراد المجتمع الأصيل. لكن هذه الرغبات تكون حبيسة النفس يقمعها الدين أو العرف المجتمعي أو القانون، وقد تظهر هنا وهناك مواقف فردية ضيقة.

ويساهم الاختلاف الثقافي أو الديني أو العرفي أو الاجتماعي في تفاقم العزلة وتفاقم الكراهية بين المجتمع المضيف والغرباء، وفي بعض الأحيان تطفو الدوافع الكامنة على السطح وتنتقل من كونها مواقف فردية نادرة إلى ظاهرة اجتماعية كاسحة، الأمر الذي تحقّق في مسألة معاداة اليهود بانتقالها من الحالة الفردية إلى الجماعية كظاهرة.

واستخدم المسيري نموذج الجماعات الوظيفية في تفسير ذلك، فالجماعات اليهودية في العالم الغربي كانت وظيفتها وسيطة تقوم بوظائف شنيعة، حيث كان غالبية يهود العالم تقطن أوربا وخاصة في بولندا حتى نهاية القرن الثامن عشر، فكانت هذه الجماعات تجمع ثروات طائلة، كما كانت النخب الحاكمة تستخدمها في حربها مع الشعب أثناء الصراعات، أي أنهم كانوا بمثابة عصا الحاكم، فإذا زادت الهجمات الشعبية ورجحت كفتها تحولت العصا إلى كبش الفداء، لأن النخب الحاكمة أو الدولة تلجأ إلى أدوات أخرى تقوم مقام الجماعة الوظيفية التي باتت تشكل عبئًا ثقيلًا عليها إذ زادت نقمة الجماهير عليها نتيجة تحصيلها لثروات طائلة في حين يقبع المجتمع تحت نير الجور والفقر.

ويذكر المسيري عوامل أخرى فاقمت من نقمة البولنديين على اليهود وهي

  1. كان أعضاء الجماعات اليهودية يتحدثون اليديشية.
  2.  كانوا موالين للثقافة الألمانية، الأعداء التقليديين للبولنديين.
  3.  تضاعف أعداد اليهود في بولندا وانفجارهم السكاني.
  4.  اضطلاع اليهود بوظيفة جمع الضرائب.
  5.  البروز الاقتصادي الفاحش للجماعات اليهودية مقابل تفشي الفقر في المجتمع.
  6.  ظهور أجهزة قومية وطبقات من المجتمع كبديل عن الجماعة اليهودية الوظيفية.
  7.  عدم مشاركة أعضاء الجماعة اليهودية بشكل فعال في الحركة الوطنية البولندية.

كل هذه العوامل كانت السبب في بروز معاداة اليهود في بولندا وروسيا وانتشارها في بلدان أخرى، والتفكير بتهجيرهم إلى أرض أخرى يمارسون وظيفتهم الجديدة عليها بعيدًا عن المجتمع الأوربي الناقم.

والجماعة اليهودية الوظيفية قد تكون سياسية تمارس عملًا سياسيًا على أرض الدولة المضيفة تتعلق بآمال العودة للوطن الأم وبتبوء مناصب سياسية هناك، وهذه الجماعة إذ تحرص على استمراريتها بتقوية الأواصر بين أفرادها ونبذ من يتخطى عتبة اليقظة أو محاولة الانصهار في الواقع المفروض فإنها تتغذى في الوقت نفسه على الطاجن الوظيفي السياسي حتى تحول أهدافها السياسية إلى أهمية الاجتماع الدوري والتحلّق حول مائدة الطاجن بقطع لحم كبيرة.

هناك دائماً إمكانية أن تدرك جماعةٌ ما في ظرف ما أنها على وشك أن تتحول إلى وظيفية، وقد تستغلها جهات أو حكومات لتنفيذ مآربها، ويقودها هذا الإدراك إلى أن تستغل نفسها بنفسها وتمارس فعاليات شتى تبعدها عن الاستغلالية.

الطاجن الوظيفي

يروي المسيري أن جماعةً وظيفية امتهنت إدمان المخدرات، وكانت لها شعائرها وسماتها المحددة، واعتاد أعضاؤها على تناول طاجن بقطع لحم مع مزيج من الحشيش، فالطاجن المشبع بالحشيش يزودهم بما يكفيهم من المخدر ويساعدهم على نقل المخدر للآخرين عبر (الشيشة)، ويذكر المسيري أنّ هذا الطاجن هو طعام يلتئم عليه شمل الجماعة ويقوي الأواصر بينهم فهو يعني التضامن، وهو يعني أيضًا إدمانهم وتعلقهم بهذا الطعام لضمان استمرارهم، فهو يعني الوطن البديل.

 فإن كان الطاجن يقوي العلاقات فيما بينهم فإنه يفككها مع المجتمع المحيط أو المجتمع المضيف، والطاجن هو الولاء والانتماء، والطاجن يشبه أيضًا عملية الخصي، ويشبه الرواتب العالية التي يتقاضاها الموظفون من المنظمات الدولية أو الأجنبية أو الأنظمة الحاكمة، فهؤلاء يدمنون نمطًا معينًا من الحياة هو طاجنهم، وبعد قليل يفقدون الإرادة الحرة المستقلة، وهي عملية تشبهه الخصي، وينقادون خلف وليّ نعمتهم وينفذون أوامره دون تلكؤ.

 إنّ الطاجن مثل الخصي يسلب الإرادة الحرة.

أو صهيون في المخيال  والوهم اليهودي المستقبلي.

أو الرواتب المرتفعة التي تنشئ نمطًا مرتفعًا للمعيشة.

 وكلها آليات للعزل عن المجتمع وتقوية التضامن من الداخل.

وأمام هذه الصور المختلفة للطاجن ترى ما هي طبيعة الطاجن الذي استساغته وألفته وأدمنته جماعات شتى على طريق الثورات إلى أن انتهت علاقتها بالثورات لتعيش ضمن إطار طاجنها الوظيفي الخاص بقطع لحم بشرية كبيرة؟

وحتى لا ينصرف الذهن إلى الانطباع السلبي عن الجماعة الوظيفية فإن هناك دائماً إمكانية أن تدرك جماعةٌ ما في ظرف ما أنها على وشك أن تتحول إلى وظيفية، وقد تستغلها جهات أو حكومات لتنفيذ مآربها، ويقودها هذا الإدراك إلى أن تستغل نفسها بنفسها وتمارس فعاليات شتى تبعدها عن الاستغلالية.

وتقع المسؤولية هنا على عاتق النخب الواعية التي يجب أن تتنبه لأمر الجماعة، وتحاول إنقاذها وتوجيهها بما يخدم مصالحها سواء في المجتمع المضيف أو ما يتعلق بمصالحها في الوطن حين يتسنى لها العودة يومًا ما.

وإذا قدر لها أن تنجو من الاستغلالية والوقوع في شرك التوظيف، وباتت توظف نفسها لنفسها، وتخدم مصالحها فهل سينطبق عليها مصطلح الجماعة الوظيفية؟ أم علينا حينها أن نبحث عن مصطلحٍ آخر يرقى إلى ما رقت إليه؟


[1]  المسيري د. عبد الوهاب، الجماعات الوظيفية اليهودية: نموذج تفسيري جديد، دار الشروق- 2002، القاهرة

[2]  الجيتو اليهودي، ميلٌ إلى العزلة عن المجتمع والعيش في جيوب معزولة ناجمٌ عن الشعور بالتفرد والفوقية ودونية الآخر.

أ. عماد كوسا

كاتب روائي وقصصي وناشط في مجال العمل الشبابي والمجتمعي.

أ. عماد كوسا

كاتب روائي وقصصي وناشط في مجال العمل الشبابي والمجتمعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى