التحليل القرآني لظاهرة الطغيان
لقد جاء الإسلام في صلب دعوته ثورةً جذرية وقطيعةً أبدية مع الاستبداد والوصاية على أبدان البشر، فأسقط الحكم بالحقِّ الإلهي وهو ما يصطلح عليه في الثقافة الغربية “الثيوقراطية” عندما ردَّ الأمر شورى بين المسلمين فقال تعالى {وأمرهم شورى بينهم} الشورى/38 وبذلك أسند أمر السلطة إلى الجماعة وليس بحق المُلْكِ والوراثة ولا بالتعيين الإلهيِّ للحاكم.
وكذلك كان الإسلام ثورةً على الوصاية الروحية عندما ألغى الواسطة الروحية بين الربِّ و”رجال الدين” وغدا التعبدُ والدعاءُ وطلب المغفرةِ علاقةً مباشرةً بدون واسطة دينية تتشفع للإنسان من أجل نيل الغفران على الذنوب، وقد تجلى هذا المعنى في قوله تعالى {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} البقرة/186، حيث يقرر القرآن أن العلاقة بين العبد والرب هي علاقة مباشرةٌ لا وساطة فيها لأحد حتى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي قوله تعالى {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر} الغاشية/22 يؤكد تعالى للنبي ﷺ أنَّك بعثت إلى الناس مذكِّراً ولم تبعث مسيطرًا عليهم، مسلطًا موكلًا بأعمالهم، فإذا قمت بما عليك، فلا عليك بعد ذلك لوم، كقوله تعالى {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} ق/45 [1] وهنا يبدو أن سورة الغاشية تتناول نفي السيطرة الروحيةِ في الإكراه على الإيمان، وسورة “ق” تتناول السيطرة المادية التي تنفي التجبرَ الماديَّ وهو كذلك إرشاد للنبي صلى الله عليه وسلم ليسلك مع من يدعوهم سلوك التربية والدعوة وليس البغي والطغيان لأنَّ السيطرة والتجبر يمكن أن يخضعا الأجساد بالإكراه المادي لكن القلوب لا تخضع ولا تخشع للإسلام إلا بالاقتناع وصِدق الإيمان، وهنا مَلحظٌ مهم على أن العنف في نشر الأفكار والقيم يولد النفاق والانتهازيين الذين يتحوطون بالطاغية ويزينون له كل ما يشتهي من الهوى.
التشخيص القرآني للطغيان
في جانب التشخيص يبدو أن ظاهرة الطغيان تتسم بالشّمول للكثير من جوانب الحياة ولا تقتصر على الجانب السياسي كما يشيع الاستعمال، ومن أخطر آثاره أنَّ الطغيان يحوِّل العلاقة بين البشر إلى علاقةِ عبوديةٍ بالمعنى الديني للخضوع والائتمار.
1. هل الطغيان يقتصر على الجانب السياسي؟
إذا عدنا إلى معاجم العربية، فإننا سنجد أن المادة “طغى” تدل على مجاوزة الحد في المعصية أو في شيء قبيح، قال ابن فارس: طغى السيل جاء بماء كثير، واستشهد بقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} الحاقة /11. وشرحه بقوله: يريد – والله أعلم – خروجَه عن المقدار يعني المقدار المعهود من المد والطوفان. [2]
ويؤكد ابن منظور ذلك، ويتوسع في سَوْقِ الأمثلة، وكان مما ذكره قوله: طغى أي جاوز القدر، وغلا في الكفر، وفي حديث وهب: إنَّ للعلم طغياناً كطغيان المال، أي يحمل صاحبه على الترخص بما اشتبه منه إلى ما لا يحل له، ويترفع به على من دونه، ولا يعطيه حقه بالعمل به كما يفعل ربُّ المال، وكل مجاوزِ حدٍّ في العصيان طاغ [3] وبذلك يتبين لنا أنَّ الطغيان سلوك شامل لكل أنوع البغي وتجاوز الحد المعقول سواء أكان في السلطة السياسية أو في التصرف بالمال كما في الظاهرة القارونية، أو الطغيان الاجتماعي والأخلاقي كما في ظاهرة قوم لوط، أو حتى الطغيان المادي كما في ظاهرة الحديث عن بني إسرائيل في القرآن الكريم، وقد يكون الطغيان باسم الدين كالفعل الذي يمارسه البعضُ من حيث استتباع المريدين لأفكار الشيوخ حتى لو كانوا على باطلٍ والحكم بعصمتهم وهم بشر يصيبون ويخطئون، والغلو ببعض الأفكار والأحكام والأشخاص والتكفير على الفروع والمختلف فيه من الشريعة، وجَذرُ كلِّ هذه الظواهر هو حالة من النرجسية النفسية الباطنية التي تتولد في نفس الطاغية نتيجةً لغياب التزكية فتتمرد الصفات الشبعية الوحشية ويربو الإعجاب بالنفس والرأي والاغترار بالقوة والمِكْنَةِ فتدفع الإنسان للتصرف على كل من هم تحت ولايته بدون أن يراعي حداً للشرع ولا زاجراً من الفطرة والعقل .
ويتحدث ابن خلدون عن الطغيان السياسي المتمثل بالمُلْك الطبيعي بعد مقارنةٍ بين الخلافة والمُلْكِ فيقول “وأنَّ المُلْكَ الطّبيعيَّ هو حملُ الكافّةِ على مقتضى الغرضِ والْشَّهوةِ” يعني لا يرشده دِينٌ ولا عقل فيقع بالظلم والطغيان بدافعٍ من الشهوة والمصلحة الخاصة للطاغية “والْسِّيَاسِيُّ هو حمل الكافَّةِ على مقتضى النّظرِ العقلي في جلب المصالحِ الدُّنيوية، ودفعِ المضَارِّ الدنيوية “وهو وإن كان أخفَّ شراً من المُلك الطبيعي لكنه كذلك مذمومٌ لأنه نظَرٌ بغير نورٍ من الله ثم يذكر” الخلافةُ وهي حملُ الكافَّةِ على مقتضِى النّظَرِ الْشَّرْعِي في مصالحهم الأخْرَويَّةِ وَالْدُّنْيَويَّةِ الْرَّاجعةِ إليها” [4] وهي مجردة من الطغيان والظلم لأنها تلتزم بشرع الله.
2. الطغيان سلوك يضاهي صفات الألوهية والربوبية
لقد كانت فكرة الموت والحياة هي الحجة الدامغة التي كشفت زيف طغيان النمرود وادعائه الألوهية
إنَّ جذر السلبية الكامنة في صفة الطغيان أنَّها صفةٌ تنطوي على محاكاة بعض صفات الألوهية والربوبية وقد جاء في الحديث القدسي “قَالَ اللَّه عزَّ وجلَّ: العِزُّ إِزاري، والكِبْرياءُ رِدَائِي، فَمَنْ يُنَازعُني في واحدٍ منهُما فقَدْ عذَّبتُه” [5]رواه مسلم. وهو ما يعني أن الطغاة يتسربلون بسرابيل من صفات الله تعالى وهي لا تليق بهم، وهذا المتسربل يمكن أن يتعدى مسألة الصفات النفسية والخُلُقية إلى ادعاء الألوهية صراحةً كما تُظهر ذلك المناظرةُ التي يقصها علينا القرآن الكريم بين خليل الله إبراهيم عليه السلام وبين النمرود الذي كان يدَّعي الألوهية، قال تعالى {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإنا الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب فبهت الذي كفر} البقرة/258 لقد كانت فكرة الموت والحياة هي الحجة الدامغة التي كشفت زيف طغيان النمرود وادعائه الألوهية لكنَّ النمرود مارس المغالطة المنطقية والتَفَّ على الحجة بأن جاء بسجينين فقتل أحدهما وعفى عن الآخر ليقول لإبراهيم عليه السلام ها أنا قد أحييت وأمت وهنا رماه إبراهيم عليه السلام بالحجة الدامغة وهي التصرف بالكون والتحكم بحركة الشمس، طالما أنه إله فيجب أن يكون قادراً على التصرف بملكه، وهنا سقطت أردية الوهم عن النمرود ولم يجد ما يَرُدُّ به على إبراهيم إلا الإرهاب ليفرض سطوته على من يملكهم فأمر بإشعال النيران لإحراقه بعد أن كشف كذبه أمام الأتباع . [6]
وكذلك كانت الظاهرة الفرعونية في القرآن الكريم سيرةً دامغة على تولُّد ادعاء الألوهية والربوبية من مكنون صفات التجبر والطغيان فقد واجه فرعون دعوة سيدنا موسى عليه السلام بما فيها من لين القول وتبجيل المكانة وإقامة البرهان الإعجازي والحجاجي بالكبر والصَلَف وإعلان الحرب على موسى وربه وبني إسرائيل خوفاً على ملكه وسلطانه وقال كما يقص عنه القرآن الكريم {وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين} القصص/38 وكما تبينه الآية فإن فرعون لما أُلقم الحجة طلب من وزيره هامان أن يبني له صرحاً حتى ينازل الله تعالى بالحرب والقتال [7]
وهكذا كانت ظاهرة ادعاء الطغاة عامةً في كل الحضارات القديمة من الفرس إلى بابل إلى الروم، أما في هذا العصر فيمكن القول أنَّ ادعاء الألوهية اختفى، لكنَّ سلوك التألُه لايزال طاغيا في تصرفات المستبدين من التعالي والكبر، حتى أعطى ابن هانئ لأحد الخلفاء الأندلسيين حقوقاً لا يختص به إلا الله في قوله:
ما شِئتَ لا ما شاءَتِ الأقْدارُ * فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ[8]
وهكذا يحدد القرآن الكريم شرطي الاستمساك بالعروة الوثقى وهما الكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله تعالى، ثم الإيمان بالله.. وهما ركني البراء والولاء وهما ركني الشهادة، ففي قولنا “لا إله” ركنُ السلب أي سلب صفة الألوهية عن كل المخلوقات والأشياء التي تدعي الألوهية، وفي ركن “إلا الله” هو حصر كل صفات الألوهية بالله تعالى { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم } البقرة /256 والطاغوت هو كل ما عُبد من دون الله تعالى، وقيل كل ما يُطغي الإنسانَ ووزن فاعول من الطغيان زيدت التاء فيه بدلا من لام الفعل كقولهم حانوت وتابوت فالتاء فيها مبدلة من هاء التأنيث [9]
الوقاية القرآنية من الطغيان
إنَّ فلسفة القرآن الإصلاحيةَ لكل المظاهر السلوكية السلبية تنطلق من جذور الظاهرة وعمقها النفسي، ولا تنتظر استفحالها لتبدأ معالجتها، وأول خطوات الإصلاح هي أن يحفَّ النفسَ بسور من التحوطات الأخلاقية التي تمنعنا من الإصابة بالمرض حتى لا نضطر للعلاج.
إنْ كان مردُّك أيها الإنسان إلى الله، مفارقاً كل ما متعك الله به في الدنيا من جاه ومال وسلطة وعشيرة فإنَّ طغيانك بهذا الوهم لهو محض اغترار منك وغفلة عن المآل والمنقلب
1. الصيانة النفسية من وهم مشاعر الاستغناء
نجدُ أنَّ القرآن الكريم في معالجته لظاهرة الطغيان يركز على الوقاية لمنع تشكل هذه الظاهرة السلوكية أصلاً، وبالتالي يصون السلامة النفسية من التخلق بخلق الاستبداد ومن خلق تقبل الطغيان وعدم الشعور بالنكارة النفسية والكره الداخلي لِترفٍ يدلُّ على الطغيان، وهنا يركِّز القرآن على الجوانب التربوية الاجتماعية التي من الممكن أن تتسرب منها العدوى للنفس البشرية التي تمتلك قابليةً للطغيان كما ذكر تعالى {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى} العلق/6-8 ، وهنا يتضح أنَّ الطغيان في التشكل النفسي الجواني للإنسان قائمٌ على فكرة متوهَّمة وليس على حقيقةٍ راسخة وهي توهم الاستغناء بمتاع الدنيا، فلم يقل تعالى “إذ استغنى” وإنما قال “أن رآه استغنى” أي أن تخيل من نفسه الاستغناء وذلك لأن الإنسان يستحيل أن يستغني في حال من الأحوال حتى لو ملك الدنيا بأسرها لأن هذا التملك هو تملك مجازي وليس حقيقياً، ولابد للموت أن يفرِّق بينه وبين ما يظنُّ أنَّه يمتلكه لذلك جاءت الآية التي تليها لتذكِّر الإنسان بهذه الحقيقة اليقينية التي لا يمكن أن ينكرها عاقل وهي قوله “إن إلى ربك الرجعى” والمعنى هاهنا إنْ كان مردُّك أيها الإنسان إلى الله، مفارقاً كل ما متعك الله به في الدنيا من جاه ومال وسلطة وعشيرة فإنَّ طغيانك بهذا الوهم لهو محض اغترار منك وغفلة عن المآل والمنقلب وهو أسلوب تربوي عميق في القرآن الكريم لمعالجة جذور الظاهرة .
2. التحصن النفسي بالجماعة المؤمنة من الركون للجماعة الطاغية
ومن الأساليب الوقائية عدم الركون للظالمين والطغاة فإن الطباع معدية، كما أنَّ الأخلاق تتسرب إلى النفس البشرية من جلسائها كم جاء في قوله تعالى:{ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير* ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون } هود/112-113 ولم يكتفي البيان القرآنيُّ بالأمر بالاستقامة والنهي عن الطغيان وإنما عطف عليها بأمر آخر وهو عدم الركون للظالمين، لأنَّ المسببَ الرئيس لتسرب خُلُقِ الطغيان إلى النفس البشرية هو تَأثُّرُ الإنسان بجليسه والركون إليه، كما جاء عند بعض المفسرين بأنَّه مجرد الميل اليسير إلى الظالم [10] وهناك ملحظ جميل في الآية وهو عندما أمر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالاستقامة حضَّه على الاستقامة ضمن الجماعة المؤمنة لتشدَّ من أزر بعضها البعض وهنا يتَّسقُ النصُّ القرآني، فعندما نهاه عن الركون إلى الظالمين تضمن الأمرُ الركونَ إلى أهل العدل والتقوى من شبيه قوله تعالى:{ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} الكهف/28
العلاج القرآني لظاهرة الطغيان
إنَّ الكثير من البشر لا يرتدعُ عن الشر لمجرد التحذير الخطابي والوعظ النفسي الذي يستهدف المشاعرَ والقلبَ ولا يدرك شرَّ بعضِ المظاهرِ الاجتماعية السلبية حتى يصطليَ بنارِها ويكتوي بحمَّى فسادها وحتى تصل آثارُها إلى دائرة إحساسه الخاص، فيتأهب لمواجهة خطرها بعد أن تستفحل، ومع ذلك لا تقف التدابير الإصلاحية في القرآن عند حد الوقاية وإنما تتعداها عند الاضطرار إلى العلاج حتى لو كان قاسياً فالتعرضُ للمظاهرِ السلبية يعطي للمجتمع المسلم مناعة ذاتيةً ويزوده بأدوات المقاومة بعد أن تعرَّف على مخاطرِ الطغيان وما يتولد عنه من الفساد العام، ويسلك القرآن في سبيل ذلك مسلكان، مسلك العلاج التربوي للفرد ومسلك العلاج الاجتماعي للجماعة .
1. مسلك العلاج التربوي
الطغيان هو نتيجةُ اختلالٍ في توازن الشخصية وضعف العناية التربوية والمجاهدات النفسية التي يُولِّدُ ضعفها في الإنسان جموحاً نحو اقتناص الشهوات بدون مراعاة لروادع الشرع والأخلاق فيقع من ذلك شرٌّ عظيم في الدنيا والآخرة لذلك جاء الوعظ القرآني مخاطباً أعماق النفس البشرية حول مصير الطغاة في الآخرة فقال تعالى {فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى} النازعات/٣٧ – ٤١
وهنا يلازم القرآن الكريم بين حبِّ الدنيا _رأس الخطايا ومنبع الفجور والانحراف_ وبين الطغيان، فإنَّ القلب إذا غفل عن مخافة الله تعالى تصبحُ زمامه بيد النفس الأمَّارة بالسوء والتي تجعله لاهثاً وراء حب الدنيا، والدنيا هي مزيج من الشهوات الخادعة من المال والسلطة والجاه.
2. مسلك العلاج الاجتماعي:
إنَّ الطغيان هو علاقة بين طرفين، بين طاغ يمارس الصلف والكبر والظلم والعدوان وبين مطغي عليه يقع عليه الظلم والتكبر والعدوان وهو لا يتولد في الفراغ، كما أنَّه لا يلزم أن يكون الطاغية شخصاً بعينه وإنَّما فئةً كبيرةً متعصبة، فقد نهى القرآن الكريم عن الطغيان بصيغة الجمع كما في قوله تعالى {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير} هود/ 112 وهو ما يشير إلى واجب اجتماعي على أُولي الأحلام والنهى لمدافعة الطغيان ومقاومته فهو مبدأ الشرور الذي ينتهي بالهلاك.
ويحذِّر القرآنُ الكريم مما يتولد عن الطغيان من مظاهر الشرور والفساد، وأن تكاثر الفساد مؤذنٌ بزوال الحضارات وهلاك الأمم كما يروي القرآن الكريم عن الكثير من الأمم البائدة معيداً أسبابَ الهلاك للفساد والطغيان، ولا يمكن مواجهة الفساد بدون الحد من جموح الطغاة وبغيهم كما حكى القرآن عن قوم فرعون {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ *الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ *فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ١٤} الفجر/10-14. وهنا يؤكد القرآن الكريم على دور المجتمع في مواجهة أسباب الفساد من خلال آليةِ المدافعةِ الجماعية والنهي عن المنكر الاجتماعي وعدم الاكتفاء بعلاج مظاهره، والوقوف على السبب الجذري للفساد في الأرض وهو الطغيان بمفهومه العام، لأنه يقضي على حالة التوازن بين أفراد المجتمع ويحصر الثروة والقوة والسلطة بيد فئة قليلة فيتولد من ذلك شر عظيم.
من الواضح أنَّ التحليل القرآني لظاهرة الطغيان يعيدها إلى جذورها النفسية والأخلاقية، ولا يتعامل معها كمجرد ظاهرة سلوكية منفصلة عن التكوين النفسي والبعد التربوي، ولا يقصرها على الجانب السياسي وهي الصورة الأوضحُ للطغيان
ختاماً، من الواضح أنَّ التحليل القرآني لظاهرة الطغيان يعيدها إلى جذورها النفسية والأخلاقية، ولا يتعامل معها كمجرد ظاهرة سلوكية منفصلة عن التكوين النفسي والبعد التربوي، ولا يقصرها على الجانب السياسي وهي الصورة الأوضحُ للطغيان، لكن رغم ذلك فهي ليست إلا رأس جبل الجليد الظاهر فوق الماء، بينما في العمق هناك جذورٌ نفسيةٌ واجتماعية وأخلاقية هي التي تولِّد الظاهرة وتعيد إنتاجها في المتجمع رغم كل محاولات مواجهتها، لأنَّ المواجهة دائما ما تنحصر في مواجهة العَرَضِ دون أصل الداء والمرض، لذلك نجد البيان القرآني يعالج الظاهرة من عمقها وجذورها بأسلوب الوقاية النفسية والتحصين الإيماني للفرد ضمن الجماعة المؤمنة، ومواجهة هذه الظاهرة بالمدافعة والمقاومة بحسب القدرة والإمكان للحفاظ على السلامة الاجتماعية من البغي والعدوان من خلال المنظومة الأخلاقية والقيَميِّة التي تؤمن بها الجماعة، وتولِّد حالةَ المقاومة الذاتية ضد أي مرض اجتماعي قد يصيب المجتمع، وهو ما يُكسب المجتمعَ المزيد من المناعة النفسية والاجتماعية لمقاومة الطغيان بعد أن اكتوى بناره وعاين من فساده ما عاين، لأنَّ من عادة الطغاة أنهم لا يرتدعون بمجرّد الوعظ بعد أن قست قلوبهم وأغلقت آذانهم عن سماع الحق، وحين تَفْسُدُ طباعُ أفراد المجتمع وتنتكس فطرتهم فإنهم يتأقلمون مع الطغيان، ويشعرون دائما بالحاجة إلى الطاغية ليضبطهم، فهم لم يتعودوا على العيش في مساحة من الحرية والكرامة، فألِفُوا الذل والهوان كما كانت حالة بني إسرائيل بعد أن أخرجهم موسى عليه السلام من طغيان فرعون فعادوا بعدها مباشرة لاتباع السامري وعبادة العجل .
[1] القرآن الكريم تفسير سورة الغاشية تفسير: لست عليهم بمصيطر، الغاشية: 22 تفسير السعدي .
[2] . معجم مقاييس اللغة مادة (طغى).
[3] . لسان العرب مادة (طغى).
[4] ابن خلدون، المقدمة، الجزء الأول تحقيق عبد الله محمد الدرويش الطبعة 1 دار يعرب، دمشق ، 2004 م ، الفصل الخامسة والعشرين في معنى الخلافة والإمامة ص 365
[5] . مسلم / 2620، وأبي داود 4090 واللفظ له.
[6] . للمزيد راجع الموسوعة الشاملة للتفسير : تفسير الظلال لسيد قطب
[7] . موسوعة تفسير القرآن الكريم سورة القصص الآية رقم 38 من سورة القصص تفسير القرطبي: مضمون الآية
[8] . موقع: الديوان ” العصر العباسي ” ابن هانئ الأندلسي : من قصيدة ألا هكذا فليهد من قاد عسكرا
[9] . تفسير البغوي: مضمون الآية 256 من سورة البقرة
[10] . الزمخشري، الكشاف ص 500 تفسير سورة هود، ط الثانية دار المعرفة، عام 2005 م.