المقالات

خصائص الحضارة الإسلامية (6)

ربانية المنهج والتوجه – الجزء الرابع

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبي الرحمة،
فى المقال السابق كنا معكم فى رحلة خلق آدم عليه السلام من منظور قرآني، واليوم نستعرض معًا مبتدأ الخلقة البشرية من خلال الدراسات المعاصرة والتى تحاول جاهدة إثبات نظرية التطور والارتقاء والتى تزعم أن أصل البشر من القردة (فصيلة الشامبانزي) حيث كان هناك تحورٌ قبل ثمانية ملايين سنة وأن هذا التحور أعقبه تحورات عدة ليوصلنا إلى الإنسان الحديث، والذي ظهر قبل أربعين ألف سنة.
إن المتعمق لمثل لهذه الدراسات يجد أنها كلها دراسات تؤمن بنظرية التطور والارتقاء (نظرية داروين) فهي تحاول أن تسوق الشواهد والأدلة التي تدلل على صحة هذه النظرية، إنها استنتاجات وشواهد لا ترقى لأن تكون أدلة علمية ولا شك أن غياب المتخصصين من المسلمين فى مثل هذه المواقع من الدراسات المهمة أتاح لهؤلاء القوم أن يوهموا العالم بصحة هذه النظرية وبطلان ما جاءت به الكتب السماوية.

وتغيرت نظرة الإنسان لنفسه، فبما أنه من أصل حيواني، فمع البهيمة سواء بسواء، فلا بد له من أن يطلق لشهواته ورغباته عنانها دون أن يضبطها بقيد أو شرط، وبهذا أصبح حيوان الأصل والنشأة وحيوان الاستمتاع والشهوة

إن نظرية داروين وأخواتها من النظريات الأخرى كعلم الاجتماع أو التربية هو الذي شكل الفكر البشري المعاصر ليضع تصورًا وسلوكًا وفق هذه النظريات مبتعدًا ابتعادًا كليًا عما جاءت به الديانات السماوية من تصور؛ فلا غرابة أن تتنكر الحضارة المعاصرة لله تعالى وما تبقى من قيم في الديانة المسيحية. إن المسلمين اليوم يتحملون كامل المسؤولية أمام هذا الانفلات الفكري والسلوكي للبشرية وبُعدها عن الله ومنهجه، وما ذهب إليه أصحاب نظرية التطور والارتقاء في القول بأن الإنسان ينتمي إلى فصيلة القرود وأنه نتاج مجموعة تحورات بدأت من الخلية الأولى وانتهت بهذا الإنسان؛ إن ذلك أوجد تصورًا جديدًا في العلاقة مع الله والكون مما دفعهم بالقول بأنه لا إله لهذا الكون فكفروا بالله وجحدوا به واسترهبوا الآخرين وأنكروا علاقتهم بالأديان السماوية حتى قال قائلهم: “إن الدين أفيون الشعوب”، وتغيرت نظرة الإنسان لنفسه، فبما أنه من أصل حيواني، فمع البهيمة سواء بسواء، فلا بد له من أن يطلق لشهواته ورغباته عنانها دون أن يضبطها بقيد أو شرط، وبهذا أصبح حيوان الأصل والنشأة وحيوان الاستمتاع والشهوة، فلا غرابة من بعد ذلك في هذا الانفلات الفكري والانحطاط السلوكي: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (الفرقان: 44)، {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179).
نعم قبِل الإنسان لنفسه أن يهبط إلى مراتع البهيمة بعد أن أكرمه الله ورفع مرتبته عالية لتسمو به فى علوٍّ ورفعة عن المخلوقات الأخرى، لكنه انتكس وارتكس فأصبح كالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ مَعروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكَرًا، إلا ما أُشْرِبَ من هَواه.
إن نتاج التبعية التى تعيشها الأمة المسلمة اليوم سطرت نظرية داروين فى مناهجنا التعليمية ليصيب أبناؤنا حالة من الرهبة والتناقض بين ما يقرؤه في محكم التنزيل وما يجده فى مناهج التعليم؛ إنه خلل كبير في التصور والاعتقاد.
ويبقى سؤال قد يطرحه البعض: هل الإسلام مع البحث العلمي أم ضده فى معرفة حقيقة أصل النشأة؟
 إن الشواهد في القرآن كثيرة، تلك التي تدعو إلى البحث ومعرفة أصل النشأة والخلقة، ومن هذه الآيات قول الله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت: 20)، في هذه الآية القرآنية توجيه عام فى البحث فى بدء خلق الكون والمخلوقات؛ حيث لم تأتِ نصوص قرآنية قطعية تتكلم عن كيفية بدء النشأة وإنما إشارات فى مواضع مختلفة في القرآن كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: 30). {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۗ وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ} (هود: 7).
أمّا ما كان في أمر آدم عليه السلام فجاء النص القرآني قطعيا واضحا جليا لا لبس فيه أن الله هو الذى خلق آدم مباشرة دون تحور أو غيره كما فصلنا ذلك في مقال سابق.
أما القول أن هناك مخلوقات وجدت على الأرض شبيهة بالإنسان فهذا أمر وارد ولا يتعارض مع النصوص القرآنية ولربما لعلماء التفسير أقوال في ذلك، فقد ذكر سبط ابن الجوزي في كتابه [مرآة الزمان في تاريخ الأعيان] وبذيله (ذيل مرآة الزمان) روى مجاهد عن ابن عباس قال: “كان بالأرض أمم قبل آدم”، وقال الجوهري: “الحن حي من الجن، قال: ويقال الحن خلق بين الإنسان والجن”. روى مقاتل عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: “أول من سكن الأرض أمة يقال لهم: الحن والبن” انتهى.
إن ما ينتظر الأمة اليوم أمر بالغ الأهمية من إنقاذ البشرية من هذا الغلو والبعد عن الله ومنهجه، إن البشرية أحوج ما تكون إلى رسالة الإسلام لتؤوب إلى رشدها وتصطلح مع خالقها فتسعد في الدنيا والآخرة، والله الهادي إلى سواء السبيل.

أ. سعيد بن ناصر الطنيجي

مهتم بالتاريخ الإسلامي وحاصل على درجة الماجستير فيه، خريج كلية الآداب والتربية من جامعة الإمارات العربية المتحدة مشرف على عدة مراكز تحفيظ القرآن الكريم، وعضو مؤسس في جمعية الإصلاح الإماراتية ومديراً لها.

أ. سعيد بن ناصر الطنيجي

مهتم بالتاريخ الإسلامي وحاصل على درجة الماجستير فيه، خريج كلية الآداب والتربية من جامعة الإمارات… المزيد »

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى