المقالات

اللغة العربيّة بوابة للحفاظ على الهويّة العربية والإسلامية.. محاذير ومنهجيّات

إن مفهوم الهويّة أعمّ من أن يُحصَر باللغة، فتجلّيات الهويّة أوسع وأكبر مما يرتبط باللغة فحسب، لكن مما لا شكّ فيه أنّه لا هويّة بغير لغة، فحضور التجليّات الأخرى للهويّة وغياب اللغة يعني غياباً حقيقياً للهوية، ويعني ضعفها وعدم قدرتها على مواجهة سيل الهويّات الأخرى، لا سيما أننا نعيش في عصر تتنافس فيه الهويات الأخرى لفرض نفسها وحضورها بقوة أكبر من غيرها، فلا مكان للهويّة الضعيفة السائلة لأنها ستغيب في الآخر في نهاية المطاف مهما قاومت، ولن تكتسب أي هوية صلابتها بغير قوة اللغة والخطاب، لذا يجب أن تحضر اللغة العربية بوصفها سمة عامة للمجتمع العربيّ والإسلاميّ، لا بوصفها مادة تعليميّة وأداة للتواصل فحسب.

محاذير.. وصرخة نذير
لا بد لنا من التعامل بجدية مع واقع اللغة العربية بوصفها مرتكزاً أساسياً من مرتكزات الهوية العربية، لا سيما في عصر العولمة، فانتشار كثير من الصور النمطية عن تراجع اللغة العربية إزاء اللغات الأجنبية بوصفها الأقدر على الإحاطة بمفردات التقدم العلمي والتقني؛ أمرٌ خطير وذو أبعاد سلبية، لأنه يجعل اللغة في عيون أبنائها في درجة ثانوية، فيؤدي بالضرورة إلى تراجع في التقدير وشعور بخيبة أمل تجاه الانتماء إلى الهوية العربية.
وبالنظر إلى الجانب المشرق فيما يخص لغتنا العربية وارتباطها بهويتنا؛ فإننا ندرك أن الأخطار لن تحدق بالهوية العربية ما دام أبناؤها على درجة من الوعي والإحاطة بالظروف والمساعي المحيطة بهم، وما داموا في سعي دائم نحو الحفاظ عليها، وترسيخ مكوناتها وتعزيز أهميتها في الجيل الجديد، مع تحقيق الموازنة بين الثبات والانتماء والاطلاع على ثقافة الآخر ومكونات هويته، والقدرة على المحاكمة السليمة لتحديد مدى قرب هوية الآخر أو بعدها ومدى تناسبها مع هويتنا أو اختلافها، ليكتسب المرء وعياً عميقاً بأهمية التزامه بهويته ودفاعه عنها، ويكون قادراً على الإفادة من الآخر بدون انسياق وتبعية، محفوفاً بأصالة تحميه من الوقوع في فخ الوهم القائم على تفوق الآخر والشعور بالعجز عن اللحاق به والاعتقاد باستحالة السبق والتفوق عليه.
ولا بد لنا من التفريق بين الثابت والمتغير في عناصر الهوية وجزئياتها، فاللغة محدد ثقافي غير قابل للعبث، والحضارة الإنسانية التي تختص بأي أمة من الأمم حصيلة التراكم المعرفي والثقافي لها، ولا بد للحفاظ عليها من الانطلاق من الثوابت المعرفية وتسخير الإمكانيات المتوفرة لتطوير الواقع المعاش وتحسينه.

أمّا اليوم فتُفرض الهويّات الأخرى فرضاً ناعماً وتتسلل إلى مجتمعاتنا بانسياب مدروس، مرتدية قناع المثاقفة والانفتاح الحضاريّ. هذه الخدعة التي تلبس لبوس الانفتاح الحضاريّ على الثقافات الأخرى

منهجيّات وآليّات
إن أي بيئة عربية اليوم لا تجعل اللغة العربية حاضرة في واقعها؛ مهددة بزعزعة الشعور نحو انتمائها وأصالتها، ويؤسفنا ما نراه في كثير من البلاد العربية من تقهقر استعمال اللغة العربية في كثير من مرافقها في الشوارع والمؤسسات، وفي بعض البيوت أيضاً! وما نراه من استبدال الإنكليزية بالعربية، إذ لا تسمع من العربية غير بقايا يسيرة، وتطرق آذانك رطانة غربية تطغى على المكان فتثير ريبة في مدى متانة هويته وانتمائه!
وإذا أردنا أن نتعرّف إلى المنهجيّات اللازمة لجعل اللغة العربيّة عماداً للحفاظ على الهويّة؛ فإنّنا نلحظ أنّ أيّ تراث إنسانيّ ثقافي لأيّ مجتمع من المجتمعات له جانبان رئيسان؛ الأول هو التراث الملموس ويتجلّى في الماديّات القائمة من المدن والمؤسسات والمدارس والأسواق والمتاجر وغيرها، والجانب الثاني هو غير الملموس، ويشمل المعتقدات والأفكار واللغات والعادات والتقاليد، وهذا التراث الثقافي للمجتمع هو الذي يصنع الذاكرة الحية العامة لكلٍّ من الفرد والمجتمع، وهذه الذّاكرة لا يمكن صناعتها وإنتاجها وترسيخها وتثبيتها وتعميمها إلا بوساطة اللغة؛ فلا ثقافة عامة من غير لغة حيّة، ولا ذاكرة حيّة من غير لغة راسخة ومرنة في الوقت نفسه.
وهذا يقتضي أن تكون منهجيّة التعامل مع اللغة العربيّة، لتكون مرتكزاً للحفاظ على الهويّة؛ قائمة على الحضور في هذين الجانبين؛ ففي الجانب المادي الملموس لا بدّ أن تحضر اللغة العربيّة بشكل رئيس في المعاملات والشؤون الرسمية وفي الأسواق والمتاجر والطرقات، وذلك في اختيار أسمائها وكتابة اللوحات التعريفيّة، فيكون البصر في تعرّف العربية واعتيادها معانقاً لها أينما اتجه وأينما التفت في مختلف الأمكنة، فهذه الطريقة تجعل اللغة العربيّة حاضرة في العقل الجمعيّ، وكذلك في الجانب غير المادي فإنّ اللغة العربيّة ينبغي أن تكون الحاضر الرئيس في مراحل التعليم كلها وفي أسلوب التخاطب المدرسيّ والجامعي، وأن تكون لغة الاجتماعات والمؤتمرات المختلفة، وأن تكون لغة الإعلام بشتى أشكاله؛ لغة المذيعين والمذيعات ولغة برامج الأطفال ولغة الدراما من مسلسلات وأفلام، فهذا هو السبيل الأقرب لتكون اللغة العربيّة سمة عامة للمجتمع العربي والإسلامي، ويجب أن تخرج من الصورة النمطية التي حُصرت بها بوصفها لغة النخبة، فمن المخاطر الكبيرة المحدقة التي تهدد حضور اللغة العربية أن تنسحب من الفضاء العام إلى الفضاء النخبوي الخاص.
في أيام مضت من مواجهة الاحتلال ومقاومته فوق ترابنا سعى المحتل إلى فرض هويّته ومحو الهويّة العربيّة الإسلاميّة، وذلك من خلال فرض لغته في المدارس وجعلها لغة للحياة والواقع المعاش، ففُرضت الفرنسيّة في الكثير من الدول العربيّة الإسلاميّة، لا سيما الإفريقيّة منها، وكذلك فُرضت الإنكليزيّة، والهدف من ذلك تغييب اللغة العربيّة التي يسهم غيابها باضمحلال الهويّة العربيّة والإسلاميّة وانحسارها عن المجتمع.
أمّا اليوم فتُفرض الهويّات الأخرى فرضاً ناعماً وتتسلل إلى مجتمعاتنا بانسياب مدروس، مرتدية قناع المثاقفة والانفتاح الحضاريّ. هذه الخدعة التي تلبس لبوس الانفتاح الحضاريّ على الثقافات الأخرى، وهو أمر مطلوب بدون شكّ؛ تُنفَّذ عن طريق اللافتات المبهرة والشعارات البراقة التي تسعى إلى تغييب اللغة العربية وإقناع الأجيال بضرورة فرض اللغة الأجنبيّة بوصفها لغة الحضارة والعلم والتطور، فالمسألة في ظاهرها انفتاح حضاريّ وفي حقيقتها طمس حضاريّ لهويّتنا العربية والإسلامية، وذلك لتصدير هويات أخرى وتعزيز مكانتها لدينا تحت ستار العولمة.
إنّ التفاعل الحضاريّ أمر ضروريّ في الحياة البشريّة لتحقيق التعارف الذي أمر به ربنا تبارك وتعالى في قوله في سورة الحجرات: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾، لكنه يجب أن يكون على أرض صلبة من الانتماء إلى هوية واضحة المعالم محكمة الأواصر، وحضور اللغة بقوة في هذا التفاعل طبيعي بل أساسي، وغيابها أو تغييبها تحت ستار التفاعل الحضاريّ أو الانبهار بالآخر ما هو إلا مدخل لانسلاخ كلٍّ من الفرد والمجتمع عن هويته العربيّة والإسلاميّة.
ينبغي اليوم على كل حريص على هويته وانتمائه أن يستصرخ القائمين على المؤسسات العامة في الدول العربية التي تهيمن فيها الرطانة الغربية، ليستنفروا لوضع سياسات وقوانين واضحة في ميادين التربية والتعليم والإعلام، لجعل اللغة العربية اللغة الأُولى والأَولى لتجري سلسةً عذبةً على الألسنة، فتولّد بدورها مشاعر الاعتزاز بالانتماء في ظل الهزيمة النفسية التي تعيشها الأجيال حالياً، فإننا إن لم نسعَ لتدارك أنفسنا اليوم فسنكون هشيماً تذروه رياح الآخرين غداً.

د. إيناس بوبس

أستاذة جامعية وكاتبة متخصصة بالأدب والنقد ومعنيّة بقضايا اللغة العربية والمجتمع

د. إيناس بوبس

أستاذة جامعية وكاتبة متخصصة بالأدب والنقد ومعنيّة بقضايا اللغة العربية والمجتمع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى